ثقافات

ثرثرة غاردينيا وبلور

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كانت ساعتها الزرقاء بنبضاتها الزمنية.. جالسة فوق الطاولة القصيرة المرابطة لسريرها المرتب بالأفرشة الحالمة.. تدق بصوت قلبي يصل الى اذني مما جعلني التفت اليها.. واصرخ بها وبعصبية شديدة.. علها تسكت.. لكن بياض وجهها وزرقة ارقامها.. واميالها المتشابكة في السير تتحداني.. وتقف بهدوء معلنة عن وجودها التاريخي المصاب بالغباء.. دقات ساعتها تعبث باذني.. وتغادرهما طائرة في الجو الى بيوت اخرى كي تلتقي بصديقاتها الزمنيات.. فليس هناك بيت يخلو من ساعة تدق في ايامه.. واكثر معاصم ايدينا يقيدها زمن محدد لحياتنا البغدادية
***
كانت شاشة (التلفاز) تبث آخر أنفاسها المسائية.. لتترك صور متروكة ومطبوعة بخاتم سحري في شاشة عقولنا التي بدأت تصاب بالعطب في اجهزتنا الدماغية.. تنظر صديقتي (غارديينا) الى التلفاز.. فتقوم من كرسيها الأسود الدوار.. مسرعة الى الشاشة.. تقلبه نحو قناة آخرى.. مطمئنة لعودة الصورة نفسها على الوجه الأخر للشاشة.. سحبت كرسيها الأسود.. فجلست عليه وفتحت خزانتها المليئة بأشياء مبعثرة.. سحبت علبة (السكائر) الخضراء.. وولاعتها الحمراء ومنفضة الرماد الحالم بخروجه من خزانتهاالى الحياة الأكثر ألقاً..أشعلت سيكارتها بولاعتها الحمراء.. فتوهجت الجمرةفي ليلنا المكثف بقصص وحكايات تدور بها شفاهنا الممتلئة.. لغة مملة.. رفعت غارديينا عيتيها المغسولتين بطبقة من الدموع.. نحو النافذة وراقبت دخانها الهارب منها الى سريره الفارغ في بيوت آخرى لا يعرف ليلهم ثرثرة مثلنا.. قالت وهي تحدثني بولع عن سفرتها الأخيرة.. رأيته واقفاً في المحل يبيع العطور. باعني عطراً.. يشبهه.. الله كم يشبه (كاظم الساهر) .. حين رفعت اجفاني كي اراه.. حدث لي شئ غريب أرجف أجفاني وأسدلها على عيني.. شئ ما.. يشبه أولى جرعات البنج.. (بلور) .. كان شيئاً جميلآ.. سفرتي كانت مليئة بالمطر.. ها.. وأنت يا (بلور) ما هي أخبارك.. وكيف حال المصاعد.. والغرفة المغلقةمعك..
صمت قليلآ.. ثم قلت لها..
ـ كان في الممر يسير أمامي.. فجأة شعرت به يسقط من أعلى البناية.. ركضت اليه كي امنعه من السقوط الموهوم.. ولكنه وصل الى غرفته واغلق الباب خلفه. دخل الى عالمه المغلق.. عالم يجعلني يجعلني أشعر كلما مررت بغرفته المغلقة.. أهم بفتحها.. كي اراه جالساً على الكرسي.. خلف المنضدة الكبيرة. تراوده احلامه بي.. وينتظر مني (صباح الخير) فأتركها على طاولته تعبث به.. بحثت عنه في الممر فلم أسمع سوى صوت أقدامه الهامسة على الأرض..
قالت غاردينا
مرة أخرى ذهبت الى بائع العطور.. وأشتريت عطراً آخر.. التقت نظراتنا واشتبكت ابتساماتنا ـ في الهواء.. سألني..
ـ ما اسمك..
قلت له
ـ غارديينا
قال لي
ـ معنى اسمك وردة بيضاء وعطرة..
قلت له..
ـ نعم.. معنى اسمي وردة..
تأملني بشئ من الحنين.. فتحت حقيبتي. اخرجت ثمن العطر.. قال لي :
ـ لا اريد مالآ.. عطري كله لك..
اطفأت سيكارتها.. وبدأت تسمعني.. قلت لها:
ـ حملت كوب الماء وسرت في الممر.. كانت اقداماً بطيئة.. تسير خلفي وصوت هادئ يتنفس قربي..
صباح الخير
(التفت نحوه.. فاجئني وجوده الصباحي السعيد.. كانت أنفاسه قريبة الي.. تعجبت منه.. فقد كان يخاف كثيراً من الاخرين.. ومني..أدرت رأسي لاتفرج على المكان الذي يحتوينا معاً فوجدته خالياُ الا من صوت المصاعد وانا وهو.. وطاولة موظفة الأستعلامات الغائبة....قال لي
ـ أنت نازلة؟
ـ نعم.
ـ تعالي معي انا أيظاً سانزل..
فتحت باب المصعد وكان فارغاً الا من ضوئه الأبيض.. سألني..
ـ في اي طابق ستنزلين..
ـ في الطابق الأرضي..
مد يده نحو الارقام المدورة.. فاشتعلت الأرقام.. رقمي وررقمه. هبط المصعد بنا.. تحسست كثافة وجوده وأدمنت لثواني خلود هذه اللحظة وهو معي.. توقف المصعد في طابق يسبق طابقي الأرضي.. ذكرني وقوف المصعد بفناء لحظتي الخالدة معه..تأملت جمود وجهه وهو يغادر فأصبت بالأرتباك..
صمت فقالت (غارديينا)
اصبحت ازور بائع العطور اربع مرات في اليوم.. بدأت اموالي تنفذ.. لأنني لا أخرج من المحل بدون قنينة عطر في يدي.. او حذاء اسود في حقيبتي.. واحياناً أشتري عقداً أبيض.. منه.. رغم اني اكره العقد الذي يدور حول الرقبة.. لكني اريد ان اطيل الوقوف معه..
ـ كم يوماً ستبقين في السليمانية؟
هكذا قال لي وفي عينيه قلق الغياب..
ـ ربما شهر..
ـ متى ستعودين الى بغداد.
ـ لا اعرف..
لم اكن اتمنى العودة.. الاجواء هناك نظيفة وباردة.. وهدوء مخيف يسود المكان. وقفت في باب المحل.. لا اريد الخروج من هناك.. لكنني خرجت حين شعرت ان آخر فلساً في جيبي قد صرف على العطور.. لم يكن بامكاني العودة الى البيت مشياً.. لكني مشيت.. وضعت. انتابتني رغبة في البكاء.. احسست بأني سأبقى النهار بأكمله أبحث عن بيت قريبتناحينذاك.. وجدت امي في احد الشوارع تبحث عني.. أوه لقد تعبت من الحديث عن بائع العطور.. ـ ـ ـ (بلور) لماذا أنت صامتة.. تحدثي..
- آه يا (غارديينا) .. كنت امسح أنفي بقطعة منديل اصفر.. قال ما به أنفك؟
- انني مزكومة..
- أذهبي الى البيت..
- أوه.. وماذا افعل في البيت..
قدم لي منديلاً وردياً وقال لي..
- امسحي أنفك لقد.. لقد اصبح شديد الاحمرار..
فجأه دقت اجراس المصاعد.. واشتعلت الأضوية المثلثة. ابتلعه المصعد الصاعد بضوئه.. وابتلعني بمصعد امامه.. كان يصعد الى مكان (ما) وكنت انزل عائدة الى بيتي.. مسحت افي بمنديله الوردي.. احتفظت بمنديله الملوث بلعابي.. في خزانتي. قالت غارديينا
ـ دخلنا ثلاثتنا انا و (آفا وسوزان ودياري..) صافح الجميع ولم يمد يده لي.. ظل واقفاً أمامي.. كانت رائحة عطره الخيالية تجبرني على الوقوف أمامه بلا حراك.. كانت تقف خلفه بشموخ وبلا مبالاة بنا.. قناني العطر الفرنسية والأنكليزية.. بترفها وجمالها النفاذ.. وضع يده البيضاء ذات الانامل القاسية.. على الخزانة الزجاجية.. المليئة بالاساور.. والحلقات الفضية.. والذهبية جميعهم ابتاعوا عطوراًالا انا.. لقد كنت مفلسة.. التفت أليً وسألني..
ـ (غارديينا) متى ستسافرون؟
ـ غداً..
ـ حين خرجت وقف امامي قرب باب المحل.. قال لي..بمودة..
ـ تعالي..
بقيت واقفة محاطة بالخروج والذهاب اليه.... نظر اليً متطلعاًالى وجهي..
- ساكون في بغداد بعد اشهر..سأدرس عصراً..لغة ما.
ـ كنت استمع اليه ولاادري ما اقول.. مد يده صافحني.. فأصبحت ندية من شدة العطر الذي غسلها.. بقيت يداي نديتان طوال طريق عودتنا من السليمانية الى بغداد. مبللة بعطره.. وكلما حاولت ان انشفها بالمنديل.. كان العطر يزداد وجوداًفتزداد رائحة يدي حلاوة.. كانت صورته تظهر في باطن يدي.. كلما سارت السيارة مسرعة بي.. (بلور) تشربين قهوة...!
- آه ذكرتني قهوتك.. بقهوته المستقرةعلى طاولته..طالما شدت انتباهي الى لونها المتناسق مع بدلته.. غرفته واسعة تحتله مع شاشة يراها هو.. ولااراها.. ففي كل مرة اقف واحدثه..يتوسطنا كرسي فارغ.. وفنجان قهوة.. يقدمها لي..
- تفضلي قهوة الصباح..
- لا..شكراً..
ثم يشرب قهوته.. وينتظر مغادرتي. كي يتفرج على افلام الشاشة.. التي يبثها تلفازه السماوي..
- آوه يا (بلور) لااحدثك عن شئ الا وتذكرينه لي.. نريد ان نشرب قهوة.. لا ان نتحدث عن رجل المصاعد..
ذهبت (غارديينا) لتضع طاولة القهوة على النار..
كان صوت غنائها البعيد يعبر جدران بيتهم الناشفة والمتأهبة.. لاستقبال نهار بلا دموع.. ولا طيران في اسعار الخبز والحياة والدولار والدينار..
حين كنت اقود سيارتي متجهة نحو بيت (غارديينا) .. اعبر الجسر واهبط منه واقف عندالأشارة الضوئية الحمراء..
وأنطلق حين يشتعل الضوء الأخضر.. اترك خلفي مطعم.. ومحطة وقود.. ومكتبة.. واطفال متسولين.. أصل الى البيت.. فتستقبلني بابه البيضاء.. الباب التي تؤكد وجود البيت.. خلفها.. أدق الجرس وأمد يدي كي افتح الباب.. فيحتويني ممر البيت الرمادي المؤدي الى المطبخ اماماً.. والى باب البيت الخشبية يميناً.. كلما أدخل هذا البيت يفاجئني عطر الأمومة العالق بأشجار الحديقة.. والمستقر على أرجوحة بيضاء..
لحظة دخولي.. تقف في أستقبالي دائماً.. نخلة قصيرة القامة.. غيورة تتدلى منها عثوق فارغة من التمر.. كلما تراني تذكرني بقدوم تموز الحبيب.. الى قلبها.. كما ان الشتاء يحضر.. وباصرار تموزي مجنون منها الى اطرافي.. فحين امر بها تصاب اطرافي بالبرودة الشديدة.. لكن النخلة تتجاوزني على طول الخط.. وتتركني اسير لوحدي.. الى ان اصل الى شجرة (البيزيه) وانعم بحنانها.. وأصالة أوراقها القماشية الناعمة.. ولونها الأخضر الغامق.. تسلم علي.. وتستقبلني بالأنحناء.. لهذا حين امر بهذه الشجرة الأصولية.. أشعر بأنني أميرة في بلاط اوروبي.. ويغمرني شعور خفيً الفرح.. بيد أني.. أشعر من بعيد بأن النخلة تضرب رأسها بالجدار.. وقد أستبد بها الغضب والعصاب حين تراني ارد التحيه لشجرة (غاردينيا) بيضاء.. تقبلني بعطرها.. فتحييني فأصاب بالاغماء.. من رائحة العطر النافذة الى انفي المصاب دائماً بالزكام....
***
ادق الجرس في الباب الخشبية مرة أخرى.. ثم أعود لأذهب الى شباك غرفتها الخلفي.. ادقه.. مرتين..
ـ (غاريينا) افتحي الباب..
تجيبني والنعاس يلتهم حياتها الصباحية..
ـ دقيقة.. (بلور) .
أعود من جديد.. ورنة يدي على الشباك.. لا تزال حارة.. التفت مرة أخرى.. كي ارى على يساري.. شجر الورد الناعم.. تحت الشمس، والورد الأصفر.. والاحمرالمتروك على الجهات الاربع.. للحديقة.. والماء المفتوح على العشب الاخضر.. حين اعود يأتي قطها (نومي) راكضاً كي يدخل معي.. ويسابقني في الذهاب الى المطبخ.. فيأكل عظام السمك.. والدجاج والكيك.. يظل (نومي) الاسود يحوم حول اقدامي.. أدفعه بقدمي.. وأركض خائفة منه.. انه لايخاف مني ويعرف انني من بقايا هذا البيت الشمسي.. أطرده مرة أخرى بقدمي.. فيقفز بلونه الاسود وخطوطه البيضاء وعينيه الخضراوين ليمزق جواربي.. أصرخ به.. وأحضر جميع اجداده وأسلافه الى الوجود.. فيقفون قربه أمامي لحظة ذكري لاسماءم.. أجداد (نومي) القططية يشبهونه في الملامح والروح والجسد.. أسمع صوت الباب الخشبية تفتح لي.. ألتفت فأجد صديقتي أمامي تعلن سلامها المشتاق لي..
ـ هلو (بلور) .
ـ هلو (غارديينا) .. أرجوك أطردي (نومي) الاسود واجداده من امامي..
ـ هلو (نومي) حبيبي.. آه هل احضرت اجداد نومي بسوء لسانك.. أدخل الى البيت وأترك (غارديينا) تلاعب نومي.. وتبعده عني.. تستقبلني في غرفة الاستقبال.. برائحتها المليئة بالشمس.. ولحظات الهدوء.. وانعكاس ضوء غيمة معلقة في سماء زرقاء.. دائماً حين أكون في هذه الغرفة.. يرن الهاتف الاخضر.. فترفع (غارديينا) السماعة.. ليغلق في وجهها الهاتف من الجهة الاخرى.. أما الأريكات الخضر.. فتتنهد من وجودي.. حيث تعلن عن زيادة اخضرارها وكآبتها الوقتية التي ستلازمها حتى لحظة مغادرتي البيت.. تصاب الاريكة بالدوار والغثيان لأنني سأجلس عليها بطريقة طفولية.. وكأنني أرتمي في حضن أمي.. اتأرجح على الاريكة.. وأغني بصوت خافت.. فتغني معي الحديقة الغامضة في وجودها العراقي.. فهي تبدو لي.. ترفاً وجمالاً لا حاجة لنا به.. فحديقتهم تنام دائماً خلف نافذة مفتوحة.. مصمم عليها.. وبدقه شريط الحرب الللاصق.. وهو يتخذ وضع جدول الضرب الذي ينتظر.. حدوث شيئاً ما.. تعود دائماً على حدوثه.. مما جعله قلقاً من غيابه.. اقوم من الاريكة.. واجلس مرة اخرى عليها.. فأشعر بوجود عينين صغيرتين تراقبانني.. كانت تلك العينان.. عيني جدها.. الساكنتين داخل صور فوتوغرافية.. معلقة على الجدار.. عينا جدها.. تنظران الى بحنان جد لم اره الا داخل صورة.. يواجهني صمته.. وانقراضه النفسي من الحياة.. وقربه من مكتبة امها الملتصقة ايضاً بالجدار.. تقف فوق المكتبة ساعة سوداء.. مغرورة باميالها الذهبية..
انظر الى الحديقة المغسولة بالماء.. فأسمع صوت موسيقى غربية.. تنطلق من حمام البيت.. بسبب وجود جهاز التسجيل المفتوح والمرابط دائماً هناك.. اقوم من الاريكة.. فأشعر بانفراج ازمة كآبتها الحادة.. التي عاشتها لحظة جلوسي عليها.. حيث تبث انفاس كآبتها على روحي.. وتحميني.. بعدوى الكآبة الشرسة. ينعكس ظل جسدي.. ليترك خلفه.. غرفة الاستقبال.. بهاتفها الاخضر.. واريكتها المتكدرة..
,,,,,,,,,,,
أ ذهب الى غرفة (غاردينيا) المغلقة.. بلا مفتاح.. ادق الباب وافتحها عن طريق مقودها.. فاجد امامي شباك نافذتها المفتوح.. ليستقبل الهواء والشمس التي اصبحت لاتتفضل كثيراً الى هذه الغرفة.. بفعل ارتفاع الجدار الجانبي.. لبيت جارتهم.. غرفة (غاردينيا)
غرفة (غاردينيا) تعيش حياتها الخاصة.. تسجل أصواتنا وتأريخ لغوتنا.. التي باتت لاتخلو من نكات العصر الحديثة.. الهامسة.. والممنوعة.. عتى الشفاه.. اول شئ فعلته وانا ادخل بقدمي اليمين الى هذه الغرفة.. سلامي عليها.. وجلوسي علىكرسيهاا لاسود الدوار.. ومحاولتي ان ادور بهذا الكرسي في فراغ الغرفة.. بالمناسبة.. بيت ام (غاردينيا) يحتوي على اشياء كثيرة.. ملتصقة بالجدار.. فالباب الثالثة من خزانة ملابس (غاردينيا) . تعاني من البقاء مفتوحة.. لاحتواء الغرفة على حاجات انثوية ضرورية.. يوقف الباب من الانسداد على نفسها.. طاولة مرمرية.. تقف داخل هذه الخزانة.. زينتها وامشاطها.. وبعض ملابسها.. المرتبة بطريقة نائمة.. وعطورها الكثيرة.. التي تسببت في الفترة الاخيرة بأفلاسها.. بسبب اعجابها ببائع العطور.. اما مرآة باب الخزانة الثالثة.. فتقف وحيدة الا من وجوه المارة الذين يطالبونها بان يكونوا في غاية الجمال.. لامرأة آخرى غيرها في هذه الغرفة.. لذا فهي مدللة بوحدتها.. فلم تسجل هذه المرآة غياباً عن غرفتها.. ولا يوماً واحداً..لا هي ولا (غاردينيا) ..
على خزانتها ذات الابواب الاربع.. لوحات عدة لفتاة.. بشكل واحد.. في اربع حالات.. فتاة بقبعة وانف من نقطتين.. ثم لوحة لفتاة تجلس ممددة على الاريكة.. يبدو الترف واضحاً عليها.. فهي ذات شعر اصفر مجعد.. تتصل دائماً بالهاتف ويبدو لي انها تتكلم مع صديقتها.. يقف خلف جلوسها الناعم على القطن الابيض.. لوحات لبيت وشارع واكواخ صغيرة.. معلقة على الجدار. نظرت الى الهاتف.. متاملة.. حزينة.. ربما اغلق صديقها سماعته الزرقاء.. بوجهها.. هكذا اوحت لي حركةعينيها الزرقاوين.. وجلستها المتشنجة ورأسها المتأمل.. صور عدة لفتاة واحدة تشبه الدمية في حالات حب.. وحياة.. ورغبات.. وابتسامات غامضة.. ومواعيد سحرية.. وأراجيح معلقة في الهواء.. معلق على حمالة ملابس (غاردينيا) .. ثياب صلاتها.. أدور بالكرسي عدة مرات.. فأصطدم بسجادتها الارضية.. ا لمفروشة على السجاد الشتوي.. مطوي بعض منها.. لئلا تصلي الشياطين التي تسكن غرفتها..على هذه السجادة..
***
سارت رائحة القهوة.. لتخبرني بقدوم (غاردينيا) مع (نومي) الذي دخل راكضاً.. ليتمدد بسواد جسده وبياض روحه قرب المدفأة.. كانت الفناجين تخفق بمرارة قهوتها الحلوة في الصينية..
- (نومي) حبيبي.. ابتعد عني..
قالت له ذلك وهي تحاول السيطرة على الاقداح..
- آه.. كيف تحبين قطاً أسوداً.. حقاً الدنيا حظوظ..
بدأت ارتشف قهوتي الحارة.. التي أحرقت لساني.. وسرقت انفاسي.. بأنفاسها الحلوة.. حمل الفنجان اتعب يدي.. فقررت وضعه.. قرب قصائدها الممددة على طاولة الكتابة.. ورسائلها المفتوحة.. في انتظار من يغلقها حتى تسافر الى المانيا.. واليمن.. وليبيا.. والسويد.. والدانمارك.. ولندن.. والسودان.. والاردن.. ولبنان.. وايران.. وتركيا.. وامريكا.. وتونس.. والبرتغال.. وهولندا.. والهند.. يا الله هذه الرسائل.. تظير الى كل بقاع الدنيا.. بينما نحن باجسادنا الثقيلة وأحلامنا.. لا نستطيع ان نكون خارج الزمن الحاضر.. رسائل العراق تطير الى كل العالم.. والى ابعد مدن العالم.. والى ابعد مدن الارض.. والى نهايات الكون.. خفيفة سعيدة.. بطيرانها.. اما نحن.. نحن المجرورون بالقوى الغامضة والعصبية.. التي تطالبنا بالبقاء.. داخل الزنزانة.. التي رسمتها الايدي.. والاتفاقيات.. والعقود.. السرية رسمتها لنا.. بحبكة درامية تشع دماً.. وتركت لنا الاهات.. تتوالد.. وتتكاثر في جيناتنا الوراثية.. وبلا رحمة..
ارتشفت فنجان قهوتها.. واشعلت سيكارتها مرة اخرى.. نظرت الى الجمر والدخان الذي عاد يحلق في الغرفة من جديد.. عاد الدخان يهرب من غرفة (غاردينيا) مرة اخرى.. كي ينام.. ولا يأرق مع ثرثرتنا.. قالت (غاردينيا) وهي ترمي الرماد في منفضة سكائرها..
عصراً رأيته يسير في الممرات مع الفتيات.. يتحدث عن سفره في قارب على دجلة.. كان يتحدث بصوت عال.. فوجئ بوجودي في الكليةمعه.. فال لي:
- انت صاحبة العطر.. والعقد.. والثوب.. والحذاء..
فأومأت برأسي..
- أنت كنت قبل أيام في السليمانية.. والان انت في بغداد.. وتدرسين معي في الجامعة..
ـ نعم..
- كيف حصل انك كنت قبل ايام في السليمانية.. والان انت في بغداد..
- عدت من السليمانية الى بغداد.. بالسيارة..
حين دخلت القاعة.. وجدته جالساً امامي على الرحلة الخشبية.. لم افاجأ بوجوده في صفي.. فلطالما تحدث لي هذه الامور.. كما حدث لي مع (كاظم الساهر) .. صاحب محل العطور.. ظل طوال المحاضرة يحدق في وجهي..
ـ قالت (بلور)
- كنت انتظر المصعد في الطابق الارضي.. رنت الاجراس واشتعل الضوء الازرق معلناً عن مجئ المصعد.. فتحت الباب.. دخلت فأغلقت الباب ورائي.. كنت لوحدي داخل هذه الغرفة الصغيرة.. فوجئت بوجوده معي.. وبنظرته الجانبية وهي تخترقني.. لم اره لم اعرفه.. فأنا كلما تنتابني رعشة الاعجاب.. يصبح من الصعوبة علي يا (غاردينيا) رؤية ومعرفة الشخص الذي أعجب به.. لا بل حتى تخيله.. فانا اخجل كثيراً من خيالي.. لانني كنت اشعر به.. في داخل رأسي.. يراقب تفكيري.. كنت التقط انفاسي قال لي..
- أأنت متعبة؟
- نعم..
قلت له وانا اتفرس في ملامح وجهه الوحشية..
- كيف؟
- لست ادري.. تبدو لي غريباً.. كأني لم ارك أبداً..
- لكنني عرفتك.. من حذائك الجميل.. ومن قميصك الاحمر.. وسروالك الجينز.. ومن شعيراتك الطائرة فوق جبينك.. الابيض.. كم انت بيضاء.. أتشبهين امك ام اباك..
- لا اشبه احداً..
- الى اين انت صاعدة؟
- الى الطابق السابع.
كنت الهث واحمل كتباً ثقيلة بيدي.. قال لي بدلال..
- أحمل عنك الكتب..
- لا.. شكراً..
وقف المصعد في الطابق الرابع.. غادر امامي كالسائر في نومه.. اغلقت الباب.. على وجودي الجسدي داخل الغرفة المربعة الصغيرة.. ليختفي هو.. مع آخر امنيات هذه الباب المستعجلة.. في انطباقها على بعضها.. لتترك لي بفتحاتها الضئيلة.. نصف رجل.. ونصف رأس.. اراه يختفي امامي.. بزمن اسرع من انفاسي.. ارتفع المصعد بي مرة اخرى.. آه.. بقيت لوحدي في المصعد.. أعجبني كلامي معه..لكنني اصبحت كالريشة.. لا اريد سوى الطيران.. او السقوط في الماء.. اكملت (غاردينيا) قهوتها.. وقلبت فنجانها.. قالت لي..
(بلور) اقلبي فنجان قهوتك.. كي أقرأه لك.. صاحب محل العطور.. يا (بلور) اصبح يسير معي يومياً في ممر الجامعة.. كم كان ضعيفاً في اللغة الانكليزية.. لقد كنت اكتب له المحاضرات.. يومياً.. واموت من شدة التعب.. قال لي.. وغضبة الغيرة تبرق في عينيه..
- أما زلت تحبين كاظم..
- نحن نتراسل دائماً
- أنا لا أصدقك.. اجلبي الرسائل كى اراها.. ثم لمانا يراسلك انت؟
من تكونين؟ رسائله كلها عندي.. انه دائماً يسألني عن رأيي في اغانيه..فأنا اسمعها قبل الجميع.. كل اشرطته موجودة عندي.. اعطاني ذات يوم دفترا ًكتب اسمي بخطه واعطيته عوداً كتبت اسمه عليه بخطي..اذهب الى مدينة الحرية.. ربما ستجده هتاك في بيته القديم.. وربما اخذه معه الى بيروت او القاهرة.. اذهب وابحث عن العود.. ستجد خطي عليه.. نظرت اليه متفرسة في وجهه.. يا الله.. كم انت تشبهه.
قال لي وهو يقضم اظافره باسنانه..
غاردينيا.. انا اغلق التلفاز.. كلما واجهتني صورته..
- آه (غاردينيا) .. سأصاب بالجنون منك.. ومن صاحب محل العطور..
- بلور اقلبي فنجانك.. نشفت القهوةعليه..
قلبت فنجاني ووضعته على الطاولة.. قلت لغاردينيا..
- بيتنا بلا فراش شتوي.. وارضنا باردة.. وأصابعي ترتجف.. لست ادري كيف سأحمل السجاد.. لأفرشه.. أحلم بان تأتي سا حرة (سندريلا) تؤشر بعصاها السحرية.. فتتطاير النجوم منها.. ويبدأ السجاد بالطيران.. ويحط على البلاط.. آه لو تعلمت فن السحر.. فسوف اتعلم سحراً كهذا.. يقتل البعوض.. يضع قدر الطبخ على النار.. يطبخ لي ما اريد.. ليست هناك أكلة معادة.. ولا صور مكررة.. أتعلم السحر الخرافي.. أجلب كل قنوات العالم وأتفرج.. أتعلم الطيران لا أجنحة.. أختصر الزمان.. وارى كل المدن.. اكون في اسبانيا.. وفي كندا في وقت واحد.. آه.. آه.. لو تعلمته وعرفت فنه.. لجلست في رأسه وقست نبضات قلبه.. وأكتشفت أيدق قلبه وينبض بي.. ام انه يحيا هذا القلب.. كنت ساقيس دماء وكيف تجري في جسده.. وسأعرف بماذا تفكر.. واين تصب.. وفي اي منبع تكون.. كنت سأعرف روحه.. وسأعرف بماذا يفكر طوال الثواني.. ترى هل يفكر بمصعدنا.. معاً.. ؟
- (بلور) أنت المجنونة أم انا.، حين خرجت من قاعة الدروس.. كنت لا الوي على شئ.. سار بائع العطور ببطء خلفي.. ووصل الي وبدأنا نسير معاً.. طلب مني محاضرات القصة والشعر.. سئلني..
- هل تحبين الشعر؟
- وماذا أكون بدونه؟
قال لي بائع العطور..
- (غاردينيا) انا لا أفهم شيئاً مما تقولين.. ولم افهم شيئاً مما قاله أستاذ الشعر الذي تودينه.. بالمناسبة ما خطب استاذ الشعر معك.. كأنه لايقرأ الشعر لسواك.. هل تعلمين.. انني لم أقرأ سوى قصيدة واحدة في حياتي.. لا أذكر أسم شاعرها.. لكنني حفظت عطرك الذي تحبين.. (سلفادور دالي) انه يقف امامي في المحل فيذكرني بك.. وأحببت عقد الرقبة الأبيض الذي تلبسين.. وأحذيتك الأرضية.. الغريبة.. (غاردينيا) .. اصبحت بعيدة.. ولا تمري بمحلي الثاني (في بغداد) .. آه هل تأتين معي لنشرب كوباً من الشاى في أحد مطاعم بغداد..
نظرت اليه فوجدته يشبه فلم رعب كابوسي.. قلت له..
لا.. لن أشرب الشاي معك..
تمعنت فيه وقد غادر الرعب ملامح وجهه.. وعاد من جديد اليه. وجهه الشبيه جداً (بكاظم الساهر) .. قلت له.. والآه تخرج من فمي.. وتغادر اليه..
- كم انت تشبهه.. فاجئني بنظرة لا مبالية.. وسار مسرعاً.. نحو سيارته البيضاء..
قلت لغاردينيا..
- جلست على الكرسي.. كان يحدثني بنظارتين أخفيتا حجم عيناه الواسعتين.. كان يتكلم معي.. ويقلب قنوات الشاشة.. بجهازه الاسود.. قال لي..
بدأ الكون عارياً.. ثم أرتدى ملابس اخترعها لنفسه.. الان.. عاد الكون عارياً.. وأرتدى من جديد ملابس الحروب.. أصبحنا الان نحيا في مراهقه جديدة.. (بلور) كيف أنت؟ وأين أنت؟ ما بها يديك؟ لماذا ترتجفان؟
بلور وقعي لي على هذه الورقة البيضاء..
كنت أنظر الى عينيه وهو يتحدث معي.. سعتهما تثير بي فزعاً.. كانت يده تعبث بالكتاب المفتوح.. أغلق الكتاب ومد يده.. فأعطاني ورقة بيضاء.. وكرر سؤاله..
- أريد توقيعك..
- طلبك غريب..
حين وقعت له.. ضحك عليه.. وقال
- يا لهذا التوقيع السريالي.. (بلور) أنت..
قلت له.. وأنا ادور بعيني في ارجاء الغرفة..
- انا لااستطيع ان يكون لي توقيعاً خاصاً بي.. لقد حاولت ان ارسمه بعبقرية وفشلت.. في فلسفة صنع التوقيع.. ثم لماذا نوقع؟
اني استغرب هذا الأختراع الأنتهازي.. فهو اسهل شيئاً يستطيع الأنسان.. تزويره.. ثم لماذا لا نخترع شيئاً آخر يدل علينا.. شيئاً يشبه الجمال.. غير التوقيع السخيف..
قال وهو يبتسم..
- (بلور) أنظري توقيعي..
سحب ورقة بيضاء.. وكان يوقع عليها بسعادة.. قدم الورقة وقال لي:
- أليس جميلاً؟ قلت له
- توقيعك يشبه شيئاً يطير من الأرض الى الجهات العليا.. توقيعك فجأة صمت.. وأدار وجهه الى الجهة الأخرى.. كنت أتحدث معه ولم اكن ادري ماذا افعل بصمته..؟ هل تألم من كلامي عن توقيعه الطائر.. هل اقوم؟ لم اكن ادري.. فوجئت بصمته المريب.. حملت حقيبتي وهربت بخوفي..
قالت غاردينيا
- عاد فسألني.. صاحب محل العطور.. اين رأيت كاظم ؟ حدثته بالقصة كلها مذ التقيته قبل اعوام.. في احد فنادق بغداد.. قلت له
- في مساء صيفي.. كان الضجر يأكلني.. وكنت في حالة من التمزق.. تشعرني باني سأخرج من جلدي واقتل روحي.. كنت جالسة على الطاولة ارتشف عصير البرتقال المر.. تقدم نحوي بوسامته اليونانية.. التي التي تفترس طفولة وجهه.. وبوحشية.. قدم لي كأساً من عصير الليمون.. قال لي:
- لا تشربي عصير البرتقال.. فهو مر..
تركني وجلس أمامي.. وبدأ يعزف لوحده على العود.. ويدندن.. بصوت منعش.. حملت عصير الليمون وذهبت اليه.. قلت له..
- عزفك جميل..
لم يصدق وتعجب من نظرتي.. قال لي:
- ليس هناك أحد في العالم.. يحب ان يسمع اغنياتي..
ومنذ ذلك اليوم بدأ يلحن.. ويغني لي.. على الجسر غنى لي.. عبرت الشط وقرب دجلة الف الحانه الغامضة.. التي كان يعزفها ويبكي.. اما في الجادرية فقد حدث شيئً.. لو قلته لك لن تصدقه.. لن انسى رائحة هواء الجادرية في ذلك اليوم.. في ذلك اليوم غنى لي (وين آخذك.. وين أنهزم بيك) .. لحنها لي برموشه الحانية.. على قلبي.. هل تعلم؟ ان احلى الساعات عندي.. حين يدق الجرس.. ويأتي موزع البريد.. فقبل ايام دق الجرس صباحاً.. ذهبت مسرعة.. وكنت متأكدة.. بأنني سأرى ساعي البريد خلف الباب.. يحمل رسالة كاظم..فقد كان وقت وصول رسائله قد حان.. لكنني فوجئت برجل النفايات يقف.. خلف الباب.. اصابني العطش في اللحظة نفسها.. فذهبت مسرعة الى حنفية الماء.. وارتويت منها.. قال لي.. صاحب محل العطور.. والفضول يقتله..
- ماذا حدث لكما في الجادرية..
- لا..انه سر.. سأقوله لك.. لو وافق كاظم على ذلك.. سأسأله في رسالتي القادمة اليه..
- قلت لغاردينيا انه عصابي.. رغم الهدوء العجيب الذي يميز صوته الآسر.. هكذا بدا لي صمته الدائم في الفترة الاخيرة.. رجلاً عاش تأريخين.. كان يحلم بتاريخه هو لكنه عاش تأريخ غيره.. أصبح لا يشبه نفسه القديمة.. ولا يشبه نفسه حين يبتسم.. ولا يشبهها حين يصمت.. قبل ايام كتب سيرته الذاتية.. طلبتها منه.. لم يوافق على اعطائها لي.. أخرها عدة ايام.. تركته اسبوعاً.. وعدت اليه.. كان منطفئاً ويتحدث بصعوبة بالغة.. ويبكي بلا دموع.. قلت له.
- انت عسكري..
قال لي والكلمات تخرج من فمه بطريقة منومة..
- انا.. عسكري قديم..
قلت له وانا مصابة بالرعب..
- لماذا؟انا لاأحب العسكريين..ترى من اكتشفها..
- بلور.. أنت تسألين كثيراً.. لست أدري من اكتشفها.. ربما كان حيواناً قديماً.. يعيش في غابة.. ويلبس قبعة.. وحذاءً حديدياً..
قلت له بقرف..
- أنا لاأفهم شيئاً عن الرتب.. ولا في النجوم.. ولا في الشعارات المعلقةعلى اكتاف رجال هذا العصر.. ولا في السلاح الحديدي الذي يحملونه.. كم يرهبني انهم يجيدون استعماله.. ما هي رتبتك؟
- عميد في الجيش..
- أنت عسكري أذاً..سأخاف منك منذ الان.. قل لي ماذا يعني وجود بدلة خاكية مرابطة لك طول الوقت..أ لا تشعر بالعفونة من هذا اللون..
- (بلور) ..لدي موعد الان..
غادرت مسرعة وفي داخلي.. تجمع الغيم.. والمطر.. وفوجئت وانا أهرب منه بالشمس وهي تزداد حراً بسقوطها المباشر على رأسي..
رفعت غاردينيا فنجاني وبدأت تبحث في الصور وتنظر الي.. قلت لها وانا أتململ..
- أتركي الفنجان.. وحدثيني عن بائع العطور..
قالت وهي تقلب الفنجان مرة اخرى على الطاولة.. كانت تتحدث وهي تنظر الى يديها الملوثتين بالقهوة..
- طار بائع العطور.. والتقى بفتاة اخرى.. وأصبحت أنا أيضاً لا أشعر بوجوده.. دخلنا القاعة في المساء.. جلس بائع العطور قرب صديقته.. وجلست أنا قرب النافذة.. على الرحلة الخشبية الاولى.. كان أستاذ الشعر يقرأ من على المنصة قصيدة ل (شيللي) وكنت اطير معه.. ومع صوته الهامس بالشعر..
تمنيت في تلك اللحظة أن اجلب الكيتار.. وكاظم لكي يسمع معي.
قرأ القصيدة امامي.. وقال لي:
- أنت شاعرة.. أنا أعرف الشعراء من احساسهم بالشعر.
كان الطلاب يلهون بلغطهم.. وكان يشرح لي فقط.. قال لي:
- درسي لك وحدك.. وحدك تستحقين أن يقرأ لك الشعر..
قلت له..
- وحدك.. تستحق ان اسمعك..
قال لي:
هل تعرفين الجوال في الصحراء..؟ لا
ـ.. هل تعرفين ماذا وجد الجوال في الصحراء..؟
ـ لا
ـ وجد تمثالاً لملك.. يحمل قطعة حجر.. مكتوب عليها. أنا ألملك العظيم ستجدون أعمالي العظيمة.. هل تعرفين ماذا قال الجوال في الصحراء؟
ـ لا
ـ قال أين هي أعمال الملك العظيمة.. أنني لاأجد سوى بقايا لتمثال ذي ملامح محطمة..؟
نعم وأشرت الى وجهي..
رفعت غاردينيا الفنجان مرة أخرى.. وحدقت نحو الجدار..وتكلمت
قلت له:
ـ ماذا بك؟ لماذا أنت متعب وعيناك ناعستان..
قال لي..
ـ لا شئ..
مد يده لي.. كانت ترتجف من كآبتها العابرة.. قال ودمعة ما تختفي خلف العينين ولا ردة فعل واحدة في حديثه الكامد.. قال لي:
ـ لم أستطع أن أحصل على طعامي.، يومان كنت أعيش بلا طعام.. وأتقوت بالشاى الباقي عندي.. كنت أشعر أنني بحاجة الى عض معدتي.. التي لم تعد تخدمني في هذه الايام.. لقد فقدت أرادتها.. وأرهقتني بمطالب الطعام.. خرجت بالأمس من البيت ليلاً.. وبدأت أسير في الشوارع.. وأقف امام الواجهات.. طعامي ترف جديد يمر علي.. مشكلتي أنني بلا مال.. فطوال حياتي الماضية لم تمر بي أيام كهذه.. وحيداً أعزل وسط القنابل و المتفجرات.. كان التلفاز يبث أغانيه من أحدى المحلات.. لم أدري ما الذي جعلني.. أدخل الى المحل وأوجه لكمة.. الى الشاشة.. التي أحرقت يدي.. كانت بغداد بشوارعها الكالحةوالخائفة تحاول النوم.. رغم الأرق الطويل.. الذي أصابها..فحين عرفت أن بغداد تجوع.. وتأرق.. وتبحث عن مأوى وطعام وأمان.. وتحس بي.. لماذا أقول ذلك يا بلور؟ لماذا تسأليني؟لا أريد شيئاً.. لا أريد الحياة.. لا أريد الموت.. لا أريد الطعام.. و لا أريد وجودك أمامي.. فوجئت بعصبيته.. لذا لم أستطع البقاء.. هربت منه.. لكن دمعة ما لست أدري هل سقطت مني.. أم من عينيه.. تركتها هناك.. خرجت من غرفته وضياع ما.. يخنقني.. سرت في بغداد.. وذهبت الى محل جميل.. طلبت دجاجة مشوية.. وأكلتها بدلاً عنه..
عادت غاردينيا لتضع فنجان القهوة على الطاولة.. ضحكت وقالت.. - هيا يا (بلور) لنلعب لعبة جديدة أسمهاالفنجان.. اجلسي أنت في فنجاني وأقرأيني.. وأجلس أنا في فنجانك.. وأقرأك.. لعبة جميلة..
- (غاردينيا) كفي عن هذه التفاهات
أشعلت سيكارة آخرى.. وبأت تتحدث..
- طلب أستاذ الشعر.. مني الخروج معه.. وافقت بشرط أن يقرأ لي شعراً.. رفض.. لكنه طلب مني الحديث عن قصتي مع كاظم الساهر حدثته عن صاحب محل العطور السابق.. وعن السليمانية.. وعن النفور الغريب الذي ينتابني كلمت رأيته أمامي.. قال لي:
- لا أريد أن أعرف شيئاً.. عن صاحب محل العطور.. حدثيني عن كاظم.. وحادثة الجادرية..
- لا أريد أن أفصح عنهاحتى تصل رسالة كاظم..
صمت.. ضجراً.. قال:
- عشت في لندن ودرست الشعر..هناك.... في الصف كنت أقرأ الشعر للجدران.. والرحلات الخشبية.. وحين جئت.. أصبحت أقرأ لكم.. انت والجدران.. والرحلات الخشبية.. وحين عدت الى هنا.. اصبحت اقرأ لكم.. انت والجدران.. والرحلات الخشبية.. والنوافذ.. والسبورة.. لقد عانى الشعر.. من وحدته معي..
اطفأت غاردينيا سيكارتها في قعر الفنجان.. وقالت.. - لنر مانا ستفعل السيكارة بالفنجان.. هل ستربك الخطوط.. أم ستغير المستقبل..
قلت لها أنا أغمض عيني...
- أنا سعيدة.. لانني نظفت البلاط.. لقد شعرت بالراحة انا والنمل.. فنحن الأثنان نسير على بلاط نظيف.. انا سعيدة.. لأنني أشتريت حقيبة وفستاناً..وحذاءً.. وعطراًً.. وكتاباً جديداً.. أنا فرحة الأن.. لانني شربت قبل قليل فنجان قهو دافئ.. أنا سعيدة به.. وبوجوده في غرفته المغلقة.. وبلقاءات الصدفة البخيلة في المصاعد..آه..جاء الشتاء.. وأختفت السحالي.. المعلقة في القمم.. الله لن تقع سحلية علي بعد اليوم.. ولن أصرخ.. صرخة يجتمع الناس عليها.. يقولون ان السحالي قوم من الرجال غضب الله عليهم فقلبهم الى سحالي.. لذلك تجدينهم يتلصصون على حياة النساء في الحمامات.. وأذا كانت هناك أمرأة تعجبهم.. يرمون بأنفسهم عليها.. تخيلي أن السحالي تعشقني..
- (بلور) ما هذه الخرافات..
- الا ترين خرافاتك انت.. فنجانك وسيكارتك.. تضحكيني وتقولين رماد السيكارة.. سيغير خطوطمستقبل فنجاني..
قفز قطها الأسود الأبيض.. ورمقني بعينين خضراوين.. وتمتم معها.. طالبا منها ان تطردني.. في هذا الليل الأسود.. كانت مدفأتها الكهربائيةً تشتعل بأضوية حمراء.. شفافة النفس.. سقطت غاردينيا في صمتها المألوف كعادتها حين تثرثر طويلاً.. قالت:
- حين لا أنام يوماً كاملاً أثرثر كثيراً.. أو أقع تحت سحر الصمت.. بالأمس جاءني احدهم كي يتقدم لخطبتي.. رآني أقرأ شعراً في التلفاز.. حين رأيته أيع يشبه الفأر.. جلس أمامي يتقدمه رباط أحمر.. كتمت ضحكتي وأنا أراه.. يضع ساقاً فوق الأخرى.. لقد جاء يحمل معه شهاداته الجدارية.. حين رأيت الشهادات الجدارية على الكرسي.. تجلس الى جانبه.. ضحكت بصوت عال.. نظرات أمي الثاقبة كانت تصلني بحذر.. سألته:
- ما هذه الشهادات؟
بحَ صوته.. وقال:
- واحدة من امريكا.. والثانية من لندن.. قاطعته وقلت له..
- والثالثة من الهند..
قام غاضباً والتفت نحو أمي.. مد يده الى جيب المسدس الذي يرتديه.. مع بدلته الرجالية.. ثم خرج..
- غاردينيا انت تبالغين..
- أنا لا ابالغ.. لقد حدث لي هذا..
عادت غاردينيا من جديد لتشعل سيكارة اخرى.. لست ادري كم سيكارة اشعلت وكم سيكارة اطفأت.. قلت لها:
- اتركي دخانك جانبا.. وأسمعيني.. بالامس ركبت الباص لاتفرج على بغداد.. في دجلة جمال أبدي لا أستطيع أن أفهمه.. سار الباص بي.. من باب المعظم ووقف عند بوابة بغداد.. حين انطلق الباص بنا.. من باب المعظم..
قال لي:
- هنا في باب المعظم.. كنا نقود مظاهرة، لا أدري من اين جائتني رصاصة.. فاصابت رجلي.. واغمي على.. اغمضت عيني وفتحتها.. شعرت انهم كانو يسحلونني.. فتحت عيني في السجن وعرفتك هناك.. ذات ليلة كنت نائماً في السجن.. حلمت بك.. كنت آتية بملابس الجينز.. التي كنت ترتديها دائماً.. وقفت امامي.. كنت صغيرة جداً.. ابتسمت وكنت اراك داخل عيوني.. لست ادري لمن كنت تبتسمين.. لانني لم اكن واقفاً.. ولم اكن هناك في تلك الارض.. التي كنت انت واقفة عليها.. ارض ليست هي الارض.. كنت اسمع شخير النائمين قربي.. حين خرجت من السجن بحثت عنك طويلاً.. الان عرفت لماذا؟ لم اجدك في ذلك الوقت..
ـ بلور أستاذ مادة الشعر تغير.. لم يعد يقرأ شعراً لي.. بدأ النعاس يداهمني في محاضرته.. ذهبت معه الى شارع 14 رمضان وأكلت معها الآيس كريم.. كان الشارع جميلاً بأضويته الروحية.. كان يحتله ويحتوي صفحات الشارع الشعرية.. بات يراني مملة من كثرة حبي للشعر.. والحاحي عليه ان يعود ويقرأ لي فقط..
- قال لي:
لقد رميت الشعر في سلة المهملات.. أنت ايضاًَ ارميه..
دفعت ثمن الآيس كريم وسرنا مشياً في الشارع.. تحدث مرة أخرى..
- علينا ان لا نحب الشعر.. ونحب انفسنا.. ماذا اعطاني الشعر؟ ذهاب الى الداخل.. احساس بكثافة الروح.. ماذا اعطاني الداخل.. وماذا اعطتني الكثافة الروحية.. لقد كثرت ازماتي.. واقتربت من الجنون والضياع.. لذا ركنت الشعر الى سلة المهملات.. ووقفت ابيع الحمص في العربة.. واجمع المال كي اعيش.. واسافر.. تسافرين معي..
- لا..
هذه المرة لم اعرفه.. حين ترك الشعر.. لم يعد كما هو.. ازداد وزنه في الفترة الاخيرة.. دخلت الى الجامعة معه.. سرنا معاً حتى وصولنا قاعة الدرس.. همس ما رأيته يتطاير من الشفاه.. وقف عمر منفعلاً يريد الجلوس قربي.. سألته:
- ما بك؟
- تلك المرأة التي كانت تهبط من السلم..
- ما بها؟
- عاكستها واعتذرت لها.. لكن صراخها وصل من السلم الى القاعات..
انت منزعج من معاكستك لها..
- لا.. من اعتذاري..
صمت ثم قال لي..
- هل تخرجين غداً معي..

- (غاردينيا) تحدث لك اشياء غريبة.. آه شيئاً ما في هيئة الرجال قد تغير.. نفس الطول نفس الوجوه.. يسيرون بقدمين.. لكنهم يتعكزون في السير.. ايديهم على ظهورهم.. تشبه جدول الضرب.. اربطتهم جميلة وعيونهم حمراء.. آه ماذا جرى للرجال؟ انهم يشبهون الرجل المرسوم على باب الحمام.. الذي يدلهم عليه.. رجل أزرق.. بأس مدور.. مفصول عن الجسد.. صغير جداً.. اتفرج عليهم.. ايى هم؟ ملابس جميلة.. الغثيان والغيبوبة.. حين اراهم..
اطفأت غاردينيا سيكارتها في منفضة الرماد و سحبت ورقة صفراء.. وبدأت ترتسم وجوهاً بشرية على الورق وتتحدث..
- استاذ الشعر.. مات الشعر لديه.. وبات لا يحتمل وجودي معه.. كنت اسير ليلاً ذاهبة الى البيت.. حمل الليل صوته الشعري.. ناداني.. التفت كي اجد استاذ الشعر امامي.. منتفخاً بأزدياد وزنه.. قال لي..
- اما زلت تحبين الشعر؟
- نعم..
- هل تعلمين.. دخلت في مغامرة اسعدتني.. شهراً بأكمله..؟
- ماذا بدأت تترجم؟
- أف..
- ماذا اذن؟
- دخلت حمام الطالبات.. أغلقت باب المرافق.. وبدأت أراقبهن.. واتفرج عليهن.. لم اجد سعادة في حياتي كتلك.. واحدة منهن وقفت ساعة كاملة امام المرآة.. رسمت عينيها بالسواد.. صبغت شفتيها بالاحمر.. جعدت شعرها.. كانت تقف وحيدة امام المرآة.. وتتكلم معها.. انا حلوة، دخلت اثنتان تتحدثان بهمس.. رجل ما كان يدور في في كلامها.. سمعت ضحكاتهن العالية.. دقت باب المرافق.. وانا واقف خلف بابها.. فتحت الباب.. وخرجت واجهني جمع غفير من النساء.. ضحكن معي.. كنت وحيداً بينهن.. فلم ينقل خبري الى احد.. آه كم هو جميلاً ان يدخل المرء حماماً للنساء.. هل تغامرين معي مرة اخرى؟
- ماذا ادخل حماماً للرجال؟
نظر الي بحدة.. فتح حقيبته واخرج مفاتيح سيارته.. قادها بسرعة وتركني امضي الى البيت..
أكملت غاردينيا رسم وجه بشري ملئ بالبشاعة والرعب.. قلت لغاردينيا.
- كلما أدخل الى غرفته.. اجد كتاباً مفتوحاً.. ونظارة يرتديها.. وساعة يدوية.. وسيكارة في اول اشتعالها.. وفنجان قهوة فارغ.. وكوب شاى ونافذة تقف وراءه مغلقة.. ثم صورته معلقة على الجدار.. غرفة واسعة جداً..تحتلها عدة اريكات.. ومكتبة.. وطاولة أنيقة.. قال لي وهو ينظر الى شاشة التلفاز امامه..
انني لا املك شيئاً.. لا انا.. ولا حياتي..
ازعجتني كآبته الصباحية.. كانت كآبة مخيفة..
- ما الذي جاء بك الى هنا..
- انت ناديتني.!
- انا لم اناديك..
شعرت بندائك فاتيت..
- انت مشمئزة مني..
- لا..
- انت تكرهيني..
- ابدا..
قال ودمعة خفية.. بعيدة ظهرت على وجهه..
حين وقفت في طابور السجن.. بدت لي الحياة شيئاً غامضاً.. وثميناً.. انها أثمن من الخسران..كانت رائحة السجن القديم.. تشبه رائحة التنور والخبز.. تشبه يد امي وهي تعجن الطحين.. وتغسل ملابس ابي.. وتضرب الاطفال وتبكي.. كان السجن يشبه سلام ابي على المارة من حوله.. وقف بوجهه الاسود الذي يلمع في ظلام السجن.. دار حولي.. كأنك تشاهدين فيلماً يعاد كل يوم على شاشة حياتنا.. قال لي..
- ما اسمك..
- نسيت اسمي..
- يا ابن ال..
وضربني على رأسي.. وسحقت جسدي الاقدام.. رميت ارضاً وغابت الدنيا عن وجهي.. وبقي وجهاً واحداً.. تبينت ملامحه.. بوضوح تلك الليلة.. لم اكن ادري اين كنت نائماً.. في السجن ام في المستشفى.. حين حلمت بك للمرة الثانية.. كانت عيناك تزداد بريقاً.. كنت موجودة هنا في رأسي.. كان رأسي ينتظر عودتك مرة اخرى.. في الصباح استيقظت سعيداً.. لانك عدت ثانيةً في الحلم.. بعد غياب طويل.. في ذلك الصباح خرجت من السجن.. لم اكن اعرف كيف ابحث عنك؟واين اجدك؟لكنني اشعر بضياعك مني.. حين مرت السنوات وكبرت.. اتيت.. وحين جئت اول يوم الى هنا.. وجلست على هذا الكرسي..
شعرت بشء يشبه الحلم القديم.. لقد يئست من مجيئك.. وعرفت انني حلمت بك قبل ولادتك ومجيئك الى كوننا.. حين رأيتك.. انتابني وجع في الرأس لايحتمل.. هل تذكرين؟حين اعتذرت منكم وشربت حبة دواء..!حين نظرت اليك.. بقيت اتساءل هل انا واهم.. كنت في عالم الغيب.. حين كنت في السجن.. اردت ان اسألك.. لكن الرجل الذي جاء معك.. جعلني ارتدي قناع الخوف.. لكن نظرة جانبية مني تجاهك.. جعلتني لااحتمل وجودك امامي.. تمنيت ان لا تكوني موجودة.. وان حلمي يكذب علي..
اختفت ابتسامته الآسرة.. وغابت ملامحه.. تغير لون وجهه.. واصبح قرمزياً.. تجمدت اطرافي.. والتصقت بمكاني.. شعرت انني انفصل عن اضلاعي.. وانتمي الى اضلع اخرى.. اكتسح دمعه كل شئ..يده.. عينه..
قال..
انا كنت هناك.. انا ذاك الذي عرفتيه في الحلم نائماً.. في السجن قبل ان تولدي.. انا هنا..
صمت تساقطت حبات المطر من عينيه مرة اخرى ودخل في نوبة بكاء حادة.. لم استطع ايقافها.. رن جرس هاتفه.. رفع السماعة..
قال..
- آلو..
نظر الي بهدوء يخفي خلفه الغضب.. حملت حقيبتي وذهبت مسرعة.. اغلقت الباب بقوة خلفي.. رن صداها في الممرات..
رمت غاردينيا بوجوهها المرسومة على الورق نحو الأرض..
قالت..
- هل تعلمين يا بلور بمن حلمت البارحة؟ حلمت حلماً غريباً غامضاً.. كاظم عاد معي الى الجادرية وبدأ يراسلني.. وانا اقف امامه.. كانت بيده ظروف كبيرة مملوءة بماء دجلة.. غاب كاظم.. وجاء راغب من بعيد.. جاء راغب راكضاً.. وصل قربي. ورفع رأسه نحو السماء.. كانت كتابة من النجوم تظهر على السماء.. (بعد سنة، بعد عام، عام الفيل، الناس سكارى، يتبعهم الغاوون) ارتجفت فقد كان للسماء حضوراً.. هز بدني.. التفت.. لم أجد اناساً.. لم اجد سوى نملاً صغيراً.. يسير بسرعة ويركض.. ركض النمل معي.. فجأة تحول كل شئ الى منصة واقفة انا وراءها.. القي الشعر.. وجمهور النمل يسمعني.. ويقول لي..
ـ اعيدي..
فأعيد.. جلست مغسولة بالعرق كي اصلي الصبح.. أكملت صلاتي.. وفتحت دفتري كي اغسل الورق من شعري.. كان ارتجافي على المنصة.. في حلمي.. شيئاً يشبه الحب.. كنت على المنصة والنمل يسمع شعري.. واستاذ الشعر يجلس قرب نملة.. جميلة.. عيناها بنفسجيتان.. وشعرها ازرق.. ترتدلي ملابس السباحة..كان يسمع شعري.. ويدخن بشراهة.. وكان يبدو على صديقته الضجر.. من الشعر والدخان..
قلت لها وانا اضحك من حلمها..
ـ لا استطيع ان افرق بين احلامك وواقعك..
ـ آوه.. بلور.. لن احدثك عن اي شئ..
قمت.. وبدأت الملم الوجوه التي بعثرتها على الارض..كنت انظرفي الوجوه الغريبة واتحدث..
انه دائماً يخفي شيئ ًما حين يراني.. يكتسب شيئاً تمثيلياً.. لم اضغط عليه.. لم اطلب منه ان يخفي.. او يظهر شيئاً ما.. لقد راقبت حياته من بعيد.. وعرف بذلك.. لم يحتمل معرفتي له.. كان هناك خوفاً كامناً غامضاً.. من وجعي ووجعه.. لم يعرفني.. كما اريد.. كان كل شء يسير بهدوء نحو النهاية.. وقتها بدأت اختفي.. و بدأت اعرف انه يطاردني بعينيه.. ويبحث عني..ويبحث عني.. لم يكن امامي شيئاً سوى الاختفاء.. انا حين اختفي.. انوح مع نفسي.. واشعر بها كلون الشمس هناك لم يبحث عني.. وبحث.. هكذا انا.. لا احتمل الافلام.. ولا الاقنعة.. انه ليس معي.. ما هذه التعاسة..
ارتفع صوت الآذان ووصل الينا من نافذتها المفتوحة.. فتحت قاموسها واغلقته.. قامت فرشت سجادتها الأرضية الأنيقة.. جلبت مسبحتها الترابية.. وبدأت تصلي.. كانت قبعتها القشية تقف امامها بوجه كوميدي ساخر.. ساعتها الزرقاء التي تسبح بحر ابيض.. عاد صوتها يدق في اذني.. اذن بدأت الساعة بدورة وقتها النهارية.. وبدأت العصافير.. رحلتها الطيرانية في يومها المعلوم.. اكملت غاردينيا صلاتها.. واستلمت السجادة كي اصلي.. دخلت امها وقالت:
غاردينيا، بلور..، صباح الخير.. هيا لنعد الافطار..
ذهبنا نحن الثلاثة الى المطبخ.. وبدأت والدة غاردينيا باعداد بعض من الافطار.. وذهبت لتصلي.. جلست على الكرسي.. اتفرج على وجبة الافطار الصباحية.. جبنة صفراء، جبنة بيضاء.، مربى المشمش وكوب الحليب الحار.. الخبز الحار الذي خرج تواً من الفرن الكهربائي.. والبيض المقلي.. علبة الملح والسكر..
بدأت التهم وجبة البيض المقلي.. عادت امها.. وألق الصلاة في عينيها.. وجلست معنا.. قالت لي..
- بلور.. لم تناموا ليلاً
- ابدا..
لقد شعرت بكما.. وانا ارى ضوء الغرفة مشتعلاً.. كيف قاومتما الجلوس الى الصباح..
- كنا نثرثر..
- عن ماذا؟
- اشياء كثيرة..
قلت ل (غاردينيا) وانا ابتلع لقمة الخبز والجبن الاصفر..
- يا للصباح كم ينعشني.. ويزيل عني كوابيس الليل..
قالت لي وهي تشرب كوب الحليب الساخن..
- اكره الصباح.. لااحب ان احياه.. لي حياة الليل.. اما ان اخرج واجوب بغداد في الصباح.. او انام.. انه وقت نومي.. وعطل دماغي عن الحياة.. كانت ستائر نافذة المطبخ المطلة.. على ممر البيت الرمادي وعلى الشارع الملئ بصوت الصباح والشمس والاطفال الذاهبين.. الى مدارسهم.. وصوت جرس المدرسة المجاور لبيتهم.. والنشيد المكرر يومياً.. تخف

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف