ثقافات

جديد نصيف فلك: تاريخ المدينة الغبارية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

صالح حسن فارس من أمستردام: (هل ترون هذا المنفلت من زمانه ومكانه، وهو يشد (قيطان) حذائه في ساحة الميدان، يتلفت مثل أبطال الافلام الاسطوريين الذين ينقذون العالم في آخر لحظة، ويتطلع إلى حوله وإلى السماء متخيلاً مئات الكاميرات تلهث وراءه وهي تصوره لحظة بلحظة). بهذه المقدمة يفتتح الكاتب العراقي "نصيف فلك" روايته ويمضي في 150 صفحة من السرد الممتع الجميل، محاولاً القبض على الزمن واسترجاع الماضي. كيف يحاول الرواي- الكاتب- الافلات من الرقابة الشديدة الصارمة والمرعبة وهل يفلح في ذلك؟! سؤال تجيب عليه رواية (خضر قد والعصر الزيتوني) التي تبدأ وتنتهي احداثها من حلم البطل في ساحة الميدان حين يشد قيطان حذائه.
تبدأ المفارقة من العنوان: خضر شخصية تعيش في الاحتمال، في اللامؤكد، واللايقين، في عصر يريد أن يفرض يقينه الأوحد على الجميع، إنه العصر الزيتوني. لا يرتبط اللون الزيتوني لدى العراقيين من جيل الكاتب، بما يحمله هذا اللون من دلالات الخصوبة أو السلام، بل ارتبط في أذهانهم بكونه لون الزي الرسمي الذي كان يرتديه رجال السلطة من حزبيين ورجال أمن.
تتحدث الرواية عن حياة شخصية "خضر قد" المتمردة الحالمة التي تعيش حالة الاغتراب ومحاولات هروبه، حيث يقوده حلمه للهروب من الجيش، وصراعه مع السلطة، ومن ثم يقررالهروب الى ايران مخلفا وراءه خراب الوطن وحبيبته بحثا عن الامن والحرية، لم يقو على البقاء هناك، ثم يعود خائبا مكسورا جراء تعامل السلطات الايرانية مع الهاربين من العراق.
وجوه وأصوات شاحبة تتداخل وتتشابك مع أحلامها وخيباتها من أجل إيقاظ الاسئلة المسكوت عنها وخرق الممنوعات السرية في واقعها القاتم التي تحيلنا إلى اجواء الرواية الشهيرة 1984. على هذا النحو ندخل أجواء الرواية التي تمكن كاتبها "نصيف فلك" منذ الوهلة الاولى اغراءنا بالدخول اليها والعيش مع ابطاله قسوة ووحشية السلطة الديكتاتورية وعقوباتها الصارمة ضد الانسان العراقي والتحكم بمصيره.
يبدو الكاتب مأسوراً بالجانب المظلم والخفي في بيوت الثورة وأزقتها الضيقة التي عرفها زقاقاً زقاقاً، حفظ الكاتب المدينة عن ظهر قلب، المدينة المغمورة بالاحزان والاسرار اللامتناهية، المدينة المنذورة للعذاب.
يكشف لنا اسماء أبطاله وأفعالهم وحماقاتهم وأحلامهم علانية وبدون خوف أو محاذير الممنوع والممتنع على حد تعبير الكاتب "علي حرب" ليصور لنا الواقع اليومي بكل تفاصيله السرية والموجعة داخل وخارج البيوت الصغيرة. نعيش معهم ونتقاسم مشاكلهم، احزانهم، عذاباتهم، واحلامهم.
الرواية اشبه بشهادة شخصية أو سيرة ذاتية للكاتب- البطل- المدينة، على لسان "خضر" الشخصية الرئيسية البسيطة العفوية والذكية، التي تعشق الادب والفن. يسرد الكاتب احداثه في لعبة ذكية جميلة تسمتد حكايتها من الحلم والواقع. ينطلق الكتاب بصرخة عالية تخترق السماء، صرخة حزينة ملونة كأحزاننا، صرخة صريحةً واضحة تسبر اغوار الروح وتمس شغاف القلب. إنها صرخة البشر القابعين في المدينة الغبارية، في محاولة لكشف المستور والممنوع واسرارهما الخفية المسكوت عنها لفترة طويلة من الزمن، والتي كانت قابعة خلف الكواليس في زمن الصمت والرعب والكوابيس ومصادرة الحريات وحقوق الانسان وحرية التعبير.
(عندي سر خطير... لا أبوح به إلا للمدير العام. حولوني من موظف إلى آخر، وكل واحد منهم يبدي اهتمامه، يتحايل عليّ لكشف السر دون فائدة ترجى مني، بقيت مصراً وحرنتُ مثل صديقي الحمار حتى دخلتُ إلى غرفة المدير العام. طبعاً كل الذين مررت بهم خمنوا نوع سري ولونه:أما يتعلق بأمر خطير يستهدف آمن الدولة أوكشف قضية تتعلق بهجوم على مبنى الاذاعة والتلفزيون. أجلسني المدير قربه الى جهة اليسار. قال: - تكلم... ماهو سرّك الخطير هذا؟
- نهضتُ ودنوتُ من وجهه وقلت:
- أنا ممثل بارع... لاتحرموا التلفزيون مني.
ضحك، نزع نظارته وهو يضحك، يتطاير من ضحكته شرر، ضيّع عليّ هندسة الغرفة وآثاثها وكنتُ لحظتها طفلاً تائهاً نسى حتى إسمه. دخل شخصان وزفوني خاج مبنى الاذاعة والتلفزيون بالشتائم والدفع والبصاق مع جملة تتكرر، كانت هي اللازمة لأغنية الطرد:
(قشمر... هذا هو سرك).
تبدأ الرواية بحلم فنتازي للبطل "خضر قد" حين يقرر الذهاب الى مبنى الاذاعة والتلفزيون لمقابلة المدير ليبوح بسره الخطير، بعد أن تندلع ثورة الغضب لدى المدير العام وحراسه، يقذف به للخارج، يصطدم البطل بالواقع المر والقاسي، وسرعان ما يجد نفسه في مدينته الغبارية، كما يسمي الكاتب "مدينة الثورة" مسقط رأسه ومركز احداث الرواية. انه تمثيل في تمثيل، هكذا يردد البطل دائماً.
بلغة يائسة مؤلمة حادة مأساوية جميلة حميمية وشفافة لا تخلو من الفنتازية، يخلق لنا الكاتب عالماً من الاحداث التراجيكومية. حلم ويقظة هذه هي لعبة الرواية. لا يتردد البطل في ان يسمي الاشياء بأسمائها. قذارة الاشياء واباحيتها، الروائح العفنه، والالفاظ النابية لتعرية السلطة، وفضح الجريمة المسكوت عنها. اجساد متفسخة في السجن وساحات الحرب. وصف هائل ومكثف لادوات وفنون التعذيب ضد الانسان في السجن والحياة. رسم الكاتب شخصياته بدقة وعناية فائقتين بسخرية لاذاعة وشديدة القسوة التي تبدأ من عزلة البطل وعالمه الفنتازي الكابوسي ووحشية السلطة التي تلاحقه اينما حلّ فلا مناص من الهروب.
الامكنة وفضاءاتها، المدينة وناسها البائسون، البيئة المغبرة، الشوارع، السجون، الاضرحة، دعاءات ونحيب الامهات، والحزن الابدي الذي لاينتهي. في المدينة الصغيرة الكبيرة بأحلامها واحزانها غاص الكاتب بعدسة الكاميرة إلى عذابات العراقيين. من قطاع 33 في مدينة الثورة ببغداد الى شمال وجنوب العراق حيث تنتهي أحداث الرواية. في كل مكان تبرز لنا الرواية وجه السلطة القذر والخفي وتنتصر للفقراء المهمشين والمجهولين، كما تظهر صورة البؤس الاجتماعي في مدينة منسية في عمق التاريخ، مدينة الثورة الحي الفقير والمهمل.
الرواية تشبه فيلماً تسيجلياً قصيراً عميقاً ومكثف الاحداث، يكشف اسرار حياة البطل- الراوي بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، واحلامه التي اودت بحياته مع حبيبته "سلامه" التي تعذر عليه اللقاء بها الا في المقابر الجماعية. كما نرى قصة البطل وعذاباته المتكررة وحظه العاثر، من سجن كبير الى سجن صغير، هروبه من العراق الى ايران، وعودته هاربا من ايران الى بلده العراق لكي يموت.
لقطات سريعة تمر علينا وكأننا نشاهد فيلم رعب لمخرج سينمائي محترف. تقنية عالية في عملية المونتاج و"الفلاش باك" وتحولاته ونقلاته الفنية السريعة. عناصر التقطيع واللقطة السريعة المعبرة بشكل دقيق. حيث يقول البطل: ( لكنه لايدرك طبعا أي فيلم هي حياتي أعيش مأخوذاً بشريط الحلم أو الوهم أكثر مما تشدني وتجرني الحقيقة الواقعة فعلا). هكذا تنتهي الرواية مع حياة البطل ويبقى اسمه رمزا يحيلنا الى الذاكرة الشعبية العميقة التي لا تفارقنا ابطالها الذين يقبعون في قاع الذاكرة مثل ابطال الافلام والروايات العالمية: (حيث أراك ومثلما أتخيلك وأنت تشد قيطان حذائك في ساحة الميدان، تسبح حولك الكامرات اللامرئية وينبض بين اضلاعك سر وجودك في اكثر من مكان بآن واحد، حيث تملك سبع ارواح وتزوغ دائما من قبضة ملك الموت. أكتب وأعيد كتابة ما كتبت، مفترضاً انك ما زلت في مكان ما تتبع أحلامك المستحيلة، وتنزلق من أيدي النهايات، ومن يدي الان).
اختفى كل شئ وطار الحلم في فضاء ذاكرة القارئ باحثاً عن خضر قد الذي غادر أزقة المدينة الغبارية، لتضيعه ظلمات ذلك العصر، العصر الزيتوني.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف