الطلائع يبحثون عن تاريخهم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الأدوات المفاهيمية لتغير الموقف المعاصر داخل الفنون
السويد ـ لينا هامر جرين
في أوقات الازمة سواء كانت اقتصادية او سياسية او جمالية بطبيعتها، ربما ينظر الانسان نحو المستقبل او نحو الماضي من اجل الحصول على "الادوات" المفاهيمية لفهم تغير الموقف المعاصر داخل الفنون، ويعتبر النزوع نحو البحث في داخل الماضي ـ اكثر من خلق المستقبل او اطلاق البيانات الفنية المثالية، احد التيارات الحالية. ومن الامثلة الحديثة حدث هذا العام الخاص بالفنون الجميلة والذي يقام كل عامين في فينيسيا بايطاليا. ويرى النقاد الفنيون ان ذلك الحدث في عام 2003 يؤكد التعددية والتجريب بطريقة مستلهمة من الستينيات عندما كانت المناقشات المتعلقة بتعريفات الفن والنماذج المثالية معروفة جداً، وكذلك الحوارات بين الفن الجميل والثقافة الشعبية. بهذا المعنى يمكن ان نتكلم عن عودة للتاريخ وهي عملية تكشف عن الجذور الجمالية للفنون الجميلة. مع ذلك رأى بعض النقاد الفنيين ان هذا الحدث لعام 2003 يعبّر عن التنوع والتاريخية كمنظور ثقافي حيث تلاشت الثقة في التقدم.
في هذه المحاضرة، سوف اتحدث عن الموقف الراهن والذي فيه تتجه الفنون الادائية بنظرها ـ والرقص التجريبي بشكل خاص ـ نحو الماضي، وسوف استخدم امثلة من بلدي السويد وربما يعتبر هذا الموقف بالفعل نوعاً من المفارقة وذلك لان الطلائع او الفن التجريبي لا يتصل عادة بالتاريخية، لانه يتحدث عن المداخل الجديدة للموضوعات المتعلقة بالتعبير الفني.
والرقص بشكل عام له علاقة خاصة جداً ازاء تاريخه. فالرقص يعتبر اكثر الفنون زوالاً، معتمداً الى حد بعيد على شكل تقريبي، بمعنى يصل من الاستاذ الى الطالب ومن مصمم الرقص الى الراقص. ويمكن ان توجد الموسيقى وتصميمات خشبة المسرح، والملابس في شكل وثائقي يمكن استرجاعه، ولكن اهم مكون في الرقص وهو الحركة، يعتبر مفقوداً وبعد انتهاء العرض يصبح الرقص غير موجود، هذا بالمقارنة بالعروض المسرحية حيث يتكرر عرضها على خشبة المسرح. وبالنسبة لدارسي الرقص ونقاده فان هذا الموقف قد نتج عن تواريخ غير كاملة حيث اختفت رقصات عديدة ـ على الرغم من اهميتها في زمانها ـ من ذاكرتنا الجمعية.
الباليه التقليدي
ويتخذ هذا الموقف موضعاً مهماً بالنسبة لتقليد الطلائع في الغرب حيث نجح الباليه الكلاسيكي التقليدي في الاتصال بتاريخه بطريقة مختلفة وذلك لان فرق الباليه ما زالت تستخدم مفردات الحركة والتي بدأت في تطويرها اثناء القرن السابع عشر واصبحت ذات نظام في القرن التاسع عشر وما زالت الباليهات الكلاسيكية الشهيرة يعاد عرضها منذ القرن التاسع عشر مثل "بحيرة البجع"، و"الجمال الناعس"، و"جيزيل" وغيرها. ومع ذلك لان اسلوب الحركة قد اختل قليلاً اثناء القرون الماضية، فقد كانت هناك محاولات لاعادة تكوين الرقصات التاريخية وكذلك اساليب الرقص بطريقة مماثلة للموسيقى حيث عمل مثلاً الموسيقيون مع الآلات الموسيقية التاريخية من اجل تحقيق الاصالة. وهكذا فان إعادة البناء كمفهوم صار هاماً جداً للرقص اكثر من اهميته للمسرح، ولكن فيما يتعلق عادة بالاشكال التقليدية للرقص المسرحي وبسبب هذه الخصائص المختلفة بشكل جوهري بالنسبة للمسرح وللرقص، اعتقد انه من الامور الهامة والحيوية دائماً ان تتضمن مناقشتنا للمسرح التجريبي الرقص، حيث ان الاختيارات الفنية وتطوراتها قد تتخذ اتجاهات متباينة.
ومن العوامل الاضافية ـ عندما يصل الامر الى نقص معرفة المرء بتاريخه الجمالي ـ فاننا نتعامل مع سياسة الريبورتوار في العقود الماضية، حيث قدمت عروض رقص جديدة لمرات قليلة او لفترات قصيرة من الوقت ونادراً ما اعيد تقديمها. ومن ثم فان هذه العروض قد وصلت لجمهور محدود وتم نسيانها بسهولة.
الرقص المتكلم
وعولج هذا الموقف في السويد بطريقة جوهرية فيما يتعلق بمهرجان للرقص اطلق عليه "الرقص المتكلم" والذي نظم عام 1997. ان حداثة المهرجان كانت تتركز في ان فناني الرقص الطليعي ارادوا ان يزوروا الماضي ثانية واضعين اهتمامهم على العقود القليلة الماضية. لقد تعلم العديد من مصممي الرقص او عملوا في الولايات المتحدة الاميركية في السبعينيات وهي الفترة التي اثرت فيها ماليات ما بعد الحداثة على الرقص الطليعي. وهكذا بنى مهرجان "الرقص المتكلم" نتيجة سلسلة من العروض وورش العمل والابنية الجديدة والمناقشات مع التركيز على جماليات السبعينيات الاميركية، وتأثيرها على الرقص الاسكندنافي. وبالتالي كانت معظم العروض اميركية الاصل ولكن احدى مصممات الرقص السويدية ـ مارجاريتا آسبيرج ـ قامت باعادة بناء احدى رقصاتها "قارب النجاة" من 1976 ويعتبر هذا الرقص ـ بجمالياته اقرب للفن التمثيلي عن الرقص بالمفهوم التقليدي ـ احدى نقاط البداية للرقص التجريبي في السويد، ولكن رآه القليل جداً من الناس واستطاعوا تقييمه وفهمه.
قام بالتمثيل في عرض "قارب النجاة" امرأة واحدة، ووقعت احداثه على مركب للنقل راس في احد المرافئ العديدة في ستوكهولم. ويبدأ العرض بامرأة تنهض من تابوت خشبي. وبينما كانت تتجول بين الاحواض المليئة بالرمال والتراث والحشائش وكان الممثلون يؤدون اشياء اخرى. وفي هذا العرض كان بعض الممثلين واقعيين كما كانت تفحص وجهها في المرآة وتحاول ان تسير على حواف الاحواض. وآخرون كانوا اكثر رمزية بطبيعتهم ـ كما في نهاية الرقصة ـ والتي قدمت مثل التطهر الطقوسي والتي فيها كانت المرأة تلطخ نفسها بالدقيق قبل ان تغطي نفسها بالتراب. ولقد قدم الراقصون رحلة انتقالية وربما كانت دورة حياة من فتاة شابة الى امرأة ناضجة انشغلت باستقصاء العالم وعناصره المختلفة وكذلك بالتعبير عن الفضاء وباكتشاف التوازن والوزن.
عرض "قارب النجاة" ثلاث مرات فقط في 1997، ولكنه ادى الى مناقشة مكثفة حول الحاجة لاعادة بناء الرقصات من ماضي الرقص الطليعي، ومن ثم يصبح من الممكن معرفة مشتركة للاهتمامات الجمالية للعصر، وكذلك مناقشة نقدية للتعبيرات الفنية التي امكنها تغذية الموقف المعاصر، ومن يساعدنا ذلك على فهم الرقص بطريقة أكثر عمقاً. وباستلهام هذه المناقشات، اعادت مارجريتا آسبيرج بناء نوع من الرقص الاضافي منذ 1979، "الأهرام"، هذا العرض الذي قدم لأول مرة في عام 2001. ويُعتبر هذا العرض اول رقص سويدي معتدل، ولكن بناءه يكشف عن انه ليس رقصاً يتعامل بمفرده مع الشكل والبناء، حيث انه مشبع بالخيال الرمزي الذي يركز على العلاقات بين الفوضى والنظام، وبين الذاكرة والنسيان، وأيضاً يتعلق بالطريقة التي ترجم بها الفولكلور الأوروبي صورة الهرم المصري، بمعنى انه يرمز للأرض بوجهها الأمومي، وكذلك الفكرة المزدوجة عن الموت والخلود (والتي تتساوى مع النسيان والذاكرة).
يتكون عرض "الأهرام" من ثلاثة اجزاء واضحة. أولها مقدمة تتضمن شخصيتين على خشبة المسرح: امرأة تنثر الرماد ببطء على الأرضية ثم تمسكه بشكل متكرر، ويوجد أيضاً شكل مرتدي السواد والذي يبحث في الفضاء بقوة مستخدماً الحركات الأكروباتية وتقوم المرأة بدور الذاكرة والتي تتناول بحرص آثار الماضي، اما عن الشكل الأسود فإنه يثير صور الموت والفوضى، ولكنه في بعض الأحيان يمزج الصورتين معاً كما ينظم الأحداث. اما عن الجزءين الثاني والثالث فيطلق عليهما القسم السود والأبيض على التوالي ويؤدي القسم الأسود في ضوء مزعج حيث يرتدي الراقصون الملابس السوداء ويتناولون شرائط سوداء مرنة تغطي الأرضية بشكل متقاطع. وبهذه الشرائط يظهر الراقصون وكأنهم يقيسون الزمن والفضاء، تقريباً بدقة رياضية. اما عن الجزء الثالث وهو القسم الأبيض فهو يعود الى استخدام هذه الشرائط، ولكنه الآن يستخدم تعبيرات اكثر وجدانية او حتى سحرية، وذلك عندما تستخدم الشرائط ا لبيضاء لصور الفضاء المرئي بلا حدود. وفي القسم الأبيض، فإن الراقصين لا يقيسون فقط الفضاء وعلاقته بالجسم الانساني، فهم في فضاء جديد أو عوالم جديدة.
ينتهي العرض برجل يتوازن وهو ممسك بمجداف ضخم في يديه، وهو بذلك يوحي بالأسطورة القديمة المرتبطة برحلة الانسان الى مملكة الموتى. وتصاحبه مجموعة من الراقصين يدورون بسرعة بأقماع حديدية كبيرة على خشبة المسرح حيث افرغوا محتواها تاركين ست أكوام من التراب على الأرض، وهكذا يمكن للحياة ان تبدأ من جديد.
وبالمعنى الظاهر فإن هذا الرقص لا يبدو انه يعلق على عالمنا الحاضر فربما يكون مجرداً ومعنوياً ليسمح بمثل هذا التداعي المباشرة. ولكن التجاورات الدرامية المتعلقة مثلاً بالأسود والأبيض والدقة الرياضية في مقابل الخيال الرمزي، وكذلك الذاكرة والموت، هذه التجاورات تتحدث إلينا عن مشكلات وجودية، مع أنها تفتقد الخط القصصي الواضح.
ما بعد الحداثة
في 1979 عندما قدم الرقص لأول مرة حصل على التأييد ولكنه اعتبر أيضاً عرضاً هامشياً بسبب تعبير ما بعد الحادثة الذي يتضمنه، وفي هذه الحالة فإن تركيزه على الشكل لم يكن مقبولاً بعد او مستحسناً داخل الفرق الثقافية واسعة المدى في السويد. مع ذلك فإنه في عام 2001 استقبل العرض بشكل مختلف. وحصل على التصفيق كأحسن عرض للعام، كما ان من شاهدوه في 1979 واستطاعوا ان يشاهدوه مرة اخرى على مدى عشرين عاماً امتدحوه على أنه اصبح من الممكن فهمه وتقييمه بشكل مختلف عنه في السبعينيات. أدلى أحد النقاد بملاحظته، بأنه يرى ان الرقص ينتمي للموقف المعاصر وهو وقت الأزمة وقال انه يرى ان عرض "الأهرام" حل ضد المثالية. بمعنى أنه لا يقدم اي وعود مثالية لعالم افضل، وبدلاً من ذلك يأمل في مستقبل يُعبر عن نفسه في التأكيد على خبرة هنا والآن والتي قدمها العرض في للحركة الموحية للصور الماضية والمعاصرة. ويتلخص ذلك في ان المرء يمكنه ان يقول ان شكل العرض وجمالياته لا تعتبر جديدة او تجريبية أو حتى هامة جداً ولكن القراء المعاصرة واستقبال العرض قد أضفى معنى جديداً للرقص وجعله ممكناً ان ينتمي للموقف المعاصر اكثر من ادراكه كعرض تاريخي.
ونتيجة لهذه الأبنية الجديدة المختلفة ومهرجان "الرقص المتكلم" قررت مارجريتا اسبيرج وفرقة مسرح الرقص الحديث shy; والتي تعمل فيها آسبيرج فنية shy; ان تبدأ مشروعاً أطلق عليه "استعادة الذاكرة"/ "Retro Memo" (يتضمن هذا العنوان استعادة ذاكرة جمالية/ ثقافية مشتركة وكذلك انتاج النصوص النقدية والمكتوبة حول التقليد الطليعي). ويهدف هذا المشروع الى دعوة مصممي الرقص والراقصين الذين عملوا في السبعينيات والثمانينيات، ويؤيد اعادة بناء الرقصات التي كانت موجودة في تلك الفترات.
الجذور
والسؤال هو كيف يجب ان نفسر هذا البحث عن الجذور التاريخية؟ ربما يكون من الصعب اكتشاف سبب واحد وراء هذا الاختبار في زيارة الماضي ثانية. ولكنني اعتقد في وجود مجموعة اكثر تعقيداً من الدوافع خلف ذلك ويمكن للمرء ان يدافع عن تقديرين ايجابيين وسلبيين في نفس الوقت. فمن منظور سلبي يمكن للمرء أن يتساءل ما اذا كان جيداً ان تختار بعض العروض فقط وترتب قانوناً جديداً للأعمال التجريبية والتي سوف تقف كعلامة على التحسن الفني. ان جوهر الاتجاه الطليعي ليس اعمالا فنية جديدة يمكن أن توضع في قائمة من العروض الرائعة فقط بل ان الهدف ابعد من السؤال او النقاش حول قيمة ومفهوم التجربة الفنية. ومن منظور ايجابي فإن اعادة بناء التاريخ الطليعي جعل من الممكن رؤية هذه العروض بعيون العالم اليوم وأن نستخدمها ليس لوضع قوانين لأعمال الرقص ولكن من اجل مناقشة المثاليات الجمالية وعلاقاتها بعالمنا المعاصر.
بالنسبة للرقص على وجه الخصوص shy; بسبب زواله المؤكد يمكن النظر اليه كشهادة قوية ومثيرة لرفض هذا الموقف المتعلق بتغيره المشهدي الدائم، وبدلاً من ذلك shy; من خلال استخدام الأبنية الجديدة shy; ندافع عن الجسم الراقص والحركات الجسمانية وهي تشكل الجزء الصلب من تاريخنا الفني. ولقد قيل عن الفنون الأدائية ان الكتابة التاريخية (والمعاصرة) تسيء الى مادية الأشكال الفنية وذلك من خلال مجالها المحدود الخاص بأشكال المحاكاة. وفي هذه السياق، يمكننا ان ندرك ان أبنية الرقص الجديدة هي التي تقدم لنا نوعاً مختلفاً من الكتابة او المحاكاة التاريخية والتي ليست محدودة بنفس المعنى الذي عليه النصوص المكتوبة.
بالاضافة الى ذلك، من الممكن ان يكون اعادة البناء لعرض "الأهرام" مدفوعاً بالاستعمال التفسيري للثقافة المصرية القديمة والتي وصفتها مارجريتا اسبيرج كانعكاس للزمن وللفضاء وللطاقة، وهي بالنسبة لها تعبير خالد وكوني ينجح في تحاوز السياقات التاريخية المحددة. ان التأكيد على الصور المصرية القديمة في السياق الاسكندنافي المعاصر يمكن رؤيته كجهد لمزج ثقافات مختلفة. ربما يكون هذا التصور ساذجاً ولكنه ما زال تعبير قوي عن ايمان بالحاجة للفهم المتبادل لكيفية مواكبة مشكلات عالم اليوم. وفي اعادة بناء كحل من "قارب النجاة" و"الأهرام"، يبدو ان آسبيرج تلفت انتباهنا الى أهمية تذكر ليس فقط التاريخ الطليعي ولكن تواريخنا ايضاً وذلك لأننا نتشارك في نفس المشكلات والاهتمامات الوجودية ويمكنني ان أشير الى احد نقاد الرقص الأميركيين والذي كتب عن الرقص السويدي المعاصر في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينيات ووجد انه يستدعي "حالة الانسان الوحيد التراجيدي بشكل جوهري "أمام أفراد تقتحمهم الحوافرُ النفسية غير المتوقعة أو القوى التاريخية التي لا يمكن السيطرة عليها" (يونية قبل تصميم الرقص الثقافي ستوكهولم، 1989) فرقصات آسبيرج من السبعينيات تحدثنا اليوم عن احوال مختلفة تماماً بينما يتفحص ويبنى الأفراد والمجموعات حيوات جديدة ومن ثم يكتشفون بالفعل الثقة في التقدم.
ترجمة: جيهان ابراهيم خريبة
قدمت هذه الورقة في الندوة الفكرية التي عقدت في مهرجان القاهرة التجريبي الثامن عشر، والكاتبة سويدية الجنسية