الطليعة المفقودة: عمارة الحداثة الروسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عندما وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها، باعلان الهدنة في 11نوفمبر 1918، حاول الاوربيون مباشرة ان يسدلوا ستارا كثيفا من النسيان عن المآسي الانسانية لتى استمرت اربع سنين ونصف من معارك طاحنة وغير مسبوقة في شراستها وعنفها، ما احال معظم المدن الاوربية الى ما يشبه الخراب، مخلفة وراءها اكثر من عشرة ملايين ضحية وحوالي 21 مليون جريح. وكان من ضمن ضحاياها المدنيين العزل الذين وجدوا انفسهم لاول مرة في تاريخ الحروب في اتون العمليات العسكرية.
كان ذلك " النسيان " امرا ضرورياً، لاستعادة الاوربيين الثقة بانفسهم والشروع مرة اخرى بالاستمتاع بالكشوفات العلمية والتكنولوجية التى بدأت تغيّر من طبائع الحياة العامة وتبدل من طريقة معيشتهم وعملهم وسكناهم. وكلمة " تغيير " مع صنوها كلمة " قطيعة " كانتا من اكثرالكلمات شيوعا وتداولا حينذاك. ولم تكن " العمارة " بمعزل عن اجواء تينك الكلمتين / المفهومين بالطبع. فقد ظهرت تجمعات ومدارس عديدة تنادي " بقطع " اية صلة مع ما انجز سابقا، والتطلع بجد نحو تحقيق مساهمات " التصورات " المستقبلية لتكون شأنا " مضارعا " ، بل وذهب البعض بعيدا في هذا المجال بوضع " تابو " على مجمل الطرز المعمارية التاريخية، و "حرّموا " استخدام مفرداتها التصميمة. وكانت طروحات المعماريين الطليان لافته في هذا المعنى اذ اسسوا بما يعرف الان " بالمستقبلية " وهي مقاربة تصميمية تتجاوز اشتراطات الواقع المعاش وتصوراته عن مفهوم الفعل المعماري ليصار الى خلق "عوالم " تصميمة غارقة في فنطازيتها و خيالاتها وتقديمها كـ " اميج " ابداعي يتعين على العمارة ان تقتفي اثره. ولعل دراسات و" تصاميم " انطونيو سانت ايليا ذات التشكيلات المفعمة بالنزوات الغرائبية يمكن ان تكون مثالا لتك المقاربة. لكن ما وسم تطلعات الاوربيين الاخرين في مجال تكريس مفهوم " القطيعة " مع الطرز الماضوية هي واقعيتهم ونزوعهم لجعل الفعالية المعمارية تتصادى بشكل وبآخر مع طبيعة الظروف المستجدة لواقع ما بعد الحرب.
لقد بدء ذلك المنتج الحصيف يثير اهتماما واسعا وعميقا، منذ ان شرع المعماريون السوفيت في الستينات باعادة قراءة وتقييم له اثر التطورات العاصفة في المشهد السياسي يومذاك،التى وفرت امكانية تغيير معايير التقييم واتاحت الفرصة لمثل تلك القراءة " الثانية "، ما جعل الجهد النقدي في ذلك المجال متاحا لانظار اوساط معمارية عالمية واسعة. ولايزال الاهتمام المتعدد الجوانب بما انتج في ذلك " العقد البطولي " يثير حماسة وانظار مصممي عمارة ما بعد الحداثة ومتذوقيها. ويجد كثر من المعماريين الان في تأويلاتهم لذلك المنجز وتفسيرهم له مرجعية " لتناص " ابداعي بمقدوره ان يثري الممارسة التصميمية المعاصرة.
وتجاوبا مع الاهتمام الكبير بذلك المنجز، يسعى الان " متحف الفن الحديث " في بروكلين بنيويورك الى تنظيم معرض شامل بعنوان " الطليعة المفقودة: عمارة الحداثة السوفيتية " يضئ تلك الفترة المهمة من فترات الحداثة الاوربية ويقدم نماذج مبنية لارهاصاتها الاولى. وحدث اقامة المعرض الذي سيستمر: من 18 تموز/ يوليو ولغاية 29 تشرين الاول / اكتوبر 2007، يعتبر من الاحداث الهامة والمؤثرة في الخطاب النقدي المعماري العالمي. اذ عادة، ما تقترن مواضيع معارض " متحف الفن الحديث " بالاحداث الكبرى لصيرورات الفكر المعماري وانعطافاته المهمة. كما ان هذه المعارض تمنح شرعية الحضور والانتشار لمصطلحات تلك المقاربات المرتهنة بتلك الانعطافات الجريئة. ويذكر المتابعون للشأن المعماري على وجه الخصوص معرض سنة 1933 الذي اطلق مصطلح " العمارة الدولية "، والذي ما فتئ يعتبر من المصطلحات الشائعة في آليات النقد المعماري، ثم معرض بداية الستينات الذي " فاجأ " الوسط المعماري باحتفائه بـ " التاريخ " الذي ظل منسيا ومبعدا لاربعة عقود عن الممارسة التصميمة. وكرس معرض " النيويوركيين الخمسة " في اواخر السبعينات حضور عمارة ما بعد الحداثة في المشهد المعماري الامريكي، وغيرها من المعارض المهمة الاخرى التى حظيت ايضا بها المعمارية العراقية الاصل ذات الشهرة الدولية " زهاء حديد " باحتفاء خاص لعرض لها اقيم سابقا.
ينزع معرض " الطليعة المفقودة " الى لفت الانتباه الى ما جرى في العقد العشريني من القرن الماضي في روسيا بعد الثورة، ويركز بالطبع على المنتج المعماري لذلك " العقد الفريد " في تاريخ الحداثة المعمارية؛ نماذجها المميزة التى لم تشاهد من قبل بصورة كاملة من المتابعين، او بالاحرى من المتابعين الغربيين والامريكان منهم على وجه الخصوص. وهذا المعرض هو حصيلة عمل المصور الفوتوغرافي المحترف " ريجارد باريه " R. Pare الذي اشتغل على موضوعه " الحداثة المعمارية الروسية " لعقد كامل من السنين ( 1992-2002 ) بمعاضدة من " المركز الكندي للعمارة " في مونتريال. زار فيها ثمانية مرات مدن الاتحاد السوفياتي السابق تعقبا لتصوير نماذج تلك العمارة. وتمخضت حصيلة ذلك الجهد المميز عن تنفيذ ما يقارب عشرة آلاف صورة لمختلف مناظر تلك الابنية ذات الاهمية الاستثنائية في تاريخ عمارة الحداثة والتى قسما منها ( من المباني ) لا يزال مشغولا ويؤدي وظيفته التى انشأ من اجلها، ولكن معظمها الان، مع الاسف ، اما مهجور او متآكل او عرضة للانهيار.
ويشمل الكتاب الصادر حديثا ( 2007 ) بحثا كتبه مؤرخ العمارة " جان لوي كوهين " الاستاذ في كلية العمارة بجامعة نيويورك ، يتناول فيه اهمية ما اجترح معماريا في ضوء سياق منتج العمارة مع بقية الدول الاوربية الاخرى. وتمتاز الصور المنشورة بنوعية فنية عالية ان كان ذلك لجهة تشكيل مفردات تكويناتها او لناحية اختيار زوايا تصويرية مثيرة للاهتمام. يتعاطي المصور مع موضوعه بشكل محترف ، ويلجأ الى تصوير مبناه من نقاط نظر متنوعة فبالاضافة الى الشكل العام هناك صور واضحة للواجهات وثمة اخرى خاصة بتفاصيل عديدة له فضلا على صور لمنظره الداخلي ان امكن. ويسعى المصور من خلال صوره العديدة منح متلقيه ومشاهد " فوتوغرافه " انطباعا واضحا وشاملا عن عمارة المبنى المنفذ؛ ويتطلع لان يكون شاهدا و" معاصرا " للاجواء المفترضة التى اسهمت في نشوء وظهور تلك التحف الاستثنائية بفورماتها المميزة ولغتها التصميمة المكتنزة بحلول تصميمة قابلة لاعادة القراءة مرة اخرى، ومستعدة لفعل التأويل.
بالنسبة اليّ شخصيا، انا الدارس اكاديميا ومهنيا على يدي اولئك الاساتذة صانعي تلك العمارة ومصمميها الاكفاء، تستحضر صور الكتاب الفخيم مصائرهم التراجيدية التى وجدوا انفسهم، بغتة، في خضم صراعات طاحنة بين انصار ما يمكن ان تكون عليه الاشتراكية من احترام للتعددية والقبول بالرأي الاخر، وبين اتباع النزعات الشمولية الذين اعتقدوا بان تحقيق النظام الجديد يمكن فقط عبر سطوة الاستبداد واوهامه. كنت ارى بعضهم في مطلع الستينات، وهم مانفكوا مستمرين، بنشاط قل نظيره، في المساهمة بالعمل الاكاديمي، المجال الوحيد الذي ترك لهم ممارسته، اقابلهم واصغي الى محاضراتهم في معهدنا: معهد العمارة، وريث " فخوتيماس " الشهير، صنو " الباوهوس "، والذي في قاعاته ومراسمه نشأت وترعرت عمارة الحداثة، نماذجها المبنية وغير المبنية هي التى تقيمّ الان بمنزلة كنوز معمارية مهمة.
ربما سينقل المتلقي نظره سريعا بين الاسماء الكثيرة لمصممي عمارة المعرض الاستعادي في نيويورك لعدم مألوفيتها لديه جراء اجراءات النأي المتعمد التى مورست ضدها وغيابها التام عن انشغالات المشهد النقدي المعاصر؛ ولهذا ايضا سيكون وقع اسمائهم على مسامع قارئي الكتاب / الالبوم الصادر حديثا، غريبا وغير معتاد مثل: غريغوري بارخين،وابنه ميخائيل بارخين وفلادمير غليفريخ، ونيكولاي كولي، وميخائيل بارش، واغناتي ميلنس، وغينادي موفجان، وايفان نيكولايف وبالطبع قنسطنطين ميلنيكوف وغيرهم كثير من مبدعي "الطليعة المفقودة" وفرسانها الحقيقين؛ لكنهم بالنسبة الىّ سيظلون بمثابة شخوص قريبة عرفتهم عن قرب، وادين لهم بالكثير لانجازهم التصميمي المتفرد في المقام الاول ، ولذواتهم العارفة عالية الثقافة وتوقهم الشديد لنشر وايصال تلك المعرفة اياها: معرفة عمارة الحداثة.. الى الاخرين.
مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون