أدب الحرب لم يلق الاهتمام النقدي الواجب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حوار مع القاص والروائي السيد نجم
محمد الحمامصي من القاهرة: علي الرغم من الاحتفاء النقدي الواسع بتجربته الروائية التي رصد للتغيرات التي أصابت المجتمع المصري منذ السبعينيات ومرورا بالثمانينيات وانتهاء بالتسعينيات، لكنه ظل متواريا عن الإعلام مدة طويلا ولا يزال مفضلا العمل وحتى المشاركة في المؤتمرات الدولية والمحلية في صمت، إنه الكاتب الروائي السيد نجم الذي يمثل واحدا من أبرز روائيي السبعينيات، وقد اتجه منذ سنوات لعمل مهم قدم فيه تأصيلا وتنظيرا كان غائبين في الحركة النقدية العربية، هذا العمل هو اشتغاله علي أدب المقاومة الذي أصبح فيما يبدو مشروع حياته الموازي للإبداع، وقد أخلص له كما أخلص لإبداعه، وأنتج فيه ما جهودا بارزة الآن ومهمة مصريا وعربيا، حتى إنه يؤكد دائما (أن "التجربة الحربية" بالنسبة لي "قضيتي"، وهي قضية جيلي كله، ومن خلالها أمارس حقي في الحياة والنقد والخيال.. سواء بالكتابة الإبداعية أو الدراسات).
من أعماله الإبداعية مجموعات قصصية "أوراق مقاتل قديم"، "عودة العجوز إلى البحر"، روايات "السمان يهاجر شرقا" و"أيام يوسف المنسي" و" العتبات الضيقة"، وكتب أدب المقومة منها "الحرب الفكرة -التجربة- الإبداع"، و"المقاومة والأدب"، و"المقاومة في الأدب العربي"، و"المقاومة والحرب في الرواية العربية"
** بداية حرمني الإحباط بعد 67 من الرغبة في المشاركة الجماعية، فضلا عن الاشتراك في التنظيم السياسي، وان كنت قبلها أحفظ خطب عبد الناصر وأجزاء من "الميثاق"!. مع ذلك كنت أرى في المناخ السياسي من الرياء والتملق والافتعال أكثر من الجدية والإخلاص.. على الرغم من مقابلتي في رحلة الحياة -في ذاك الوقت- لنماذج مخلصة وصادقة، وكنت أراها دوما في الجانب الخفي من العمل السياسي، ولم يصل أحدهم إلى مركز سياسي ما أو ذات حيثية.. وبعد 67 انشغل الجميع بإزالة آثار العدوان، والتحقت بالجندية -رقيب طبي بسلاح الخدمات الطبية- منذ أوائل عام 1971 حتى أوائل عام 1975.. وهى فترة النضج والممارسة الحقيقية، ليست للسياسة بالمعنى التنظيرى، ولكن باعتبار السياسة هي خلفية العمل اليومي والآني دوما.. وأيضا رأيت النماذج القدوة التي أحبت مصر بلا شعارات وبلا افتعال، كما رأيت اللصوص..نعم، لصوص جندوا فمارسوا السرقة من زملائهم الجنود! ولصوص سرقوا الساعات وأموال زملائهم الشهداء على أرض المعركة ! ولصوص جمعوا الغنائم واستثمروا انتصارات أكتوبر ودم الشهداء!!.. ولم يزد العمل السياسي عندي سوى محو أمية عدد من الجنود، بعد أن أحضرت الأقلام والكراسات والقراءة الرشيدة على نفقتي الخاصة!.. أطرف ما وصلني من أصداء تلك التجربة، أنه بعد خروجي من الجيش وصلتني رسالة من "ليبيا" وبخط غير واضح، إلا أنني سرعان ما تذكرت صاحبها.. انه "عبد الحميد" أحد الجنود الذين محوت أميتهم، وقد هرب إلى ليبيا عبر السلك وصحراء الحدود.
** وماذا بعد؟
** أما عن القصة والرواية أي الإبداع..فأول قصة تنشر لي، نشرت بمجلة روزاليوسف، في منتصف المجلة على صفحتين، وبرسم للفنان "مأمون"، وبحفاوة أدهشتني..وهو ما عبر عنه القائمين على المجلة في حيينها "صبري السيد"، "عبد الرحمن فهمي"، والفنان الإنسان "حسن فؤاد"، ولا أنسى أن الذي قدمني وقدم القصة هو الناقد "عبد الرحمن أبوعوف".
أما القصة فهي "ليلة من الف وخمسمائة ليلة"، نشرت في يناير 1972م، وتدور حول موقف إخبار زوجة شهيد بانقضاء أربع سنوات على اختفائه، وبالتالي سيعامل إداريا معاملة الشهيد..بينما الزوجة ترفض تماما القرار!! والطريف أنها تعلقت بفكرة واحدة أن زوجها قادم من أعماق الصحراء، من سيناء، وشبهته بعنترة مرة، وبكل أبطال السير الشعبية مرات.. وهو ما دفع البعض إلى القول بأن تلك القصة تنبأت بحرب أكتوبر 73.
هي قصتي الأولى، وتتابعت القصص خصوصا تلك التي كتبت أثناء وبعد المعارك، وقد نشر أغلبها بمجلة الشباب التي صدرت كنشرة عن منظمة الشباب الاشتراكي يوميا، وتباع بقرش صاغ واحد.. وان استمرت لسنوات قليلة بعد المعارك، وتحسن الورق والإخراج الفني. كما أتذكر أنني فزت في أكثر من مسابقة حول أكتوبر 73 فيما بعد.
كانت الحلقة التالية، بعد أن خرجت من الجيش والتحقت بالعمل المدني (أول مكان عملت به هو مجزر القاهرة أو السلخانة وله وقفة أخرى)، بسرعة اشتركت في ندوة أسبوعية قام على تنظيمها شاعر عامية متحمس ومخلص، ممتلئ بالمشاعر والقيم، هو الشاعر "سيد حجاب".. تعرفت على "حلمي سالم"، "أمجد ريان"، "حسن طلب"،والموهبة التي اغتالتها سيارة مجنونة على إسفلت الشارع..الشاعر الشاب "على قنديل"، وأسماء أخرى قد لا تحضرني الآن، من بينها آنسات لم تواصلن الطريق على قدر ذاكرتي.
على الرغم من أن الندوة شبه رسمية، لأن مقرها مبنى الاتحاد الاشتراكي، كان فأر السبتية حريصا على التواجد مع ندوتنا! وفى الدور الذي نقيم فيه الندوة تحديدا..ووصل الأمر بنقل الندوة إلى مكان آخر في النهاية. وفى الحقيقة فقدت بعضا من تحمسي على مواصلة الاشتراك في الندوة بعد موت "على قنديل" لأسباب شخصية رومانسية..ولأعود ثانية إلى الانكفاء على وحدتي..أكتب وأقرأ وحدي!
أما وقد حاولت الخروج إلى الحياة العامة ثانية، بالاشتراك في أحد الأحزاب، من خلال باب الثقافة وتنظيم الندوات وغيره.. وجدت موقفا غامضا من الأستاذ "عبد السلام داود" المقرر الثقافي للحزب، وقد رفض وجود آخر إلى جواره في ندوة، ولا حتى من باب المساعدة!
هكذا كانت الأحوال.. في مجال الأدب، علت صيحة خبيثة أو لعلها جهولة بأن أدب أكتوبر لم يكتب، وربما لن يكتب (مع اعتراضي على مصطلح أدب أكتوبر، لكنه هكذا شاع). ثم تكررت المقولات والأسماء والأعمال كل سنة.؟! الطريف أنني اكتشفت أنه لا يوجد من حاول تعريف أدب الحرب أو أدب المقاومة، مع شيوع مفهوم متفق عليه. فكانت البداية الأولى والحافز للبدء في إعداد بعض الدراسات حول أدب الحرب. كانت المفاجأة أن نشرها المرحوم "د.إبراهيم حمادة " رئيس تحرير مجلة "القاهرة" في حينه.. أقول نشرها وفى الصفحة الأخيرة على تتابع بداخل العدد.. وهو على غير العرف الصحفي!. وقد شكرته إلا أنه شجعني على مواصلة هذا الخط في الدراسات.
* برأيك ما أهم ملامح وخصائص أدب الحرب التي تميزه عن الأنواع الأدبية الأخرى؟
** أدب الحرب هو مجمل الأعمال الأدبية بكل أجناسها ـ من شعر ونثر ـ المعبرة عن التجربة الحربية. وإن لم يتفق على تعريف اصطلاحي محدد، فالتقديم التعريفي السابق اقرب الدلالات لفهمي الاصطلاحي لأدب الحرب.
ويتميز أدب الحرب بتلك الخصوصية التي يندر حدوثها، وإن حدثت يندر تكرارها، ألا وهي خصوصية تأثير معايشة التجربة الحربية على المحارب. وهي تتسم بالخصوصية جدا والعمومية جدا، ومع ذلك فالتجربة الحربية يختلف المعبَّر عنها من مشارك إلى آخر.
وإذا حاولنا إبراز بعض الخصائص وليس كلها، فالمكان مثلا له دلالته، بحيث يمكن الادعاء بخصوصية تأثير الأماكن في الأدب الحربي، مثلا "الخندق" ذلك المكان الضيق الذي يضم المحاربين والذي يعيش أو يبقى على أهبة الاستعداد للانطلاق وملاقاة العدو.. نقول إن هذا المكان كفيل بأن يجعل من مفاهيم: الخلاص / الهلع / الطمأنينة / في بؤرة واحدة ولا عجب فتصارع المشاعر وفيض الخاطر تشل الألسن أو تجلب الثرثرة، لأن ردود أفعالنا ليست متماثلة. بالجملة يمكن القول بأن المكان في العمل الإبداعي في أدب الحرب هو الوسيلة المهمة التي يمكن للمبدع "الذكر" توظيفها في بناء وتشكيل العمل الأدبي.
* وهل من الضروري أن من يكتب أدب الحرب يكون قد شارك مشاركة فعلية أو حقيقية في الحرب؟
** أدب الحرب لا يكتبه إلا من خاض التجربة الحربية، لكن أن يكون ذلك بالمشاركة في العملية القتالية فعليا، فهذا ليس ضروريا. وإنما تمثل التجربة الحربية تجربة يلزم معايشتها. وهذا معناه أن المدني أو الذي يعيش في القرية يمكنه الحديث والتعامل مع إنتاج أدب الحرب من خلال معايشته التجربة في المدينة أو القرية، فالحرب تجربة عامة ويمتد تأثيرها ويشمل كل جوانب الحياة ومواقع الناس، وعلى الكاتب أو الشاعر أن يكون صادقا مع نفسه فقط.
** هذه الرواية نشرت بعد روايتي الأولى "أيام يوسف المنسي" والحقيقة أنني كتبتها أولا، ثم نشرتها بعد نشر "المنسي" وذلك لظروف النشر وليس لأي سبب آخر. إن التجربة الحربية التي عشتها لأربع سنوات أثرت في وجداني وربما إلى الآن، وإن اختلف التناول والرؤية.
كل ما يمكن قوله حول هذه الرواية أنها ليست تجربة خاصة نقلتها إلى الصفحات.. لكنني بالتأكيد عشت مفرداتها ولملمت جوانبها أثناء فترة المعارك تحديدا، خصوصا أن الرواية تبدأ في الأول من شهر رمضان أي قبل المعارك بعشرة أيام وحتى مارس 74 حيث انتهى حصار القوات الإسرائيلية عن مجموعة كتيبة المشاة المصرية التي احتلت حصن كبريت.
* من وجهة نظرك.. ما أهم الأعمال الإبداعية التي تناولت الحرب بصفة عامة سواء في مصر أو خارجها؟ وما رأيك في الأعمال السينمائية المصرية التي أنتجت حتى الآن عن نصر أكتوبر 1973؟
** الحقيقة أن إبداعات أدب الحرب لم تلق الاهتمام النقدي الواجب، وإن اعتمدتُ على ذوقي الخاص فأقول بلا تردد أن أعمال يوسف القعيد وجمال الغيطاني ومحمود الورداني وفؤاد حجازي ورضا البهات وفتحي إمبابي وصلاح عبد السيد وأحمد الشيخ ومحمد عبد الله عيسى وأحمد حميدة ومصطفى نصر وسعيد بكر وكثيرين غيرهم من أصحاب الأعمال المتميزة، قرأتها بحب واستمتاع لأنها غطت الجوانب الفنية كأعمال إبداعية ثم الخوض في التجربة الحربية بصدق. وفي خارج مصر أعمال لوركا، وهيمنجواي، وغسان كنفاني وغيرهم.
أما عن الأعمال السينمائية المصرية فلا تلقى أي جانب من جوانب اعتبارها أعمالا حربية أولا ثم من الأعمال التي تناولت أكتوبر 73 بحق وصدق.
لكن ينتظر من المؤسسات الكبرى في البلد تبني ذلك الفيلم السينمائي بلا تردد، وتقديم أحداث أكتوبر وما قبله بكثير من الجمال الفني والصدق ودون بخل في الإنتاج، خصوصا أن مثل تلك الأفلام في حاجة إلى إنتاج باهظ التكاليف. ومعلوماتي أن القوات المسلحة وإدارة الشئون المعنوية بالذات بصدد التصدي لهذا المشروع القومي الكبير.
* تبدو في رواياتك الثلاث "السمان يهاجر شرقا" و"أيام يوسف المنسى" و"العتبات الضيقة" وكأنها ترصد لتطور الأوضاع في الواقع المصري؟
** الرواية الأولى "السمان يهاجر شرقا" حول التجربة الحربية فى السبعينيات من القرن الماضى. اما الرواية الثانية "أيام يوسف المنسى" والثالثة "العتبات الضيقة" فهما حول متغيرات عقد الثمانينات من القرن الماضى، وفيهما رصد لكل ظواهر العقد من تأثير الانفتاح التجارى الذى شاع، وتأثير ذلك على القيم والمفاهيم الاجتماعية، فضلا عن التركيبة الاجتماعي ذاتها.
فرواية "أيام يوسف المنسى" تتبع مجموعة من سكان مساكن الإيواء حيث العشش والمساكن الخشبية، وحيث الافتقار الى ضروريات الحياة اليومية. أما "العتبات الضيقة" فهى ترصد تلك المتغييرات (فى المقابل ربما) على الحياة الاقتصادية والاجتماعية على منطقة نص البلد أو وسط المدينة.. ففى القاهرة مثل كل العواصم الكبرى، تلخص منطقة "نص البلد" كل ملامح الحياة بالبلدة نفسها. وان ارتبطت الرواية بتجربة إنشاء جماعة نصوص 90 الأدبية، فهى معبرة على المتغيرات أكثر، وقد انتهت بتمرد جنود أفراد الأمن المركزى وهم من هم، حتى ارتبط اسمهم بالسياسة قبل الأمن.
لذا كان من الطبيعى أن تكون الرواية الثالثة التى تشغلنى الآن حول البحث عن الأسباب لكل ما طرح فى الروايتين السابقتين عليها، وان كانت تدور أحداثها فى الإسكندرية وحول قلعة قايتباى، مستلهمة من التاريخ نتف تضيف الى الفكرة.