ثقافات

الانترنت ينجح مجددا بإغواء الروائيين

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

"ينفع لريح الشمال" رواية عن العلاقات الافتراضية للكاتب النمساوي دانييل جلاتور

ليندا حسين من برلين: إنه تواطؤ مع سبق الإصرار ما يدفع قارئا واقعا تحت سطوة فضول قاتل ألا يقلب الصفحات ليطلع على نهاية يتوق لمعرفتها في رواية:"ينفع لريح الشمال"Gut gegen Nordwind للروائي والصحفي النمساوي دانييل جلاتور؟ الجواب ببساطة: لأنه بمعرفة النهاية سيكون من العبث تقليب صفحات الرواية الـ 223 وقراءة مئات الإيميلات اليومية المليئة باللهفة والأسئلة والتشويق والغموض والإثارة. هذا التواطؤ هو الذي دفع بطلي الرواية "ليو" و "إيمي" إلى تأجيل لقائهما والمماطلة بموعد بشري حقيقي خارج حدود الافتراض والوهم. إنهما يؤجلان اللقاء طوال الرواية لأنهما سيتوقفان بمجرد الوصول والاكتشاف ـ هما ليسا بالنهاية سوى قارئين يبحثان عن الإثارة مؤجلين التفكير بالنهابة! هي إذا ليست سوى لعبة أسرار وغموض لقتل رتابة التفاصيل اليومية وتكرارية العلاقات وملل النهايات المتوقعة وبشاعة الوضوح الكسول للأشياء.
هي رواية مراسلات بالبريد الالكتروني. بدون أي سطر توضيحي ولا تعقيب. إنها رسائل خام. والعالم الافتراضي هنا ليس وسيلة سرد فحسب بل هو موضوع الرواية كلها. ماذا تمنح العلاقة الافتراضية لأصحابها. وماالذي تسلب منهم. كيف تستمر طوال هذه الشهور والأيام ولماذا لا يكتب لها الاستمرار. إن خيار استخدام المراسلات كتقنية سرد وكتقنية تواصل ليس بالرهان السهل. فالمراسلات ماهي إلا مسرحة للمشاعر والأفكار إذ تأخذ موقعا مشابها للمسرح بما يتطلبه الأخير من أداء تمثيلي رفيع وإمكانات مضاعفة. المراسلات تفتقر للصورة وللصوت. تفتقر لقسمات الوجه وتعبير الجسد. المراسلات هي كلمات صرفة وهذه الكلمات إما أن تكون بأعلى درجة من الحساسية والذكاء ومشحونة بأعلى ما يمكن من طاقة عاطفية وإما لا تكون! "كاتبيني إيمي.. إن الكتابة مثل القبل فقط من غير شفاه" يكتب ليو لإيمي في إحدى رسائله.
بلغة مفرطة البساطة وغاية الذكاء والرشاقة. بمقاطع شعرية عذبة وبهروب لغوي جذاب من المباشر والتقليدي واليومي نجح الروائي جلاتور بإدارة أحداث الرواية أو بالأحرى بتعطيلها! بين الشد والجذب والاندفاع والتردد والخوف من تحويل علاقة عاطفية افتراضية إلى واقع ملموس، إلى شخصيات حقيقية وملموسة!
الرواية تعالج موضوعا يوميا وحساسا وهو الهروب من الواقع إلى الافتراض. وليس بالضرورة أن يكتب لكل علاقة افتراضية عمرا طويلا. إلا أن هذه العلاقات يمكن لها أن تستفيد من نقاط قوتها. حيث تمنحك إلى ما لا نهاية صورا وتهيئات وتوقعات وأوهاما وخيالات. إنها مثل ألف ليلة وليلة. منزلق، خدعة، مقلب تشربه حتى آخر جرعة وأنت تطلب المزيد، لأنه ببساطة وعلى خلاف العلاقات الحقيقية يمنحك العالم الافتراضي مزيدا من المزيد الذي يمنحك. وهذه النقطة كانت صراع الشخصيتين الرئيسيتين طوال الرواية بين رغباتهما المتأججة باللقاء وبين رعبهما وترددهما منه. ولهذا يرفض ليو لقاء تطلبه إيمي وحين تسأله ما الذي سيخسرانه إن هما التقيا.. سيجيبها سأخسرك وأخسر نفسي ونخسر أنفسنا. إذ كانا واعيين طوال الوقت أن علاقتهما لا تحتمل الخروج من شاشة الكمبيوتر ليس بسبب العوائق الحياتية والاجتماعية فحسب. بل لأنهما مدركان أنها حياة لغوية.. حياة من كلمات.. ومثل الأسماك ستموت هذه العلاقة فور خروجها من هذا الوسط.
نقطة أخرى تميز العالم الافتراضي هو منحك فرصة أن تكون مؤلفا. حيث الكلمات المتبادلة وتواتر التواصل حيث الأكاذيب والحقائق والمبالغات والاسترسال بالشكوى والبوح ما هو إلا أدب آخر. أدب أكثر حميمية وأقرب للقلب لأنه يخصك أنت كما لا يخص كائنا آخر. وبمجرد خروجه عن هذا الخط سيفقد جاذبيته وخصوصيته ويقع مجددا في فخ التشابه.
ولإصراره على سطوة اللغة في مثل هذه العوالم. يجعل المؤلف بطليه يتعرفان ببعضهما نتيجة خطا لغوي بحرف واحد في عنوان البريد الالكتروني. هذا الخطأ سيكون نفسه السبب في فشل آخر محاولة لقاء بينها.. خطأ بحرف واحد!
نقطتين أجمع عليهما قراء ونقاد الرواية: عنوانها الرتيب وأسلوبها الرشيق والشيق. الكاتب دانييل جلاتور مواليد فيينا 1960. أصدر عدة روايات وقصص قصيرة وهو يعمل كصحفي ومؤلف. و "ينفع لريح الشمال" هي روايته الثالثة وصادرة عن دار دويتيكه فيينا 2006.
husinlinda@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف