محمود درويش في حوار شامل لجريدة ها آرتس الإسرائيلية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمود درويش عشية زيارته حيفا لإلقاء أمسية فيها:
أنا غير مستعد لأبدل هويتي الفلسطينية بإسرائيلية
ما مبلغ تأثره بالحقيقة قبيل زيارته حيفا؟ كيف أثرّ فيه نبأ أن 1.200 بطاقة من 1.450 للحفل الذي سيقرأ فيه من شعره في اليوم الأحد في مدرج حيفا على الكرمل قد اُختطفت في يوم واحد؟ أيؤثر هذا الاكتظاظ في محمود درويش الذي يسكن عمان في الأعوام الأخيرة ورام الله أحياناً؟ هكذا حملت مراسلة "هآرتس" داليا كيربل تساؤلاتها إلى الشاعر الفلسطيني محمود درويش قبل زيارته إلى حيفا في مقابلة عنونتها بـ "جمالية اليأس".
"عندما تجاوزت سن الخمسين تعلمت التحكم بمشاعري"، يقول درويش، ويضيف: "أسافر إلى حيفا بلا توقعات. ثَمّ غطاء على قلبي. قد أذرف بضع دموع في قلبي لحظة لقائي الجمهور. أتوقع احتضاناً حاراً، لكنني أتخوف أيضاً أن يخيب أمل الجمهور، لأنني لا أنوي أن اقرأ كثيراً من القصائد القديمة. لا أريد أن أظهر بمظهر الوطني أو البطل أو الرمز. سأظهر كشاعر متواضع".
لكن الإجابة عن سؤال: كيف ينتقلون من رمز الروح الوطني العام الفلسطيني الى شاعر متواضع؟ يجيب درويش: "ليس الرمز موجوداً في وعيي ولا في خيالي. أجهد من أجل تحطيم مطلب الرمز وللخروج من هذه الأيقونة. لأعوض الناس أن يروني إنساناً يريد تطوير شعره وذوق قرائه. سأكون في حيفا حقيقياً. سأكون ما أنا. وسأختار قصائد ذات مستوى رفيع".
لماذا تستهين بقصائدك القديمة؟ يوضح درويش: "عندما يعلن أديب بان كتابه الأول هو الافضل يكون ذلك سيئاً. أنا أتقدم بدأب من كتاب الى كتاب. مازلت لم اقرر بعد ما الذي سأقرأه على الجمهور. لست غبياً. لن أخيب أمله. أعلم أن كثيرين يريدون أن يسمعوا شيئاً قديماً".
عامل استعارات
في صبيحة يوم الاثنين وصل درويش رام الله من عمان. مازال لا يعرف كيف سيسافر إلى حيفا، المدينة التي بدأ فيها طريقه الأدبي في الستينات، يوجد أناس كثيرون يتطوعون بنقله. في الأمسية التي تنظمها سهام داود، وهي شاعرة ومحررة مجلة "مشارف"، بمشاركة الجبهة الوطنية للمساواة، سيتكلم درويش في الحفل ويقرأ أبياتاً من 20 قصيدة. سيصحبه سمير جبران بالضرب على العود وستكون المطربة أمل مرقص عريفة الحفل. يأمل درويش أن تمكنه وزارة الدفاع من البقاء في إسرائيل نحو أسبوع؛ فإذن الدخول الذي حصل عليه يمنحه بقاء ليومين فقط.
المقابلة مع درويش جرت في المركز الثقافي المسمى باسم المربي خليل السكاكيني في رام الله، وهو مبنى فخم يشتمل على متحف، وقاعة سينما واحتفالات موسيقية، وعلى مكتب واسع أيضاً لدرويش يحرر فيه مجلته الشعرية "الكرمل". المكتبة في غرفته مليئة بالكتب بالعربية، وبينها بعض الكتب بالعبرية أيضاً.
عام 1970 سافر درويش إلى الخارج في وفد شيوعي ولم يعد. سافر إلى مصر - التي كانت آنذاك بلداً معادياً - وبعد ذلك انضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وأدار مركز أبحاث المنظمة في بيروت. إن التوقيع على اتفاقات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية فقط مكنه من العودة للزيارة بغير خطر الاعتقال. درويش أكثر هزالاً مما كان، متأنق في اللباس وبشوش. يبدو ممتازاً وأقل عمراً كمن مات موتاً سريرياً قبل ثمانية أعوام بسبب ذبحات صدرية وأعيد إلى الحياة.
"أيوجد أمل لهذا الشعب"؟ سألته ولم يجهد درويش المتشائم الكبير نفسه حتى بات يسأل أي شعب أعني؟ يجيب درويش: "حتى لو لم يوجد أمل، يجب علينا أن نوجده وأن ننشئ أملاً، نحن ضائعون بلا أمل. يجب أن ينبع الأمل من أشياء بسيطة. من روعة الطبيعة، ومن جمال الحياة، ومن هشوشتها. يمكن من آن لآخر أن ننسى الأشياء
الضرورية، ولو من أجل أن نبقي النفس صحيحة. يصعب التحدث هذه الأيام عن الأمل. يبدو هذا وكأننا نتجاهل التاريخ والواقع. وكأننا ننظر الى المستقبل مفصولاً عما يحدث الآن، لكن من أجل أن نحيا يجب أن نوجد الأمل بالقوة".
bull; كيف تفعل ذلك؟
- أنا عامل استعارات لا عامل شعارات. أنا أؤمن بقدرة الشعر، الذي يمنحني أسباباً للنظر إلى الأمام وللتعرف على بارقة أمل. قد يكون الشعر وغداً. فهو مزور ومحرف. ويستطيع أن يجعل غير الواقع واقعياً، والواقع خيالياً. يستطيع أن يبني عالماً يناقض العالم الذي نعيش فيه. أرى الشعر دواءً روحانياً. أستطيع أن أصور بالكلمات ما لا أجده في الواقع. هذا وهم كبير لكنه ايجابي. لا توجد عندي أي أداة اخرى لأجد معنى لحياتي أو لحياة شعبي. أستطيع أن أمنحهم الجمال بواسطة الكلمات وأن أصف عالماً جميلاً، وأن أعبر أيضاً عن وضعهم. قلت مرة إنني بنيت وطناً بالكلمات لشعبي ولنفسي.
bull; كتبت مرة في قصيدة "هذه الارض تضيق عنا جميعاً"، ويبدو اليوم أن الشعور بالاكتئاب والعجز أكبر مما كان دائماً؟
- الوضع اليوم هو أصعب وضع كان يمكن تخيله. الفلسطينيون هم الشعب الوحيد في العالم الذي يشعر بيقين أن اليوم أفضل مما ينتظره في الغد. فالغد ينذر دائماً بوضع أسوأ. عرفت في 1993 عشية "اتفاق اوسلو" أن الاتفاق لا يكمن فيه أي وعد بأن نبلغ سلاماً حقيقياً يقوم على استقلال الفلسطينيين وانهاء الاحتلال الإسرائيلي. رغم ذلك شعرت أن الناس جربوا الأمل. اعتقدوا أن السلام السيئ قد يكون أفضل من الحرب الناجحة. كانت هذه الأحلام مضللة. الوضع الآن أسوأ. لم توجد حواجز قبل أوسلو، ولم تنتشر المستوطنات على هذا النحو، وكان الفلسطينيون يعملون في إسرائيل.
bull; هل الاستعداد للسلام كان متبادلاً؟
- يشكو الإسرائيليون من أن الفلسطينيين لا يحبونهم. هذا أمر مضحك. يتم السلام بين دول ولا يقوم على الحب. ليس اتفاق السلام حفل زواج. أنا أتفهم كراهية الاسرائيليين. فكل إنسان طبيعي يكره العيش تحت الاحتلال. نصنع السلام قبل وبعد ذلك نمتحن مشاعر الحب أو عدم الحب. قد لا يأتي الحب أحياناً بعد صنع السلام. فالحب مسألة خاصة، ولا يمكن فرضها على الغير. أتهم الجانب الاسرائيلي بأنه لم يعبر عن استعداد لإنهاء احتلال قطاع غزة والضفة الغربية. لا يريد الشعب الفلسطيني تحرير فلسطين؛ فالفلسطينيون يريدون أن يحظوا بحياة طبيعية على 22 في المئة من المساحة التي يعتقدون أنها وطنهم. اقترح الفلسطينيون التفريق بين الوطن والدولة. وأدركوا التطور التاريخي الذي أفضى إلى الوضع الحالي، الذي يعيش فيه شعبان على الأرض وفي البلد نفسه. رغم هذا الاستعداد لم يبقَ ما يُتحدث فيه.
bull; ذكرت قطاع غزة. ما الذي تعتقده في الواقع الجديد هناك؟
- هذا وضع مأسوي. جو حرب أهلية. إن ما حدث بين أفراد "فتح" وأفراد "حماس" في غزة تعبير عن أفق مسدود. لا توجد دولة فلسطينية ولا سلطة فلسطينية. ويحارب بعضهم بعضاً على أوهام. يريد كل واحد الإمساك بزمام الحكم. كل شيء وهم. كأنما توجد دولة، وكأنما توجد حكومة، وكأنما يوجد وزير، وكأنما يوجد علم، وكأنما يوجد نشيد وطني. الكثير من الوهم ولكن لا يوجد أي مضمون. إذا وضعتِ الناس في سجن وعندما تفعلين ذلك، وقطاع غزة سجن كبير، ويكون السجناء فقراء معدمين، وعاطلين من العمل وبلا عناية طبية أساسية فستحصلين على أناس بلا أمل. يخلق هذا إحساساً كأنه طبيعي بالعنف الداخلي. فهم لا يعرفون من يحاربون. ولهذا يحاربون أنفسهم. يسمون هذا حربا أهلية. ينفجرون داخل الضغوط النفسية والاقتصادية والسياسية.
bull; أيخيفك صعود أصولية "حماس"؟
- لا يخيفني هذا من الجهة السياسية. هذا مخيف من الجهة الثقافية. يميلون إلى فرض مبادئهم على الجميع. وهم يؤمنون بالديموقراطية لمرة واحدة، وذلك من أجل الوصول إلى صناديق الاقتراع والحكم فقط. لهذا فإنهم كارثة على الديموقراطية. هذه ديموقراطية مناقضة للديموقراطية. لكن لا يمكن تجاهل "حماس" كقوة سياسية لها مؤيدون
في المجتمع الفلسطيني. الآن، والدم ساخن والجروح نازفة يصعب الحديث عن حوار. لكن إذا اعتذر أفراد "حماس" آخر الأمر عما فعلوا في غزة وصححوا نتائج المعركة في غزة فسيمكن الحديث عن حوار.
bull; أنتم تلعبون مرة اخرى لمصلحة اسرائيل التي تربح كثيراً من هذا الوضع.
- زعمت اسرائيل طوال الأعوام أنه لا يوجد من يُتحدث إليه. حتى عندما كان يوجد من يُتحدث إليه. لا يريد الإسرائيليون الانسحاب إلى حدود 1967، ولا يريدون الحديث عن حق العودة ولا عن إخلاء المستوطنات ولا عن القدس بيقين. فما الذي يُتحدث فيه إذاً؟ نحن في طريق مسدود. لا أرى نهاية لهذا النفق المظلم، ما ظلت
إسرائيل غير مستعدة للتفريق بين التاريخ وبين الأسطورة. الدول العربية مستعدة اليوم للاعتراف بإسرائيل وتتوسل أن تقبل إسرائيل المبادرة السلمية العربية التي تتحدث عن العودة إلى حدود 1967 وعن إنشاء دولة فلسطينية لا عوض الاعتراف التام بدولة إسرائيل فقط، بل علاقات تطبيع كاملة أيضاً. إذاً قولي لي أنتِ، من الذي يضيع هذه الفرصة؟ قالوا دائماً إن الفلسطينيين لم يضيعوا أي فرصة لإضاعة الفرصة. لماذا تقلد إسرائيل رفض العرب؟.
bull; هل يبدو لك إنك ستحظى في حياتك برؤية اتفاق سلام بين الشعبين؟
- لست يائساً. أنا صبور وأنتظر ثورة عميقة في وعي الإسرائيليين. العرب مستعدون لقبول إسرائيل القوية والمتسلحة بالسلاح الذري ويجب عليها فقط أن تفتح أبواب قلعتها، وأن تصنع السلام. كفوا عن الحديث عن خطى الأنبياء وعن حروب بلعام وعن قبر راحيل فهذا هو القرن الحادي والعشرين يحتاج إلى ثورة ثقافية عند الساسة في إسرائيل، ليدركوا أنه لا يمكن أن يُطلب إلى الشبان في إسرائيل أن ينتظروا الحرب المقبلة. العولمة تؤثر في الشبان، ويريد الشبان السفر وأن يعيشوا وأن يبنوا حياة خارج الجيش. إذا وجد اليأس بين الإسرائيليين أيضاً فهذه علامة حسنة. فقد يفضي اليأس إلى ضغط عام للقيادة من أجل احداث وضع جديد. أتعرفين ما الفرق بين
الجنرال والشاعر؟ الجنرال يعد في ميدان القتال كم من الموتى يوجد في جانب العدو، أما الشاعر فيعد كم من البشر الأحياء ماتوا في هذه المعركة. لا عداوة بين الموتى. يوجد عدو واحد هو الموت. الاستعارة واضحة. الموتى في الجانبين لم يعودوا أعداء.
bull; هل تريد أن تهب نفسك للنشاط السياسي كما فعل فاسلاف هافل مثلاً؟
- ربما كان هافل رئيس دولة جيداً، لكنه لا يعرف كأديب منقطع النظير. أكتب قصائد افضل كثيراً من عملي السياسي.
bull; ما الذي تنوي قوله في المناسبة في حيفا؟
- أريد أن أتحدث كيف هبط من الكرمل وكيف أصعد الآن، وأن أسأل نفسي لماذا هبط.
bull; هل تشعر بالأسى لأنك غادرت في 1970؟
- يثمر الزمن أحياناً الحِكمة. علمني التاريخ ما هو الشعور المتهكم. سأسأل دائماً سؤالا هل أنا نادم لأنني تركت في عام 1970؟ خلصت الى استنتاج أن الإجابة غير مهمة. قد يكون سؤال لماذا هبطت من الكرمل أهم؟
bull; لماذا هبطت؟
- كي أعود بعد 37 عاماً. يعني ذلك أنني لم أهبط من الكرمل في السبعين ولم أعد في 2007. كل شيء مجاز. إذا كنت الآن هنا في رام الله وفي الأسبوع المقبل على الكرمل، وأذكر أنني لم أكن هناك أربعين عاماً تقريباً، فإن الدائرة تُغلق، وهذا السفر كله الذي طال أعواماً كان مجازاً. لن نُخيف القراء. لا أنوي تحقيق حق العودة.
bull; ولو أمكن أن تعود إلى الجليل، وإلى حيفا والعائلة؟
- كنتِ شاهدة كصحافية صحبتني آنذاك على عظم مشاعري، عندما أتيت في أول زيارة عام 1996 بعد غياب 26 عاماً، وكان يفترض أن ألقى إميل حبيبي من أجل تصوير فيلم عن حياته. تأثرت وبكيت أيضاً وأردت البقاء في إسرائيل. لكنني اليوم غير مستعد لأن أتبدل بهويتي الفلسطينية هوية إسرائيلية. هذا سيحرجني فقط. معيار الحكم ذو الصلة اليوم هو ما الذي فعلته في هذه الأعوام. كتبت أفضل، وتقدمت، وتطورت وأتيت شعبي بفائدة من الجهة الأدبية.
bull; ما رأيك في النقد الذي وُجه الى التوقيت الذي اخترته لقراءة قصائدك في حيفا، في ظل الأزمة في المناطق وقضية عزمي بشارة؟
- نحن نعيش، ولا أعلم ما الصحيح وغير الصحيح. كل وقتنا وتوقيتنا غير ذي شأن. ليست هذه المرة الأولى التي أزور فيها. كنت عام 1996 وأبّنت حبيبي في الجنازة، وكنت عام 2000 وقرأت من شعري في الناصرة، وكنت في مناسبة في المدرسة التي درست فيها في كفر ياسيف. لا أستطيع أن أكون جزءاً من نزاعات هذا الحزب لذاك. أنا ضيف الجمهور العربي كله في إسرائيل، ولا أُفرق بين الحركة الإسلامية، والجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة أو حزب التجمع العربي. أنا شاعر الجميع. لا يجب علي أيضاً أن أنسى أن لي الكثير من الكارهين بين الشعراء وبين من يظنون أنفسهم شعراء. فالحسد شعور إنساني، لكن الأمر يختلف عندما يصبح كراهية. هناك من يرونني خطراً أدبياً، لكنني أنظر إليهم نظري إلى أولاد يجب عليهم أن يتمردوا على أبيهم
الروحاني. لهم الحق في قتلي، ولكن ليقتلوني في مستوى عالٍ، أي بنص.
bull; ألا تزال توجد لك علاقة بأدباء يهود إسرائيليين؟
- لي علاقة بالشاعر إسحق ليئور وبالمؤرخ أمنون راز كركوتسكين. أنا أقل قراءة بالعبرية في الأعوام العشرين الأخيرة، لكنني أهتم بعدد من الأدباء الإسرائيليين.