ثقافات

برغمان مخرجا مسرحيا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

د. فاضل الجاف خاص بايلاف: رغم مسيرة بيرغمان الطويلة في المسرح وإخراجه أكثر من تسعين مسرحية، فهو معروف خارج أوروبا كمخرج سينمائي، وهو يؤكد شخصياً على ميله للمسرح أكثر من االسينما، ولعل الدليل على صحة كلامه جاء في اعتزاله السينما بعد إتمام فيلمه "فاني والكسندر" عام 1982، واستمراره في العمل كمخرج في المسرح الملكي بستوكهولم، حيث كان آخر أعماله للمسرح إخراجه مسرحية (الاشباح) لإبسن.
رداً على سؤال وجهه إليه في مطلع الثمانينات الباحث المسرحي (ليس لوماركيز) مؤلف كتاب (انغمار بيرغمان ـ حياة في المسرح) بشأن مستقبل عمله في السينما والمسرح قال بيرغمان: أنوي إنجاز فيلم أو فيلمين أو ثلاثة ثم أعتزل العمل السينمائي. ولكن أتمنى أن تسنح لي الفرصة للاستمرار في العمل في المسرح إلى أن يحملوني خارجاً (يضحك).
ويشّبه بيرغمان علاقته بالسينما والمسرح بصورة مجازية معروفة لباحثي تراثه السينمائي، حيث يقول أن المسرح كالزوجة الوفية، أما السينما فهي كالعشيقة المكلفة. وكما أن الرجل دائما يعود إلى الزوجة الوفية بعد المغامرات الجانبية، فإن بيرغمان يعود إلى المسرح رغم قراراته المتكررة بعد كل عرض مسرحي (منذ مطلع التسعينات) وكانت آخر مرة قرر فيها الاعتزال عن العمل المسرحي بعد مسرحية "سوناتا الشبح" لأوغست ستريندبيرغ، كل هذا حدا به إلى القول: "إن ادراكي بأن كل مسرحية أخرجها آخر عمل لي، يجعل الأمر ممتعا أكثر للاستمرار"

مخرج سينمائي في المسرح، ومخرج مسرحي في السينما
والمتتبع لأعمال بيرغمان السينمائية والمسرحية والأدبية، يمكنه تمييز بيرغمان تمييزاً دقيقاً بين مفرداته وأدواته المسرحية عن السينما. إلا أن هنالك علاقة حميمية بين الفنين. والباحثون المسرحيون يولون اهتماماً خاصاً بأهمية هذه االعلاقة. وبهذا الصدد يقول الناقد السويدي "ليف زيرن" في كتابه (انظر إلى بيرغمان) : إن الباحثين المسرحيين نادراً ما يولون اهتماماً ببيرغمان السينمائي، ويستمر زيرن ليؤكد أن نصف أعماله السينمائية يقع في الظل.
ولعل الباحث السويدي إيغل ثورنكفيست افضل من بحث في حقيقة أهمية هذه العلاقة المتينة والمتممة لأعمال بيرغمان في المسرح والسينما. فقد خصص في كتابه (بين المسرح والسينما ـ بيرغمان يخرج) فصل الخاتمة لدراسة فكرة تبحث عن مدى كون بيرغمان مخرجاً سينمائياً في المسرح ومخرجاً مسرحياً في السينما.
فالحوار والبناء الدرامي والإضاءة وتكوين المشاهد القصيرة ذات الدلالات الرمزية، من الأمور التكنيكية السينمائية. أما من المسرح فقد نقل بيرغمان مؤثرات ووسائل مسرحية كالأقنعة موضوعة الدور وأسلوب الممثل في الأداء.
كانت مسرحيات ستريندبيرغ وإبسن وموليير تشكل الثقل الأكبر في عروض بيرغمان المسرحية على المسارح الكبيرة في مدن السويد الرئيسية وعلى المسرح الملكي في ستوكهولم، إلى حين مغادرته السويد بسبب مشاكله مع السلطات الرسمية بشأن الضرائب( )، وفي ألمانيا شكّل بيرغمان مع مجموعة ممثلين من الألمان الذين التفوا حوله فرقة باسم (رزدينت ثياتر Residentz Theater) بميونخ. ومضى على نفس المنوال في اختياره النصوص المسرحية، فكان برنامج الفرقة يضم بصورة أساسية مسرحيات: لستريندبيرغ : مسز جوليا/ إلى دمشق/ سوناتا الشبح/ لعبة حلم.. إلخ ومسرحيات لموليير: عدو البشر / طرطوف/ مدرسة الزوجات / دون جوان.. إلخ ، ومسرحيات لإبسن مثل بيرجنت / هيلدا غابلر/ البطة البرية/ جون غابريل بوركمان).

إعادة الشخصية الفنية إلى المسرح الملكي منذ وفاة شوبيرغ
ومنذ عودته من ألمانيا في مطلع الثمانينات واستقراره نهائياً في السويد تتركز أعمال بيرغمان في المسرح الملكي فقط، الذي عاد إليه ثانية كمخرج أول في الفرقة، والذي افعم نتاجاتها بشخصية فنية وسمات خاصة أعادت إلى المسرح الملكي أمجاده الفنية وعطاءاته الثرية التي عرفها في فترة المخرج السويدي القدير ألف شوبيرغ الذي أعجب به بيرغمان في عز شبابه أيما إعجاب. لقد كان شوبيرغ أول مخرج سويدي مفسّر لأعمال شكسبير، حيث امتازت معالجاته الإخراجية لشكسبير بالعمق والخصوصية في التناول والطرح إلى حد أن بيرغمان كما يقول نفسه، لم يجد ضرورة لإخراج مسرحيات شكسبير طيلة فترة عمل شوبيرغ، وبعد وفاة شوبيرغ نرى بيرغمان يختار "الملك لير" كأول إنتاج له حال عودته من ألمانيا عام 1985، تلت ذلك أعمال أخرى مثل "هاملت" و"حكاية شتائية". وعليه فإن المثلث ستريندبيرغ ـ إبسن ـ موليير تحول إلى ستريدنبيرغ / إبسن / شكسبير، طيلة الثمانينات، ولم يقدّم إلا عملاً واحداً (عدو البشر) لموليير، ليوقف عرضه بعد مدة، نتيجة استيائه من أداء الممثلين.

خصوصية بيرغمان في معالجاته الإخراجية لمسرحيات شكسبير
تضع الباحثة جاكلين مارتين في كتابها (الصوت في المسرح الحديث) انغمار بيرغمان في مصاف المخرجين المميزين، بيتر شتاين وآريان منوشكين، في تفردهم وخصوصيتهم في تناول شكسبير خارج العالم الناطق باللغة الإنكليزية. وترى مارتن أن جذور تلك الخصوصية البيرغمانية في تناول شكسبير تبلورت منذ إخراجه مسرحية "ماكبث" عام 1944. ويعتقد الناقد السويدي ليف زيرن ان المشكلة الرئيسية في تمثيل شكسبير في السويد تكمن في عدم فهم النص (إن مسرح شكسبير يبدأ وينتهي بفهم اللغة والنص. إنه لا يمكن تمثيل شكسبير من دون المعرفة التامة بالنص). وإذا كانت هذه المعرفة معدومة لدى المخرج فإنها بالتالي ستكون معدومة لدى الممثلين والجمهور أيضاً. وينطبق هذا الزعم على فترة ما بعد شوبيرغ إلى ظهور أعمال بيرغمان في الثمانينات على المسرح الملكي.

مهمة المخرج التعبير بصدق عن نص المؤلف
لقد جسّد بيرغمان في أعمال ستريندبيرغ وإبسن وموليير أفكار المؤلف (الصريحة والضمنية) في النص بأمانة، وهو يقول: "لا أقدر ولا أريد أن أخرج مسرحية أعادي فيها فكر المؤلف، لم ولن أفعل هذا أبداً".
إن الرؤية الإخراجية لدى بيرغمان نابعة من النص كتعبير صادق عنه، كونه يعد نص المسرحية (مسلكا خفيا إلى وعي المؤلف) وعلى المخرج أن يترجم، بلغته المسرحية الخاصة به، القيم والاختيارات الصريحة والضمنية التي يكتشفها في النص الذي هو التحليل النهائي واللغة الوحيدة التي يمكن أن يسمع الجمهور الحي من خلالها المؤلف.
في معظم لقاءاته يؤكد بيرغمان على أهمية النص إلى جانب الممثل والجمهور: "هذه العناصر الثلاثة ضرورية للعرض المسرحي: الممثل والنص والجمهور، ولا شئ آخر. اما المسرح، المناظر، المخرجون، البطاقات، المال، الأزياء، كل شئ باستثناء العناصر الثلاثة المذكورة غير ضروري". أما مهمته كمخرج فتتلخص في تجسيد القيم الفكرية والجمالية في النص وإحيائها على الخشبة: "أسعى فقط إلى تجسيد المسرحية وجعلها تعيش حية في قلوب المشاهدين وهذا هو هدفي الوحيد وأنا أحاول أن أنقل العدوى إلى الممثلين بالنسبة لهذا الهدف. وهم يمنحونني مقابل ذلك أشياء كثيرة".

الكلاسيك أكثر تعبيرا عن مشاكل الإنسان المعاصر
ويرى بيرغمان أن النص الكلاسيكي يحوي مادة ثرية نابضة بالحياة وإنه يعبّر عن معاناة الإنسان المعاصر ومشاكله أفضل من المسرحيات المعاصرة، وما إخراجه المتكرر مسرحية "ماكبث" إلا دليل ساطع على محاولة بيرغمان الرامية إلى تأصيل هموم الإنسان المعاصر في النص الشكسبيري.
في أول إخراج لماكبث مع مجموعة من الطلبة طرح بيرغمان موضوع اجتياح ألمانيا للدانمارك عام 1940 وفي إخراجه المسرحية للمرة الثانية على مسرح مدينة هيلسينغبورغ عام 1944، هاجم التوتاليتاريا النازية بعنف خالقاً من التضاد الصارخ بين اللونين الأسود والأحمر بعداً رمزياً معبراً عن الصراع الدامي من أجل السلطة، ويذكر أن هذا الرمز يتكرر في معظم أعمال بيرغمان الشكسبيرية. وعندما أخرج ماكبث للمرة الثالثة على مسرح المدينة في غوتيبورغ عام 1948، تعرض لنقد شديد بسبب تماديه في استخدام العناصر البصرية على حساب النص.
ويذكر أن بيرغمان لم يخرج أي عمل لشكسبير في الخمسينات والستينات، أي في العقدين اللذين أخرج فيهما المخرج البارع (آلف شوبيرغ) عددا من مسرحيات شكسبير برؤية معاصرة وأسلوب إخراجي متميز. وكان بيرغمان يبرر عدم تناوله أعمال شكسبير في تلك الفترة بقوله : لم أجد شيئاً جديداً أضيفه إلى إبداعات شوبيرغ. ويمكن القول أيضا أن تجربة بيرغمان تبلورت وشهدت قمة تطورها في سنوات المنفى بميونيخ واستمر هذا التطور في التصاعد في فترة عمله في المسرح الملكي منذ مطلع الثمانينات وإلى الوقت الحاضر.

تقنيات بيرغمان في المسرح الملكي
في فترة عمله في المسرح الملكي منذ عام 1984 أضاف بيرغمان ثلاثة أعمال لشكسبير إلى برنامجه الكلاسيكي ( ستريندبيرغ/ إبسن/ موليير) وأخرج بالإضافة إلى الريبرتوار الكلاسيكي عددا من الأعمال المتفرقة لمؤلفين من أمثال يوجين أونيل/ أميركي، بوتو شتراوس/ ألماني، يوكيو ميشيما/ ياباني، فيتولد غومبورفيتش/ بولوني و بيير أولوف كفيست / سويدي. وقد عكس من خلال هذه الأعمال رؤى ومعالجات وحلولا إخراجية ذات خصوصية بالغة. بعد عودته من ميونيخ، افتتح بيرغمان موسمه المسرحي على المسرح الملكي بمسرحية "الملك لير" عام 1984 بعد انقطاعه عن المسرح السويدي مدة تسع سنوات، ثم واصل إخراجه لأعمال شكسبير فأخرج "هاملت" عام 1986 و"حكاية شتائية" عام 1994. وبهذا يكون اسم شكسبير قد حل محل موليير الذي لم يخرج له بيرغمان غير"عدو البشر"، في مثلث بيرغمان القديم، وغدا المثلث الكلاسيكي الآن: ستريندبيرغ/ إبسن/ شكسبير. وتتسم معالجة بيرغمان مسرحيات شكسبير بسيادة لوني الأسود والأحمر في السينوغرافيا والأزياء والملحقات المسرحية، وبإلغاء المعمار المسرحي وإتخاذ المسرح الخالي فضاء للعرض مع التقشف في عناصر الديكور والتأكيد على التأثير الذهني للوقائع والأحداث على الممثلين إلى درجة أن وهم الأحداث (أو الإيهام بها) يمارس تأثيراً واضحاً على مخيلة الممثل.
في إخراجه المسرحيات المتفرقة نجح بيرغمان في إنشاء عروض متميزة فنيا ومختلفة تماما عن إخراجه الادب الكلاسيكي. فهو يحاول باستمرار تغيير وتنويع وسائله الفنية مجرباً شتى الأشكال والتقاليد المسرحية من عرض إلى آخر. فتراه يجرب على بعدي الزمان والمكان في مسرحية "الزمان والمكان" لبوتو ستراوس. ويقيم عرضا قوامه الغروتيسك واللامعقول في مسرحية "الأميرة إيفون" لفيتولد غومبروفيتش.

أفضية شاعرية أثقلتها المدرسة الطبيعية بالكآبة والملل:
ويعد الباحثان ( ليس لون ماركيز وفريدريك ج ماركيز) مؤلفا كتاب ( إنغمار بيرغمان/ حياة في المسرح) هذه السلسلة من أعمال بيرغمان بشكل عام بمثابة فاتحة جديدة لبرنامج إبداعي متميز في المسرح الملكي. ويعتبران إخراجه مسرحية "رحلة النهار الطويلة خلال الليل" لأونيل و"مدام دي ساد" ليميشيما قمة أعماله الإبداعية المتفردة.
في" رحلة النهار الطويلة" 1988 ركز المخرج على تجسيد فحوى الحياة وجوهرها من الصميم رافضا التقيد بمبادئ المنهج النفسي والطبيعي، فقد حرر بيرغمان المسرحية من أغلال المذهب الطبيعي التي ظلت ترزح تحت ثقلها لردح طويل من الزمن، بتحويل الفضاء التقليدي للمسرحية المتمثل بغرفة المعيشة إلى فضاء شاعري عار.
وقد حرص المخرج على إيصال الشحنات العاطفية من خلال فترات الصمت المتقطعة. وفيما يخص أداء الممثلين فقد كان أداء الممثلين قائما على تنسيق الحركات وضبط الإشارات والدقة في الإيماءات في عرض شاعري سماه أحد النقاد (حلم شاعر).
لعل الدقة في الأداء والصرامة في الحركة ورشاقة الإيماءات وهندسة الميزانسينات المموسقة بلغت كمالها في عرض مسرحية مدام دي ساد عام 1989، ففي إخراجه هذه المسرحية استفاد بيرغمان من أسس وتقاليد مسرح نو الياباني، دون إعادة نسخها حرفياً، لكن بإستخدامها في بناء العرض إستخداما موسيقياً تجلى في نسيج حركي دقيق وبلغة مسرحية مؤسبلة بعناية شديدة. فالأداء الشفوي حتى في أكثر مقاطع النص بلاغة وطولا يتطابق إيقاعياً مع هندسة الحركات المدروسة وكأنها مفاتيح وشفرات تفجّر براكين الشعور والأحاسيس.
لاشك أن بيرغمان استفاد من المنابع الأصيلة للتقاليد المسرحية في الحركة والإيقاع والأقنعة ولغة الأداء المجازية التلميحية. إن النفس الشاعري والجوهر الشرقي للتمثيل وموسيقية العرض، ميزات جعلت العرض يقف في عداد العروض السويدية الخالدة وهو بلا شك واحد من أجمل عروض بيرغمان. ولعل هذا يفسر سر صموده عدة مواسم في برنامج المسرحي الملكي.

بيرغمان في أعماله الأخيرة

في عام 1995 أعاد بيرغمان إخراج مسرحية "إيفون أميرة مقاطعة بورغونيا" ثانية، بعد أن سبق له إخراجها في ميونيخ عام 1980، وكان بيرغمان قد تعرّف على المسرحية بعد أن شاهد عرضها على المسرح الملكي بإخراج (ألف شوبيرغ، خلّده النقد المسرحي في السويد، وكان شوبيرغ متطلعاً إلى الأساليب والتيارات المسرحية الحديثة بشتى أنواعها وروافدها، وكان المبادر الى تقديم غومبروفيتش على المسرح السويدي. ومسرحيات غومبروفيتش تعد في ركاب مسرح اللامعقول (بيكيت ويونسكو) رغم معارضة الكاتب نفسه لهذا التصنيف، وقد سبق ـ في كل الأحوال ـ بيكيت ويونسكو في كتابة مسرحياته المتميزة بالدعابة والسخرية المرّة والغروتيسك واللجوء إلى شذرات من الأحلام والطقوس الدينية والخيال الرحب. ولا ينكر بيرغمان إعجابه بإخراج شوبيرغ إلى درجة أنه اقتبس مشهدا صغيرا بكامله من إخراجه، إلا أن بيرغمان يؤكد على الجانب الاجتماعي والتاريخي للمسرحية أكثر من تأكيده على الجانب الوجودي/ الفردي كما عند شوبيرغ.

وتدور احداث المسرحية حول أمير اسمه فيليب، حدث أن وقع بصره ذات يوم على فتاة قبيحة وفقيرة، منزوية وانطوائية، فوجد الأمير فيها فرصة ليسلي بها عن نفسه، كان يجد لذة كبيرة في جرح مشاعرها وإذلالها. إلا أن الفتاة بسبب انطوائيتها كانت تواجه كل أنواع السخرية والازدراء بالصمت. كانت إيفون ببساطة تعيش عالمها الخاص دون المساس بالآخرين. فهي تجلس هناك دون أن تهتم بإهانات الناس وبذاءاتهم. ولما لم يجد الأمير طريقة لإهانتها استحوذت عليه فكرة الزواج منها. وفجأة تهبط الفتاة الفقيرة القبيحة على البلاط وسط العائلة المالكة. هناك تمضى إيفون في تلقي الإهانات المتكررة والعذاب الدائم بسبب أحاسيسها الرقيقة وخوفها من الآخرين ولا قدرة لها غير الصمت. لكن صمت إيفون صمت قاتل يهدد الجميع ويدفعهم إلى الإفصاح عن رغباتهم الشريرة وكشف دواخلهم الحالكة. إن صمت إيفون ببساطة يزيح الأقنعة عن وجوه قوم ذوي شأن رفيع ويمتلكون سلطة غير محدودة. عند هذا الحد يرفع القوم أصبع الحسم، القرار بتصفية إيفون جسدياً.
ويعتقد الكثيرون أن عرض بيرغمان كان يمس شخصية الأميرة ديانا في بعض جوانبها. ومن الواضح أن إيفون في عرض بيرغمان هي رمز لجوهر الحياة المتمثل بالبساطة والتواضع إزاء غطرسة وقساوة الآخرين من أصحاب السلطة، وهي أيضا تمثل الحيوية والعنفوان مقابل رتابة وعقم حياة المتحكمين والمتنفذين في السلطة.
تكمن روعة المسرحية في أصالتها مضموناً وشكلا، فالفكرة الإنسانية بشأن موقف الإنسان من الإنسان قاسية تدين المجتمع بضراوة دون مساومة. ويظهر غومبروفيتش براعة فائقة في مزج أساليب متنوعة، ففي أسلوبه الإيحائي يذكّرنا ببراعة شكسبير في مسرحياته "حكاية شتائية" و"دقة بدقة" و"ملهاة الأخطاء". زواج الفتاة الصغيرة بالإكراه موضوع ذو أهمية بالغة في حبكة المسرحية وهو يذكرنا بموضوعات ديستويفسكي، أما الطابع الكاريكاتوري التهكمي والمبالغة في تصوير المواقف فتذكرنا بمشاهد من مسرحيات "أوبو"لألفريد جاري الذي مهد الطريق لمسرح اللامعقول.
يبقى بيرغمان كعهده وفياً لأفكار المؤلف مفسراً إياها بوسائل فنية كالأقنعة والتضاد في الألوان والخطوط وبناء الميزانسينات المعبّرة في المكان الخالي. ففي حين ركز شوبيرغ -كما يذكر النقاد- على تجسيد القيم الوجودية في النص، واضعا شخصية إيفون في المركز، نرى أن بيرغمان يصب اهتمامه على إبراز المجموعة في المقام الأول. وعليه تتحول مشاهد المسرحية إلى تشكيلات جماعية تعكس صمت واستسلام إيفون، وردود أفعال المجموعة (الطبقة العليا) وترتيبها الاجتماعي. إنه عرض لسقوط الأقنعة وكشف النوايا الشريرة خلف المظاهر الأليفة، أكثرمن كونه عرضاً عن معاناة إيفون الفردية، فصورة المجموعة هنا في تغيير مستمر وخلال هذا التغيَر تمتزج التراجيديا بالمهزلة، والجدية بالغروتيسك.
إن مجرى العرض يعكس تماماً عالم غومبروفيتش اللامعقول إلى حد الغروتيسك، بنسق موسيقى محكم، وعن طريق الإشارات والإيماءات والتعابير الجسدية الواضحة، إلى درجة أن فكرة المخرج الانتقادية للمجتمع الإنساني تبدو واضحة وقاسية دون مساومة أو رحمة. ولعل أكثر المشاهد تجسيدا لهذا الرأي هو المشهد الشبه الطقسي الذي يتم فيه قتل إيفون في البلاط ومشهد ظهور المتسول في القصر فجأة من تحت الأرض. ويشير بيرغمان بصدق في برنامج المسرحية إلى أن مشهد ظهور المتسوّل مأخوذ من عرض شوبيرغ.

عابدات باخوس ليوريبيديس
سبق لبيرغمان أن أخرج مسرحية "عابدات باخوس" كأوبرا مع المؤلف الموسيقي دانيال بورتس عام 1991 ثم عاد وأخرجها للتلفزيون عام 1993 وأخيرا أخرجها للمسرح الملكي عام 1996 وبمشاركة بورتس نفسه.
مسرحية "عابدات باخوس" آخر تراجيديات يوريبيديس وأكثرها غموضا، فقد تضاربت بشأنها آراء النقاد خاصة فيما يخص هدف المؤلف ورسالة المسرحية. هل أراد يوريبيديس أن يهاجم خلالها الاله ديونيسوس أم أراد أن يثني عليه؟ والمسرحية كما يقول الدكتور عبد المعطي شعراوي في مقدمة ترجمته لها إلى اللغة العربية "أصدق مثال على أن يوريبيديس لا يرغب في أن يفصح عما يريد".
يتناول يوريبيديس قصة معارضة بنثيوس ملك طيبة لعبادة الاله ديونسوس والتصدي لها ومحاولة منعها وانتشارها في المقاطعة. وبنثيوس يمثل الإنسان الواقف في مركز الأحداث والذي يسعى إلى تقوية الكيان السياسي وبسط سلطة الدولة على الدين وفي خضم طقوس العبادة ونشوة التعويذات التي يعتبرها بنثيوس مجرد مس من الجنون، تقوم والدته بقتله دون أن تعلم بذلك. وعندما تثوب إلى رشدها وتدرك فعلتها تلتجئ الى الدها كادموس لمواساتها، ثم تخاطب ديونسوس معترفة بالإثم: اعترف بذلك ولكنك اسرفت في العقاب.
لا يسعى بيرغمان إلى تثبيت فكرة معينة في العرض 1996 بقدر ما يؤكد نقل النص كما هو دون التحيز لطرف من أطراف الصراع. وكأن المخرج ينقل لنا صورة عن واقع تسوده الفوضى وهو يرى أن الفوضى حقيقة سائدة في العالم، ومادامت روح الآلهة مشبعة بالانتقام فلن يكون ثمة عدل وأمان. ولا يخفي المخرج يأسه وتشاؤمه من مستقبل الإنسانية، ويبدو هذا واضحاً من نغمة العرض الكئيبة رغم حيويته الإيقاعية. وفي هذه النقطة بالذات تكمن براعة بيرغمان الاخراجية، كيف يمكن للحزن والكآبة إيقاعا جيَاشا مرحا.
في "عابدات باخوس" يدفع بيرغمان ممثليه إلى التنويع في إطار التشكيلات الجماعية المعبّرة. العرض ممسرح بعناية بالغة والأداء معبّر ودقيق في مسرح خال من كل بناء ومعمار، إلا من قبر في الوسط، يركز بيرغمان فقط على النص وأداء الممثلين.
إن تأثيرات المعالجة الأوبرالية مازالت واضحة في الإخراج المسرحي، ويبدو ذلك جليا في البناء الموسيقي للعرض وفي الموسيقى التصويرية والمؤثرات الصوتية. حين تدخل الأخيرة بصورة عضوية في العرض خاصة في مشاهد ظهور ديونسوس.

ثلاثية بيرغمان المسرحية: الكلمة والممثل والمتفرج
"حكاية شتائية" لشكسبير برؤية جديدة
يقول بيرغمان نفسه، ان ولعه بالمسرح بدأ عندما كان صبياً يافعاً، بنى بالاشتراك
مع أحد أصدقائه وشقيقته مسرحاً صغيراً للعرائس وهو لا يزال في الرابعة عشرة من العمر. كان أول عرض لهذا المسرح الفتي هو مسرحية "الطائر الأزرق" لموريس ميتيرلينك. وقد جرت الاستعدادات لتقديم عملين آخرين هما: "الناي السحري" لموزارت و مسرحية " حكاية شتائية" لشكسبير. ولكن خطة الفرقة آلت إلى الفشل لأسباب مالية. ويقول بيرغمان أن حلم إخراج العملين ظل يراوده طوال سني حياته.
ولم تسنح له الفرصة المواتية لإخراج هاتين المسرحيتين إلا في عام 1971، حيث أخرج الناي السحري محققا بذلك جزءا من الحلم الذي راوده في صباه. ويذكر بيرغمان في إحدى المقابلات الصحافية : "لي ابن وابنة يملكان موهبة مسرحية وقد كنت أؤكد عليهما دائما بأن يحرصا على هذه المسرحية. إنها مسرحية للشباب". وطوال هذه المسيرة الفنية الطويلة لم يتحقق حلمه إلا في الموسم الربيعي لعام 1994. حيث يقدم المسرح الملكي في ستوكهولم "حكاية شتائية" من إخراج انغمار بيرغمان.
وعن ولعه بالمسرح الكلاسيكي يقول بيرغمان: إن السبب في اعتبار النتاج الكلاسيكي كلاسيكيا، يكمن في علاقة الكلاسيك بالوعي الإنساني. في كونه يخاطبك بوسيلة سرية. وليست هناك حاجة في أن نفسر ذواتنا من خلاله. وإلا فمن الأفضل أن نكتب نحن بأنفسنا، أو أن نبني على نصوص الآخرين كما فعل بريشت. والمتتبع لأعمال بيرغمان المسرحية يجد أنه مازال يؤكد على مفهومه السابق للمسرح بالشكل الذي صاغه في الستينات وعلى النحو التالي: "حسب نظريتي في المسرح هناك ثلاثة عناصر مهمة: الكلمة (وتشمل الحدث أيضا في رأي بيرغمان، ف.ج) و الممثل والمتفرج". الكلمة:
"حكاية شتائية" مسرحية شكسبير ما قبل الأخيرة وهي أقل مسرحياته شيوعا على المسارح في وقتنا الحاضر رغم أنها كانت من المسرحيات الرائجة في العصر الاليزابيثي. وقد كتبها شكسبير في بداية عام 1611 وهو في السابعة والأربعين من العمر. وقد جرى العرض الافتتاحي لها في مسرح (غلوب ثياتر) في الخامس عشر من شهر مايو (أيار) نفس العام.
يدعو ملك سيسيليا (ليونتيس) ملك بوهمين ليقضيا تسعة شهور حافلة بالسرور والاحتفالات المستمرة. وحينما يعلم الملك ليونتيس بأن زوجته حامل تمتلكه الغيرة والشك فيزج بالملكة في السجن. أما الطفلة فيلقى بها في العراء حيث تشاء الأقدار أن تلتقي بابن الملك بوليكسينيس فتنشأ بينهما علاقة حب تنتهي بزواجهما وبمباركة ملك سيسيليا. تنتهي المسرحية نهاية سعيدة، أما الملكة التي ماتت في السجن حزنا فقد نصب لها الملك تمثالا من الحجر الذي تعود إليه الحياة ما أن يتصالح جميع الأطراف.
الظاهر أن هنالك مآخذ كثيرة على حبكة المسرحية. أهمها عودة الحياة إلى تمثال الملكة الحجري وصعوبة تفسير هذا المشهد وتصديقه. هل كانت الملكة على قيد الحياة طوال هذه السنوات، تقضي حياتها خلف تمثال من الحجر؟ هل يقصد شكسبير بذلك أن الفن يهزم الموت؟ يعتقد جورج برناردشو أن شكسبير لا يضع النقاط على الحروف في هذه المسرحية وأنه يكتب بأسلوب غير واضح. ومهما كانت رؤية المعاصرين لهذه المسرحية فإنها كانت موضع إعجاب الجمهور في حينه، ولكن بعد إغلاق المسرح (غلوب ثياتر) عام 1642 وافتتاحه ثانية بعد 18 عاما لم تجد المسرحية طريقها إلى خشبة المسارح، وقد ظلت منسية قرابة قرن بأكمله. ومن الأرجح أن الممثل (كين) كان من أوائل الممثلين الذين تعرضوا لهذه المسرحية بالتمثيل. أما في عصرنا الحالي فيمكن القول بأن إخراج بيتر بروك لها عام 1952 مع الممثل جون جيلجود في دور ليونتيس كانت خطوة مهمة في حث المخرجين للاهتمام بهذه المسرحية، وبالرغم من تضارب الآراء حولها فإنها تدل على أن شكسبير لم يعد يريد المضي في تصوير شخصياته تصويراً نفسياً عميقاً مثلما فعل في تراجيدياته الشهيرة. ويقول الناقد السويدي ميكايل تيم: "ربما من الأجدر أن نقول أن شكسبير في أعوامه الأخيرة كان يحاول أن يجدد مسرحه بابتكاره شكلا مسرحيا بسيطا ذا طابع شعبي سهل وحبكة عامرة بالأحداث المتعاقبة السريعة والأغاني والرقصات".
ورد في إحدى قصائد الشاعر السويدي كارل لاف آلمكفيست أن الصالة الفخمة في قلعة الصيد ستشهد حفلة مسرحية بهيجة. حفلة تدخل البهجة إلى القلوب في أماسي الخريف الحزينة والليالي الشتائية الدامسة. وانطلاقا من شاعرية المكفيست ينقل بيرغمان أحداث "حكاية شتائية" إلى قلعة الصيد السويدية بأرضيتها الزرقاء رغم الاختلاف الزمني الشاسع (ثلاثة قرون) بين العالمين. فالحضور في الصالة الكبرى داخل قلعة الصيد هم الجمهور الحقيقي، وهم مجتمعون بانتظار بدء العرض.
وفي عرض بيرغمان 1994 يتفاجأ المتفرجون أثناء دخولهم صالة العرض بوجود الممثلين فيها، فيختلطان بالبعض. يبني المخرج عرضه بناء موسيقيا دقيقا، قائما على أرضية نص شكسبير الشاعري. والموسيقى هنا مجسدة في إيقاع الممثلين وحركتهم المدروسة، في إشاراتهم وإيماءاتهم الدقيقة، وفي فهمهم للزمن المسرحي. ان الممثل يفجّر سيلا من الشعور الدافق، وهذا أسمى غاية يبلغها الممثل عند بيرغمان: "إن علاقتي بالمسرح ليست ثقافية بالمرة. إنها علاقة شعورية". بيرغمان/ حوار) وهي العلاقة نفسها بين النظارة والممثلين. والحيز المسرحي في مفهوم بيرغمان لا ينحصر في المساحة المسرحية المتمثلة بخشبة المسرح، بل يتعداها ليشمل الحيز المحصور بين الممثلين والمتفرجين. "إن الفضاء المسرحي يحدده أولئك المتفرجون الذين يديرون وجوههم على بعضهم. والعرض المسرحي يتشكل في نفوس المتفرجين. لكل رقعة مسرحية هنالك موضع يرى فيه الممثل ويسمع بشكل أفضل. ولو وضع الممثل في هذا الموضع لبلغ الحد الأقصى للتأثير. فلكل حيز مسرحي نقطته المشعة الخاصة به من حيث علاقته بين الخشب وصالة العرض ووظيفتنا هي البحث عن هذا الحيز قبل كل شيء". بيرغمان/ الحوار)
ان اللغة المسرحية في "حكاية شتائية" نابعة من التشكيل الموسيقي لأجساد الممثلين في الفضاء العاري. مكتفية بتفصيلات قليلة من الديكور يثبت بيرغمان أن المساحة العارية هي أكثر الآفاق المسرحية شاعرية، حيث تتموسق الحركة ويبرز الجسم هندسته والإيماءات تخضع لصرامة النبض الداخلي للعرض المسرحي. "أحد الأسباب التي جعلتني أكف عن استخدام الديكور أكثر وأكثر هو أنني أرى كل عامل ديكور على المسرح، كل رفعة ستارة أوكل رفع و إنزال قطع الديكور هو لحظة إفساد للعرض المسرحي".

مغامرة تجريبية لانغمار بيرغمان: خطوة في الزمان
قبل إقدام بيرغمان على إخراج مسرحية " الزمان والمكان" للكاتب المسرحي الألماني بوتو ستراوس لم تضم قائمة أعماله الإخراجيه على المسرح الملكي عام1993 مؤلفين من جيل الشباب.
هذه القاعدة ظلت ثابتة عند بيرغمان طوال أكثر من عقد، لكنه خرج منها في مسرحية " الزمان والمكان". و تتصف هذه المسرحية بطابع تجريبي بعيد عن الأجواء التقليدية السائدة في المسرح النفسي. فهي لا تعتمد البناء والحبكة كما في مسرحيات إبسن وتشيخوف مثلا. المكان هنا غرفة يعيش فيها رجلان يتحدثان عن امرأة وهي تعبر الشارع المقابل للمنزل، لنرى أنها بعد لحظات تدخل عليهما لتلعب دورا حاسما في أحداث المسرحية، إن للزمان أبعاداً متداخلة، أما المكان فهو فضاء للسفر والترحال، أما الإنسان ففيه مسافر طليق. لكنه طليق خارج حدود الزمن.
والمعروف عن ستراوس أنه في نتاجاته الأدبية مفكر أكثر من كونه روائيا وكاتبا مسرحيا. فهو من مواليد الأربعينات الذي ورث تقاليد المسرح الطليعي الألماني بين الحربين العالميتين. وخصوصيته في التأليف المسرحي تكمن في طريقته المتميزة في بناء الشخصيات الواردة في مسرحياته. فالشخصيات تكشف عن نفسها في مشاهد سريعة من الدخول والخروج، التجمع والتفرق الالتقاء والانصراف. إن خلق صور إنسانية في شريط سريع وحاد ومن خلال صور وحالات مشروطة أسلوب يمكن أن نطلق عليه تسمية المونتاج الداخلي للشخصية المسرحية. فالبناء النفسي معدوم أساسا. أما الفكرة الرئيسية للمسرحية فتدور حول فقدان الاتصال والتفاهم بين البشر.
من الواضح أن بيرغمان يهدف في اختياره هذا العمل إلى تقديم شكل مسرحي جديد. ويعتقد أن بيرغمان المولع بتداخلات الزمان والمكان كلعبة سينمائية أحيانا، اختار هذا العمل لكونه يحوي أجواء مسرحية وعوالم فسيحة من خلال المشاهد السريعة التي تذكرنا بالمشاهد الحلمية في مسرحيات ستريندبيرغ الشهيرة من أمثال " لعبة الحلم" و "سوناتا الشبح".
وتتضافر في هذا العمل المسرحي جهود ممثلين كبار في عرض مسرحي خلاب حظي منذ العرض الأول باستحسان الجمهور والنقاد معاً. إن مسرحية " الزمان و المكان " خطوة تجريبية للمخرج انغمار بيرغمان وذلك بتجاوزه عوالم الروائع الكلاسيكية من المسرح العالمي واختياره نصا لكاتب مازال يقطع طريقه في التأليف المسرحي.

بيرغمان يعود للمسرح في "المصورون"
في إحدى أمسيات خريف عام 1920 التقى أربعة من كبار الفنانين، شارك كل منهم في صنع فيلم صامت بعنوان "السائق" للكاتبة السويدية سلمى لاغرلويف الحائزة على جائزة نوبل للآداب لعام 1908 والممثلة الشابة توراتييا والمخرج فيكتور شوستريوم مع المصورة يوليوس يانسون، والأسماء الثلاثة الأخيرة هم من المبدعين الأوائل في السينما االسويدية. في "المصورون" يعمّق بيرغمان الصورة المسرحية بوسائل سينمائية موظفة توظيفاً مسرحياً دقيقاً بعيداً عن الاستخدامات الوثائقية، فالشريط السينمائي للفيلم الصامت "السائق" يدخل في صلب أحداث المسرحية وليس لإضفاء قيمة جمالية فحسب، بل لتسليط الضوء على الشخصيات الأربعة في بقعة نور شديد التركيز في الفضاء المسرحي. هي في الحقيقة بقعة الشاعرية الكامنة في روح كل منهم. ويكشف الفيلم القديم المعروض عن أعماق الشخصيات بإيحاءات شاعرية شفافة دون أن يؤدي وظيفة حدثية، مثلما يحدث في المسرحيات السياسية. انه جزء أساسي من العرض المسرحي وربما يسبب حذفه خللاً فنياً، رغم أننا بإمكاننا فهم نص المسرحية من دونه. فالفيلم يكشف عن جوانب روحية هائلة لشخصية المخرج السينمائي شويسترويم من خلال فهمه وترجمته لرواية سلمى لاغير لويف "السائق" بلغة سينمائية جريئة، رغم أن السينما كانت ولا تزال رضيعا يحبو ويشك في صمودها الكثيرون، بينهم سلمى لاغيرلويف نفسها وأدباء آخرون.
وفي تعليق لكاتب المسرحية "اينكفيست" جاء ما يلي: أردت أن أصف الخلفية المعقدة جداً لإحدى الشخصيات الأربعة المجتمعة في هذه المسرحية. أما الأشخاص الثلاثة الآخرون على المسرح فلا نعرف عنهم إلا القليل. كان كل من هؤلاء فناناً عظيماً أحرز نجاحا في ميدانه.
منذ المشهد الافتتاحي للمسرحية تتضح مهمة بيرغمان الإخراجية الهادفة إلى تسليط الضوء على الشخصيات الثلاثة التي تدور حول الشخصية المحورية، الكاتبة الروائية سلمى لاغيرلويف. وتتجسد خطة المخرج في إغناء الشخصيات بالدرجة الأولى وفي تعميق وتكثيف شخصية الممثلة تورا التي تمثل الند والنقيض لشخصية الكاتبة. أما المخرج فيكتور شوسترويم، الشخصية الثالثة في المسرحية فقد مضى في مغامرته السينمائية لتجسيد المفاهيم الإنسانية كالموت والحب والغيرة والتمزق الإنساني جراء الانغماس في علاقة محرمة اجتماعيا. ففي مشهد من الفيلم الذي أخرجه شوسترويم نرى أن روح البطل تبرح الجسد بعد موته. والجسد ملقي على الأرض في حين تغادره الروح في صورة شبح. كان ذلك فتحاً سينمائياً كبيراً. أراد شوسترويم أن تشاهده الروائية الكبيرة بحضور الممثلة الفاتنة تورا التي كانت تربطها بالمخرج علاقة مزقت الاثنين روحياً.
ان تورا تمتلك موهبة كبيرة في التمثيل، وهي امرأة تحمل بالمفهوم البودليري، الكثير من الشر الساحر الذكي، بدلاً من الخير الساذج. وهي طرف فعّال في مغامرات شويسترويم السينمائية. ويتجلى الصراع الحقيقي في المسرحية في التصادم بين عالم وقور ذي قيم راسخة، مسلح بالحكمة والعقلانية (عالم الكاتبة)، وعالم قلق، جريء إلى حد الوقاحة، عالم مسلح بالجمال الحسي (عالم الممثلة تورا). ويتنافر العالمان عبر تجارب المخرج شويسترويم في رحلة الفن والذات. وكأن شويسترويم هو بيرغمان نفسه بكشوفاته السينمائية الجريئة وبعلاقاته الشبقية مع النساء.
إن بيرغمان لا يعقـّد علينا الصورة المسرحية. فهو يظل مفسراً أمينا لنص المؤلف (انكفيست) الذي يتجسد في وحدة فنية متماسكة وبمعالجة إخراجية قائمة بالدرجة الأولى على فن الممثل وعلى النبض الداخلي للنص المسرحي. فالأسلوب الإخراجي يطرح المعاني الدفينة في الأشخاص بصورة عارية بعيداً عن كل إشكالية اسلوبية.


ملاحظة : تنبغي الاشارة الى ان آرائي النقدية وإنطباعاتي حول عروض بيرغمان على المسرح الملكي قائمة على مشاهدتي الفعلية لجميع العروض المذكورة في المقال، حيث تيسرت لي بفعل إقامتي في ستوكهولم مشاهدة أكثر من خمسة عشرة عرض مسرحي لبيرغمان، منذ ان أخرج الملك لير عام 1984 بعد عودته الى الوطن.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف