ثقافات

في ذكرى مدني صالح

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
د. حسن ناظم: مدني صالح (1932-2007) ـ الذي توفي يوم الخميس 19 تموز/يوليو 2007 ـ أستاذ ومدرس للفلسفة، وهو فيلسوف بمعنى خاص، وناقد أدبي لا منهج لديه سوى وجدانه وخبرته الخاصة. فوق ذلك كلّه، يشخص هذا الكاتب، وصاحب المقالات المميزة في الذاكرة كشخصية لا تخلو من الالتباس والخصوصية. يبدو مدني صالح، لمن يعرفه ومن لا يعرفه على حد سواء، رجلاً غريب الأطوار، تماماً كغرابة أطوار أستاذ العربية الشاعر عبد الأمير الورد الذي توفي في مثل هذه الأيام قبل عام، فجر الخميس أيضاً، في 13 تموز/يوليو 2006.
في العام 1986، درسنا مدني صالح مادة الفلسفة لغير الاختصاص في قسم اللغة العربية/ كلية الآداب/ جامعة بغداد. لم ترُقْ طريقة تدريسه لأغلب الطلبة. تبدأ المحاضرة في الصباح الباكر (الثامنة والنصف)، وحالما يدخل الصفّ الدراسي يشرع بالتدريس بصوت خافت. وكما هو معهود، لا يلتئم شمل الطلبة في الصف إلا بعد حين، فكثير منهم يتأخر في الحضور إلى المحاضرة. يتقاطر الطلبة واحداً بعد الآخر، ومدني صالح يتكلم بصوت خافت، ينسلّ الطلبة بلا استئذان كما طلب هو منهم مرة، حتى لا يعترض المحاضرة لغط. لم يكن يهمّه أن يتأخر الطلبة عن موعد المحاضرة، وانسحب عدم الاهتمام هذا، بفضل تمادي الطلبة، إلى عدم اهتمامه بخروجهم من الصفّ في أثناء المحاضرة بلا استئذان منه أيضاً. كأن مهمته أن يواصل إلقاء المحاضرة حسب. مع ذلك كان يحدث بعض اللغط حين يلقي الطلبة التحية وهم يدخلون الصفّ؛ (السلام عليكم) فيردّ الصف مجتمعاً (وعليكم السلام). فيتوقف مدني صالح لبرهة متأملاً، ثم يقول بعتاب؛ كيف لم تتمكنوا من استنتاج أن السلام ممنوع في الصفّ، يبهت الطلبة "ممنوع!؟"، فيردف؛ السلام مستحبّ، وطلب العلم فريضة، ولا يجوز أن نؤثر على الفريضة بالمستحبّ.
من النادر أن يعرف أحد منا شيئاً مهماً عن حياته الشخصية، كان ثمة نوع من الغموض يكتنف كلّ شيء فيه. لكن من المؤكد أنه لم يكن يتطابق مع الشروط الأكاديمية التي يُفترَض وجودها في الأستاذ الجامعي.
مرة تجرأت على سؤاله عن قصة دراسته في كمبردج، وطبيعة المشكلة التي أثارها وأدّت إلى حرمانه من الشهادة، ابتسم مطرقاً، وقال كلمة لم أسمعها لخفوت صوته، وسكت، فانتابني حرج. في مناسبة أخرى، وأمام بوابة قسم اللغة العربية، كنتُ والدكتور عبد الله إبراهيم نتجاذب الحديث عن أطروحته السردية العربية التي أتمّها للتوّ، فظهر مدني صالح، فراح يحدثه عنها بشيء مخبراً إياه أنه استخدم أحد كتبه مصدراً فيها، أطرق مدني صالح ويداه في جيوبه، وابتسم، ولم ينبس بكلمة، وغادر بلا مبالاة تاركاً الدكتور عبد الله إبراهيم في حيرة
مدني صالح مقاليّ من طراز رفيع. وهو من القلّة من الأكاديميين الذين كان لهم وجود واضح في الصحافة العراقية، وذلك عبر مقالاته التي ثابر على كتابتها حتى بات يُعرَف بها وتُعرَف به. لقيت المقالات التي كان يكتبها مدني صالح في الصحافة صدى كبيراً في الأوساط الثقافية العراقية. بأسلوبه الساخر، الممتزج ببلاغة خاصة تغري القارئ بمواصلة القراءة إلى ما يشاء الكاتب، كان يعبّر عن أوضاع المجتمع العراقي. وقد توّج ذلك بإصدار مقاماته، مقامات مدني صالح التي كانت نقداً مبطّناً لظواهر معينة في المجتمع، وطريقة خاصة في الكتابة لم تلق الاهتمام الكافي بالدرس. يحمل مدني صالح في مقاماته على بنى التخلّف في المجتمع العراقي. فهي لم تكن تتوخى أصلاً نمطاً من الكتابة البلاغية المتصنّعة، بل للمعنى فيها حصة كبرى. هو ينظر بعين الناقد اللاذع إلى ممارسات مجتمعه، ويغوص في أعماق بناه ليفككها على طريقته المليئة بالسخرية، بل لينتقم من راعيها وحارسها ضمناً، وليقول في خضمّ نقده وفضحه لها أفكاره عن التغيير وضرورته.
النقد الذي كتبه مدني صالح في كتابيْه هذا هو السياب و هذا هو البياتي نقد يحتكم إلى ذوق خاص، وخبرة خاصة في الوصف والتقييم. بل هو النقيض مما كان سائداً آنذاك من نقد ينآى بنفسه عن التقييم ويشدد على الوصف. كلّ سطر في كتابة مدني صالح النقدية تطلق حكماً أو تنذر بإطلاقه. زد على ذلك عنايته بلغته النقدية التي لها مشتركات جمّة مع نثره الأدبي الساخر. ووسط هذا الحشد من التقييمات التي كان يطلقها مدني صالح، نعثر على أحكام مبالغ فيها، هي أشبه بالتصريحات الدعائية منها بالتقييمات. ولعلنا نتذكر بهذا الصدد حدثين: الأول قوله عن أشعار عدنان الصائغ "إنه أشعر العرب الذين جاءوا إلى الشعر بعد نزار والبياتي والسياب"، وفي هذا استحضار للكيفية التي يطلق فيها النقاد العرب القدامى أحكامهم على الشعراء، والثاني تصريحه بأنه لم يجد في مسرحية هاملت لشكسبير أيّ قيمة فنية أو غير فنية.
يُحسَب لمدني صالح تنزّهه عن التحزّب إلى أيّ شيء: الدين أو المذهب أو الحزب. لقد كان حرّاً بكلّ معنى الكلمة. ولذا كنّا ننفتح عليه بأفكارنا وهواجسنا مهما كانت، وهو في ذلك مثل الأستاذ الكبير الدكتور حسام الآلوسي. كنا نلقاه في أفق مفتوح وعريض في الوقت الذي ضيّق فيه بعض الأساتذة (مثل د. ناجي التكريتي و د. عبد الأمير الأعسم و د. علي حسين الجابري) على طلبة الفلسفة الآفاق لاهتمامهم بمعرفة قبائل الطلبة ومناطق سكناهم ومذاهبهم وانتماءاتهم. فكان أن عانى أبرز طلبة تلك المرحلة الذين شقوا طريقهم باحثين وأساتذة في حقل الفلسفة (الأستاذ علي حاكم صالح، و د. رسول محمد رسول، و د.صلاح الجابري، و د. منذر يونس، و د. أحمد راضي، والأستاذ نعمان جميل، وآخرين كثر) من ألوان من الاضطهاد، بينما كانوا يأنسون إلى مدني صالح ويجدون لديه سلواناً مع قلّة أخرى من أمثال د. حسام الآلوسي والأستاذة فاتنة حمدي.
ختاماً، يجدر التنويه بالكيفية التي كان مدني صالح يتعامل فيها مع الفلسفة. إذ لا نستطيع القول إنها كانت حقلاً دأب مدني صالح على الكتابة فيه، وإن كانت له كتب قليلة أبرزها كتابه عن ابن طفيل. بل يمكن القول إن أهمّ ما تركته الفلسفة من أثر في مدني صالح إنما كان في شخصيته وسلوكه المتمرد. لقد حارب مدني صالح بطريقته الجهل والنفاق والتخلف، وأكّد العقل والتفكير الحرّ وسيلتين للخلاص من أزمتنا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف