مناجاة الليدي مكبث
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
على غير العادة، فإنّ المناجاة الأولى في مسرحية مكبث تبادرنا بها الليدي مكبث، وليس زوجها. تكتسب هذه المناجاة أهمية أخرى لأنها تساعدنا في فهم مناجاة مكبث نفسه، في المشهد الأخير (السابع) من الفصل الأوّل:
"إذا فُعِلتْ الفعلةُ وانتهتْ، فمن الأفضل إذنْ أنْ تُنجَزَ بسرعة. ليت الآغتيال يصطاد كلّ التبعات، ويأتي نجاحي بموته. ليت هذه الضربة تكون ما سوف يكون وخاتمة كلّ شئ.. "
المعروف، كما يقول Wolfgang Clemens "أن شيكسبير يهيّئ قرّاءه ومشاهديه على عدّة مستويات، لفهم مناجياته. ففي مكبث، حتى أكثر من التراجيديات الأخرى، فإنّ ما يقال في مشهد واحد يكمّل ما يقال في مشهد آخر ويربطه به. لذا من الصعب فحص أيّ مقطع على حدة، دون فقدان التداعيات Associationsالتي هي ضرورية للفهم التام"، يقول أيضاً: "يخلق شيكسبير قبل كلّ مناجاة، سلسلة من التوقّعات والانطباعات المتناقضة، حاشداً أسئلة في أذهان القرّاء أو النظّارة" (ص 143)
حتى نقترب من فهم تلك التوقعات والانطباعات المتناقضة، لا بدّ أنْ نعود إلى مكبث نفسه، وإلى الباعث الذي دفعه إلى كتابة الرسالة إلى زوجته التي راحت تقرأها بصوت عالٍ في بداية المناجاة الاولى في أوّل ظهور لها على خشبة المسرح. لِنبدأْ من البداية.
كانت الساحرات يقفْن في طريق مكبث، وهو عائد من المعركة مؤزّراً بالنصر، وإلى جانبه القائد العسكري بانكو.
خاطبته الساحرة الأولى: "سلاماً مكبث! هنيئاً لك يا أمير "غلامس"!
وخاطبته الثانية: "سلاماً مكبث! هنيئاً لك يا أمير "كودر"!
وخاطبته الثالثة: "سلاماً مكبث! ستكون ملِكاً فيما بعد".
أمّا بالنسبة لبانكو فقد تنبأتْ له الساحرة الأولى، بأنّه سيكون "أقلّ من مكبث وأعظم". وتنبأت له الثانية بأنه "ليس سعيداً جدّاً، مع ذلك أسعد من مكبث بكثير". وتنبأت الثالثة: "ستنجب ملوكاً ولو أنك لستَ منهم".
اللقب الأوّل الذي أعطته الساحرة الأولى لمكبث، أي يا أمير غلامس، شئ طبيعي، لأنه سيؤول إليه بعد وفاة والده. ولكنْ كيف يكون أمير "كودر"، وأمير كودر "ما يزال حيّاً ورجلاً متنعماً". آحتار مكبث. احتار أكثر كيف سيكون ملكاً.
بهذه الوسيلة غرس شيكسبير، الوهمَ الأوّلَ القاتل في رأس مكبث، وسرعان ما تعاظم، لا سيّما وأنّ مكبث ما يزال في أتّون نشوة النصر. التوقيت الدقيق هذا عجّل في فوران الوهم، وراح يتجسّد وكأنّه يقين.
آتخذ الوهم ملامح اليقين أكثر حينما جاءه رسولان من الملك الذي أمرهما أن يخاطبا مكبث بأمير "كودر". صُعِق مكبث، فقال: "ما يزال أمير كودر حيّاً فلماذا تلبسونني ثياباً مستعارة؟"
أجابه الرسول: "الرجل الذي كان أمير كودر ما يزال يعيش/ إلاّ أنّ حياته محكومة بالموت/ وهو يستحقّ أن يفقدها/... فإنّ أعمال الخيانة التي آعترف بها وثبتتْ عليه قد أطاحت به".
لم تبقَ إلاّ النبوءة الثالثة. كيف سيكون ملكاً؟
***
"- أمير كمبرلند! -هذه عقبة في طريقي
إما أن أعثر بها فأكبو، أو أثب فوقها
لأنها رابضة أمامي. أيتها النجوم إحجبي أنوارك!
لا تجعلي النور يرى رغباتي السود والدفينة،
دعي العين لا ترى ما تفعل اليد. لِيقَعْ
ما تخشاه العين، ولا تراه، إلاّ بعد إنجازه"
في الأبيات أعلاه ظهرت بشكلٍ أوّلي أهم ثيمات المسرحية. شبّه مكبث طموحه بالحصان الجامح، وسيتطور الطموح إلى أشبه شئ بالتهوّر أو الطيش. بكلمات أوضح الطموح خَطَر. الثيمة ألأخرى: الظلام الذي سيصبح تدريجيّاً أهم عنصر في بناء سايكولوجية المسرحية. الثيمة الثالثة، هي محاولة ردم المسافة بين النيّة والتنفيذ، الثيمة الرابعة، وهي الأهمّ فنّياً، تفكيك الحواسّ لدرجة آستقلالها عن بعضها من جهة، وحتى تقاتلها فيما بينها من جهة أخرى.بعد ذلك مباشرة، يقرّر الملك الذهاب إلى قصر مكبث، وينتهي المشهد الرابع.
يبدأ المشهد الخامس، بدخول الليدي مكبث، وهي تقرأ بصوتٍ عالٍ رسالة زوجها مكبث. (وهي بداية مناجاتها الأولى):
(تدخل الليدي مكبث وهي تقرأ رسالة)
"قابلْنني في يوم النصر، وعلمتُ من أفضل
المصادر، أنهنَ يمتلكْنَ من المعرفة أكثر مما يمتلك
البشر. وحين آشتعلتُ رغبةً في آستجوابهنّ أكثر،
جعلْنَ أنفسهنّ هواء وذبْنَ فيه. وبينما وقفتُ
منصعقا من عجب ما سمعت، فإذا برسولين يأتيان
من الملك يحيياني بلقب أمير كودر، وهو اللقب
الذي حييْنني به أخوات القدر من قبلُ، وأشرْنَ إلى
الزمن القادم فقلْنَ: "سلاماً، ستكونُ ملِكاً"!
تصوّرتُ أنّ هذه أنباء سارّة أخبرك بها، يا أعزّ
شريكة لي في العظمة، حتى لا يفوتك الفرح
المناسب، لو كنتِ جاهلةً بالعظمة الموعودة بها.
فكّري في الأمر سرّاً، ووداعاً".
أمير غلامس أنتَ، وكودر، وستكون
ما أنت موعود. -إلاّ أنني أخشى من جبلّتك
إنها ممتلئة تماماً بحليب الطيبة الإنسانية،
فلن تنتهز أقصر السبل. ولو أنك تريدُ أن تكون عظيماً
وأنّك لاتخلو من طموح، إلاّ أنّك
تخلو من الخبث الملازم له. ما تصبو إليه من مطامح
لا تريده إلاّ باستقامة. لا تريد أن تغشّ في اللعب
بيد أنّك تريد أن تكسب بالباطل. يا غلامس العظيم، تريد
ذلك الشئ الذي يصرخ بك، "أقدِمْ إنْ كنتَ تريده"،
ذلك الشئ الذي تخاف أن تفعله
أكثر مما ترغب في فعله. أسرعْ إليّ،
حتى أصبّ روحيتي في أذنك
وأعاقب بجرأةِ كلماتي
كل ما يعيقك عن التاج
الذي يبدو أنّ القدر، وعون التنبؤات كليهما
قد توّجاك به".
يبدو أنّ وهْم نبوءات الساحرات، تجذّر الآن في ذهن مكبث، لدرجة أصبح حقيقة ملموسة، بدليل قوله: "وعلمت من أفضل المصادر، أنّهنّ يمتلكْنَ من المعرفة، أكثر ممّا يعرف البشر". ما هي المصادر التي تزوّد منها مكبث بهذه المعرفة؟ أمْ أنّه، يا تُرى، أراد أن يقنع الليدي مكبث، وبذلك يُصيبها بعدوى الوهم، ليبرر أية فعلة يقوم بها ضدّ الملك في المستقبل؟ هل كان مكبث يفتّش عن شريك لآقتراف الجريمة؟
ذكر مكبث في الرسالة أعلاه أيضاً، لطمأنتها، أن رسوليْ الملك، حيياه بلقب أمير كودر. وأعاد النبوءة الثالثة:"ستكون ملكاً فيما بعد". وكأنّها من باب تحصيل الحاصل. ثُمّ خاطبها بعد ذلك مباشرة: "يا أعزّ شريكة لي في العظمة". ثمّة سرّ عميق في هذه الجملة. فكما تنبأت الساحرة الثالثة لمكبث بأنّه سيكون ملكاً فيما بعد، كذلك مكبث يأخذ الآن دور الساحرة بالنسبة لليدي مكبث فيتنبّا لها بأنها ستكون شريكة له في العظمة، أيْ أنّه إذا أصبح ملكاً فستصبح هي ملكة أيضاً. (للأسف فاتت الدلالة على جبرا إبراهيم جبرا فترجمها: "يا أعزّ رفيقة لي"، ولكن "رفيقة" لا توحي بأيّ منصب مستقبلي. وترجمها بدوي: "وشريكة مجدي" وهي جملة سردية خالية من الحلم والطموح اللذين أراد مكبث أن يؤججهما في زوجته). نجح مكبث في دسيسته لزوجته. وكما انه ما من شئ سيقف في وجهه ليحقّق نبوءة الساحرة ويكون ملِكاً، كذلك الليدي مكبث ستقوم بكل جريمة من أجل أن تحقّق نبوءة زوجها مكبث لها، وتتسنّم العرش.
ختم مكبث رسالته بالقول: "فكّري في الأمر سرّاً". هذه الجملة أبعد ما تكون عن البراءة. إذا كانت المسألة مجرد إبلاغها بالأخبار السعيدة، فلماذا طلب منها أن تفكّر في الأمر، ولماذا "سرّاً". هل كان مكبث في تلك اللحظات يبيّت شيئاً شرّيراً، ويريد يداً تعينه؟ وهل ثمّة أفضل من يد زوجته؟
يظنّ Clemens أنّ الليدي مكبث " بقراءة الرسالة بصوتٍ عالٍ إنما كانت تقّدّم نفسها بصورة غير مباشرة بمناجاة عن طريق كلمات شخص آخر" (ص143). ويذكر أيضاً "أنّ بانكو كان حاضراً أيضاً عند آلتقاء هاملت بالساحرات، وقد تلقّى نبوءة قد تحول دون تحقيق ما تنبأن به لمكبث" (ص143). لماذا كتم مكبث سرّ بانكو عن زوجته؟ هل كان خائفاً من أن تفتر عزيمتها؟
لم تفترْ عزيمتها لأن مكبث أحكم سايكولوجية إيصال مكيدته، لا سيّما وأن الليدي مكبث، كما يقول غاريث لويْدْ Evans " ضئيلة بالنسبة إلى مكبث، وخاصّة حينما نقارن "خيالها" بخياله... إنها مخلوقة خالية من الحساسية والتعقيد الذهني الذي يدلّ إمّا على إرادة قوية، أو على خيالٍ حادّ". ويقول S.C.Sen Gupta:" ولأنّها معدومة الخيال، وغير قادرة على آستبطان ذاتها وفحصها، فإنها تفهم نفسها حتى أقلّ مما تفهم زوجها" (ص 66). أمّا في نصّ المناجاة فقد آبتدع شيكسبير فكرة ملائمة لتقديم شخصية مكبث، على لسان أقرب الناس إليه أي زوجته، وفي أخطر موقف، ليكون التباين بين جبلّته البريئة، وبين ما سيُقْدِم عليه من جريمة على أشُدِّهِ تأثيراً.
تقول الليدي مكبث:
"... إلاّ أنني أخشى من جبلّتك
إنها ممتلئة تماماً بحليب الطيبة الإنسانية
فلا تنتهز أقصر السبل... "
(يفسّر بعض شارحي شيكسبير: "اقصر السبل بـ "بقتل الملك")
تنتهي المناجاة بهالة التاج الذهبية على رأس مكبث:
"وأعاقب بجرأة كلماتي
كلّ ما يعيقك عن التاج
الذي يبدو أنّ القدر وعون التنبؤات كليهما
قد توّجاك به".
على هذه الصورة، يدخل رسول على الليدي مكبث، فتسأله: "ما الأخبار التي جئتَ بها؟" فيخبرها بأن الملك سيأتي إلى هنا هذه الليلة. ثمّ يدور الحوار التالي بينهما:
ــ الليدي مكبث: أنت مجنون حتى تقول ذلك.
أليس سيّدك مكبث معه؟ لو كان الأمر كما تقول،
لأرسل لنا خبراً حتى نتهيّأ
ــ الرسول: لا. عفوك، ما قلتُه صحيح: أميرنا قادم،
أحد زملائي سبقه في الوصول،
شِبْهَ ميّت لآنقطاع نَفَسِهِ
الذي لم يبقَ منه سوى أنْ يبلّغ رسالته"
ثمّ يخرج الرسول، وتبدأ الليدي مكبث بإلقاء مناجاتها الثانية، وهي أشرس ما كُتِبَ على لسان آمرأة في الأدب، كما سنرى لاحقاً.التوقيت العجيب الآخر في المقطع أعلاه، هو بينما تتحلف الليدي مكبث بكلّ ما يعيق مكبث عن التاج، يُعْلِن الرسول أن الملك قادم إليهم وعلى رأسه التاج طبعاً. ندرك على الفور كنظارة وقرّاء، مَنْ هو الذي يعيق مكبث عن التاج.
هكذا شدّنا شيكسبير لآنتظار ما سيحدث.