ثقافات

حامد ندا.. حياة رائد السريالية الشعبية الفنان

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

محمد الحمامصي من القاهرة:يتعرض الكتاب الوحيد الذي أصدرته الباحثة والناقدة الدكتورة ايناس حسني لحياة رائد السريالية الشعبية الفنان "حامد ندا"، وعلاقته بجماعة الفن المعاصر وبالفنان "حسين يوسف أمين" الذى لعب دوراً تاريخياً فى حركة الفنون التشكيلية فى مصر، فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفى "حامد ندا" على وجه الخصوص.
وبدت تأثيرات "حسين يوسف أمين" على "ندا" وغيره أكثر وضوحاً حين أسس "جماعة الفن المصرى المعاصر" الذى يعتبر الوجه المقابل أو المصرى لجماعة "الفن والحرية" التى كان على رأسها جورج حنين ورمسيس يونان وفؤاد كامل وكامل التلمسانى وآخرون، وكانت لهم توجهاتهم الثقافية الناتجة عن جذور بعضهم الأرستقراطية، خاصة أن لغتهم الأولى كانت الفرنسية.
والتفت "جماعة الفن المصرى المعاصر" حول رائدها الفنان حسين يوسف أمين (مدرس التربية الفنية بمدرسة فاروق الثانوية) وكانت عناصرها الأولى عبارة عن مجموعة من الشبان الموهوبين كانوا من قبل أعضاء جمعية الرسم تحت إشراف أستاذهم حسين أمين، وكان القدر يعدهم ليكونوا فيما بعد رواد التجديد النابع من أصالة مصرية مثل عبد الهادى الجزار، حامد ندا، سمير رافع، إبراهيم مسعودة، ماهر رائف، محمود خليل، سالم الحبشى، كمال يوسف. وكانت قضيتهم البحث فى تأويل الموروث الشعبى تشكيلياً، فاشتركوا جميعاً فى مناقشة التناول التقنى لهذا الموروث والمنهج الفلسفى وتحديد منابع الانتماء، فنجد أقدم الأعمال لهذه الجماعة لوحة "الإخصاب" لسمير رافع (1945)، لوحة "مصباح الظلام" لحامد ندا (1946)، لوحة "استقبال العذراء" لإبراهيم مسعودة (1947)، لوحة "دورة الحياة" لعبد الهادى الجزار (1949).
ولد الفنان "حامد ندا" فى التاسع عشر من نوفمبر عام 1924، بشارع "التلول" بحى القلعة أعرق أحياء القاهرة، ثم انتقل ليمضى صباه فى قصر يملكه جده "بالبغالة"، وهناك تشرب الدين والواقعية من والده، ونهل الفن والخيال من جده، فعاش حالة من التناقض غذتها فيه بساطة بيت والده فى حى القلعة، وفخامة قصر جده الكبير فى حى البغالة. شب "حامد ندا" فى بيئة دينية، إذ كان والده مشرفاً على أحد مساجد حى السيدة زينب. وفى طفولته استمع إلى الحواديت والأقاصيص الخيالية من نسوة كن يأتين إلى منزله ليقمن بتسلية والدته بأغرب الحكايات مثل "حمام السعد"، "الديك والخمس فرخات"، "الديك المذبوح والكنز الموعود".. وغيرها. فكانت هذه الحواديت هى الخميرة الأولى لخياله وبداياته فى الرسم حيث ظهرت بعد ذلك أصداء هذه الخرافات فى لوحاته.. ومن الطريف أن اسم "ندا" ليس لقباً حقيقياً للفنان، بل هو فى حقيقة الأمر لقب كانت تحمله جدته الخامسة لأمه إذ كانت تدعى "قطر الندى" وخشية منها على أبناء الشيخ "القلينى" إبان الثورة العرابية، خلعت على أبنائها لقبها "ندا" أو "ندى"!.
وفى عام 1943 وهو طالب فى مدرسة الحلمية الثانوية(فاروق الأول سابقًا)، أعلنت وزارة الصحة عن مسابقة للملصقات فاز فيها بلوحة تمثل بائع البطيخ بالقلعة تحف به أسراب الذباب، وهو مشهد لا يرى إلا فى أعماق البيئات الشعبية.. وفى المدرسة إلتقى بمدرس الرسم آنذاك "حسين يوسف أمين" الذى أسس "جماعة الفن المعاصر" بعد ذلك حيث دربه على رسم الصواميل والسلاسل بالقلم الرصاص وتبين جمال تكويناتها. و"حسين يوسف أمين" لم يبصم تلاميذه بطابع واحد كما كان الحال مع كلٍ من "أحمد صبرى" و"يوسف كامل" فى كلية الفنون الجميلة، حيث كان كل واحد من أعضاء "جماعة الفن المعاصر" له شخصيته المستقلة، وإن كانوا جميعًا غير تقليديين. وكان "حسين يوسف أمين" يتحمل نفقات العمل من الألف إلى الياء من أوراق وألوان وقماش وموديلات وندوات وافتتاحات معارض وطباعة دعوات وكتالوجات. فضلاً على مكتبة زاخرة بالمراجع يعيرها للأعضاء. كما استقطب اثنين من النقاد المرموقين آنذاك: البلجيكى "الكونت فيليب دارسكوت" - الذى نشر فى بلاده كتابًا عن "الجماعة" ذكر فيه "حامد ندا" وقابل بين لوحاته وكتاب الأيام لعميد الأدب العربى "طه حسين". من حيث تصويرالعادات الشعبية بأسلوب تراجيدى. ثم الناقد المصرى " حبيب- إيميه عازار" الذى نشر كتيبًا بالفرنسية فى مصر عن "جماعة الفن المعاصر". الأمر الذى أخر دخول "ندا" و"الجزار" دائرة الضوء على الصعيد المحلى وبخاصة وأن حركة النقد العربية لم تكن قد تبلورت بعد.
والتحق بكلية الفنون الجميلة عام 1948.. وكانت لديه خلفية كافية عن الفن التشكيلى.. وركائز أكاديمية مسبقة.. فأصبحت الدراسة فى الكلية مجرد دراسة تكميلية أكثر تركيزاً.. وأثناء الدراسة انضم لجماعة الفن المصرى المعاصر.. وكانت جماعة متحررة هدفها إحياء التراث الشعبى والثقافة المصرية والفلكلور المصرى..
وفى كلية الفنون الجميلة تعلم على أيدى رائدى الأكاديمية والتأثيرية: "أحمد صبرى" و"يوسف كامل"، ولم ترسخ فى أعماقه سوى تعاليم الرائد "حسين يوسف أمين" الذى أطلق قوى تلاميذه وحطم أغلال مواهبهم الخلاقة. إلا أن الدراسة الأكاديمية المعتمدة على المحاكاة زودته بمخزون من صور الطبيعة وقراءاته الغزيرة فى الفلسفة وعلم النفس والمعارف العامة لسنوات طويلة، ومنحته أسلوباً حضارياً للتفكير.
ومن هذا المزيج المتفاعل مع تجارب الحياة والجرأة والذكاء والموهبة، تشكلت صور ذهنية هى التى نلتقى بها مجسدة فى لوحاته.. وهذا هو مكمن الصدق لديه، فهو لا يستهدف سوى التعبير بلا خجل عن خلجات نفسه حتى إنه يفصح أحياناً عن مضامين عاطفية ذات رموز ظاهرة، لكنها تخلو من التدنى والسوقية، وبخاصة فى لوحاته الأخيرة المفعمة بالحيوية والإثارة، وقد عبر فيها عن ذاتيته وفرديته فى إطار اجتماعى ثقافى عميق. فمثل هذا الإبداع إذا لم يتضمن فلسفة قوية، تحول إلى فن سطحى أقرب إلى التشكيلات الشعبية التى نراها عند بعض الفنانين.
وعندما تخرج فى الكلية الملكية للفنون الجميلة عام 1952، كان مشروعه الذى رسمه "الشعوذة والعقائد السائدة الموروثة" وهى التيمات التى ظلت لفترات طويلة تسيطر عليه على نحو جعلها أسلوباً خاصاً به وحده.
إن حبه للبيئة الشعبية كان من نتيجته الطبيعية أن اختار لمشروع البكالوريوس موضوع الشعوذة ومن صورها الزار ولكى يضفى واقعية وحيوية على المشروع أحضر لداخل الكلية فرقة حقيقية بالرايات، لتعزف إلى جواره بالمرسم.
وبعد تخرجه عمل مدرساً للرسم بإحدى المدارس الابتدائية وكثيراً ما أشار "ندا" عن مدى تأثره برسوم الأطفال، فمنهم تعلم قيمة الجرأة فى الفن، وإطلاق العنان للخيال الفنى بعيداً عن القيود الاجتماعية والأكاديمية، وقد زخرت أعماله الفنية بما تحويه من "شقاوة وبراءة" فنونهم وعفويتها.
ويذكر أن الكونت "فيليب دار سكوت" شجعه على أسلوبه التعبيرى منذ البداية عام 1953، وأحضر له أوراقاً خاصة لها طبيعة النشاف لتساعده على التعبير بالملامس، وأقام له معرضاً فى ألمانيا الغربية آنذاك، حظى بتقدير ملحوظ، وقام بمساندة قوية لجماعة الفن المعاصر حيث وضع كتيبات عن أعضائها وبخاصة "عبد الهادى الجزار" و"حامد ندا".
وفى عام 1946 كان معرض "جماعة الفن المصرى المعاصر" الأول، وقد كان هذا المعرض لا يمثل أهم خصائصهم الفنية والفكرية "للجماعة" لعدم اكتمال نضوجهم، وفى شهر مايو عام 1948، كان تاريخ المعرض الثانى للجماعة حيث ظهرت باكورة أعمال "عبد الهادى الجزار" و"حامد ندا" مكتملة الشخصية ولفتت انتباه النقاد والمعنيين، كان الفارق جلياً بينهما فى الأسلوب وما ينطوى عليه من فكر ومضمون، وتبلورت ملامحهم العامة "كجماعة"، وملامحهم المتميزة كفنانين أفراد، وازداد عالمهم اقتراباً من الصدق، وتوالت بعد ذلك معارضهم ورؤاهم حتى عام 1954، إلى أن تفككت الجماعة، لكن بعد أن أضافت إلى الحركة الفنية تياراً خصباً متجدداً.
وفى مقدمة "كتالوج" المعرض الثانى الذى أشرنا إليه، وصف رئيس الجماعة ورائدها "حسين يوسف أمين" أعمال الفنانين السبعة العارضين، فقال عن "ندا" إنه مصور الحياة الشعبية من وجهة نظر المحلل الكاشف لما فيها من عوامل الخرافة المتصلة بالبيئة الشعبية فى عاداتها ومظاهرها ومشاكلها المختلفة وبتعقيداتها المبهمة والدوافع السيكولوجية لها.. أما "الجزار" فوصفه قائلاً "إنه أكثر التصاقاً بالطبيعة، منذ أن جذبته بدايتها المجردة من كل أثر للعقل البشرى، وراقب الإنسان كيف عاش وسلك طريقه فى هذه البداية كان "الجزار" يرسم الواقع، وأمواج البحر والإنسان بشكله البدائى، بينما انشغل "ندا" بالبيئات الشعبية، والمقاعد القش ومصابيح الكيروسين والقط الأسود والبرص الذى كان يربيه فى مرسمه ويقدم له الطعام، والنساء والرجال بالملابس الشعبية المزخرفة، ولكن سرعان ما تلقف "الجزار" الفكرة ومضى بها إلى مستواها الرفيع الذى نعرفه، وانقضت فترة من الزمن تشابهت فيها لوحات الصديقين (ندا والجزار) إلى الحد الذى تختلط فيه على المتلقى، ثم أقلع "ندا" عن هذه الموضوعات، وإن كان الطابع الشعبى يلقى بظلاله على فتياته العاريات وما يحوطهن من عناصر رمزية. ففى الأربعينات كانت رسومه محملة بملامح الإحباط والاستسلام للخرافات.
جمعت الحياة وكلية الفنون والجماعات الفنية بين الفنانين الكبيرين "حامد ندا" و"عبد الهادى الجزار"، فلقد خرج الإثنان من عباءة المعلم والأستاذ الكبير حسين يوسف أمين الذى كان مدرساً للرسم فى مدرسة الحلمية الثانوية (فاروق الأول)، والذى كان يرعاهما فى مراحل دراستهما الأولى، ولقد كان من الذكاء بحيث إكتشف مواهبهما قبل نضوجها وقام بتوجيههما إلى ذلك المسار الذى كونها وشاركا فى معارضها عام 1946، 1948، 1949، وفى عام 1949 فى المعرض الكبير لجماعة الفن المعاصر الذى أقيم فى باريس، كان حسين يوسف أمين يشحن تلاميذه بالفكر الدائم ويشغلهم بالمعارض والإنتاج ويدافع عنهم فى كل مكان فى نفس الوقت الذى تعالى فيه أساتذة الفنون على تلاميذهم وترفعوا عن احترام مواهبهم وأغرقوا فى تكوين هالة حول شخصياتهم منعت الطلبة من الإقتراب منهم. ولقد وجد كل من "ندا" و"الجزار" فى تجمعاتهما الفنية الطريق - الذى لابد ويبدأ بالفكر - ولقد ربط كثير من النقاد بين الطريقين على أساس وحدة المشوار الفنى لكليهما وعلى أساس الإقتراب الزمنى للنشأة والأحياء الشعبية التى ترعرعا فيها ولذلك تم الربط بين إنتاج الفنانين الكبيرين ومن أجل ذلك فإن رؤية أعمال كل منهما على حدة لابد وأن تكشف ذلك الاختلاف الجوهرى بينهما.
أشار مكرم حنين إلى أن جميع النقاد المصريين أخطأوا فى تحليلهم لعالم كلٍ من الفنان "حامد ندا" و"عبد الهادى الجزار" بوصفهما فنانى الأساطير - وعند العودة إلى أعمالهما لن نجد صدى للأساطير المصرية أو العالمية والواقع أن اللبس الذى وقع فيه جميع النقاد بلا استثناء يعود إلى الغموض الظاهرى لأعمالهما أو الغرابة الذى تميزا بها بالإضافة إلى فقر الأبحاث التشكيلية التى تساعد النقاد.
أما الحقيقة التى نخرج بها من أعمال هذين العملاقين أنه لا أثر للإنعكاس الأسطورى سواء الأساطير المصرية أو الأجنبية "الإغريقية والرومانية بالتحديد" فيما عدا لوحة واحدة لـ "ندا"، وهى لوحة "البجعة" وهى اللوحة الوحيدة التى اقتبس موضوعها من الأساطير الإغريقية حركة موجبة للجسد ونساء يرقصن عند سفح الهرم وموتيفات موزعة وطائر غريب كسر فيها المنطق (الاسطاطيقى) للتكوين بحريته التى إمتلكها بعد عناء.
بدأ "ندا" فى تصوير عالمه مقترباً من الجزار ورأى فى المشعوذين والزار بداية قوية جذبته بشدة نحو قهوة المجاذيب الواقعة فى حارة الميضة خلف مقام السيدة وعالم المشعوذين بذقونهم الطويلة وملابسهم الغريبة. لقد كان هذا العالم الذى يدور فى نطاق "اللاعقل" هو النقيض لديناميكية الفكر الإنسانى العقلانى الذى إطلع عليه فى الكتب الأدبية والفلسفية لنيتشه، شوبنهور، هيجل، فرويد، بايرون، بودلير، كافكا، سترافنسكى، وبيتهوفن وغيرهم من أساطين الفكر المصريين أمثال طه حسين، صلاح عبد الصبور، لويس عوض، يحيى حقي وغيرهم مما كان يعمل معهم فى مجلة الثقافة كرسام للموضوعات الأدبية وحتى إغلاق المجلة فى عام 1952.
كان هذا العالم النقيض "اللاعقلى" هو المثير الكبير عند "ندا"، ولذلك فإنه ببساطة قد استطاع عن طريق هذين النقيضين أن يكون رؤيته الخاصة ووسيلته فى ذلك هو سطح اللوحة.
عرفت لوحاته بداية عالم المشعوذين وعبر عنهم إلى أن سافر إلى الينبوع الراقى للفن المصرى القديم فى الأقصر، وهناك التقى مع فكرة البعدين والإستغناء عن البعد الثالث، وبدأ فى رسم أشكاله بطريقة مسطحة لا تحتاج إلى التجسيم الخفيف الذى لا يظهر بشكل جاد وبدأ ينثر على لوحاته الألوان بطريقة عفوية. ولقد كشف فى لوحاته عن سيطرة الجنس على عالم الحياة الشعبية وعالم الخرافات التى يعيشونها فى الأحياء الفقيرة، فصور العجز فى جميع لوحاته فى صورة الرجل بينما صور الحيوية والتفجير والإمتلاء فى صورة المرأة، ومن خلال علاقتهما ببعض نسج ندا معظم لوحاته - كما يقول الناقد التشكيلى مكرم حنين.
أهم الموتيفات التى صورها هى أفراد الفرفة الموسيقية الشعبية الطبال، الزمار، النحاسيات، البيانولا، قلة السبوع، الفونوغراف، الزير، لمبة الجاز (مصباح الكيروسين)، كراسى المقاهى الشعبية الخشبية، المجاذيب، المرأة، القط، الزواحف التى كانت تعلق قديماً على مداخل البيوت، الديك، التمساح، صندوق الدنيا، لقد كان عالم الاحتفالات الشعبية هو المضمار الذى يتبارى فى إظهاره ولكن ليس على صورة الواقع ولكنه صنع منها نسيجاً خاصاً محوراً كيفما تقوده حريته فى التعبير وفى النهاية كانت تبدو لوحاته مثل جدار قديم رسمت عليه الموتيفات متناثرة ومتآكله بفعل الزمن
ولعل أغرب علاقة بين هذه الموتيفات هى علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة كل منهما على حدة بالموضوع الإسطاطيقى الذى تبناه "ندا"، فبينما نجد المرأة متفجرة الأنوثة فى أوضاع توحى بالإثارة نجد الرجل محبطاً منكسراً وسلبياً وباهت الشخصية واللون ومشوهاً.
أما علاقة كل منهما بالموضوع الإسطاطيقى فالمرأة هى البطل مظهراً إياها بقوة اللون ودسامته، أما الرجل فثانوى صورة باهتة غير مكترث بحدود شكله.
تأثر تأثراً شديداً بالفن البدائى على جدران الكهوف، وحاول الاقتراب منه بشدة وهذا ما يبرر عدم منطقية الحركة أوالمنظور أو الأشكال السابحة فى اللوحة.
وكان الطابع الشعبى الذى يكسو لوحاته قديماً وحديثاً، محفوراً فى ذاكرته منذ طفولته فى حى القلعة، حيث تنتشر الثقافة المصرية مجسدة في الموالد.. والمواسم الدينية.. والاحتفالات الاجتماعية كالمآتم والأفراح.. الميلاد والسبوع وما يصاحبها من طقوس كان يتأملها وهو صغير واكتسب منها مفرداته التشكيلية الشعبية التى استمرت معه طوال الأربعينيات والخمسينيات.
وكان يسعده أن يكون طوال وقته وسط الدراويش ملاحظاً تصرفاتهم الغريبة وكان يصطحب معه صديقيه الفنانين عبد الهادى الجزار ويوسف كامل للجلوس فى مقهى "المجاذيب"، الواقع خلف مسجد السيدة زينب فى حارة "الميضة" آنذاك. حيث قال له الفنان يوسف كامل إنه يرى فيهم أبطال رسوماته (حامد ندا).
ومر بمرحلة أخرى، أثرت أثراً كبيراً فى أعماله حيث أمضى عاماً فى بعثة داخلية بمرسم الفنون الجميلة بالأقصر عام 1956، وهناك كان الاحتكاك المباشر مع كنوز الفن المصرى القديم، ما أكسبه مزيداً من الإدراك لخصائص فنون الفراعنة، من بقاء وخلود، وألوان زاهية، وحركة، وتكوين، وربما توضح لوحته الشهيرة "العمل فى الحقل" كثيراً مدى تأثره بالفن الفرعونى، بما تحتويه من استعاضة عن "المنظور الهندسى" بتصفيف العناصر أفقياً من أسفل إلى أعلى، دون تباين فى الأحجام يفرق بين القريب والبعيد واختيار "وضع أمثل" للشخوص، وهى خصائص تشترك فيها فنون الأطفال أيضاً مع فنون المصريين القدماء.
تبلور أسلوبه التسطيحى فى لوحاته التى تبدو وكأنها مرسومة على جدار مع تحريف فى موضوعية التشريح وحركات الجسم والسيقان والأيدى. ونوع من التصفيف على سطح اللوحة من أعلى إلى أسفل. مع أنه تم دراسته الأكاديمية فى قسم التصوير فى كلية الفنون الجميلة عام 1951. لكنه كان يدين بالولاء لفلسفة "جماعة الفن المعاصر" يختلف إلى المدرسة طوال النهار ثم يعود إلى مرسمه الخاص أسفل البيت بجوار مسجد السيدة زينب، ويرسم فى حرية وطلاقة.
وفى عام 1960، سافر الفنان إلى أسبانيا ليدرس التصوير الجدارى والتصميمات بأكاديمية سان فرناندو بمدريد، ليتحقق له الإمساك بتلابيب التقنية اللونية، وربما كان تأثره بفنون البدائيين، وفنانى الكهوف الذى ظهر فى الكثير من أعماله وتحليلاته للجسم الأنثوى (الموديل) ثمرة من ثمار هذه الرحلة الأسبانية.
ومن أبرز لوحاته فى الأربعينيات لوحة "داخل المقهى" التى رسمها عام 1948، ونجد فيها رجلاً جالساً على الأرض بيده ثلاث ورقات كوتشينه، ووشم على يده اليمنى، يدقق النظر فى الورق باحثاً عن الحظ وبجواره كرسى جلست عليه قطة لها نظرات الثعالب.. ومن لوحات هذه المرحلة أيضاً "رقاد القط" عام 1948، "المتعبد والسحلية" عام 1947، "القبقاب" عام 1947، "الدراويش" عام 1947، وهى من مقتنيات متحف الفن الحديث بالقاهرة، ويتضح فيها نقد تهكمى لما يحدث داخل البيوت الشعبية الخاصة وقد زاد استعمال الفنان لرموزه: الكف.. العصافير.. السحلية.. الزير.. القبقاب.. ورسومه على جدران الحوائط.. واقتحم هذا العالم الشعبى المثير بجرأة شديدة، فوجد فيه كل أدواته التعبيرية ولكن بمفهومه الفلسفى الخاص المكتسب من معايشته لهذا العالم، ولهذه البيئة الشعبية بكل مآسيها وآمالها وأحلامها.
وبدأت المرحلة الثانية فى تطوره الفنى فى بداية الخمسينيات مع انضمامه للجمعية الأدبية المصرية التى كانت تصدر مجلة "الثقافة" وكانت تضم بين محرريها د. طه حسين، د. سهير القلماوى، د. عز الدين إسماعيل، والشاعر صلاح عبد الصبور.. وفى هذه المجلة كُلف بعمل الرسومات الداخلية والنقد الفنى لها، فرسم ما كان يرسمه فى الأربعينيات فيما لا يقل عن ثلاثمائة رسم، وحين أُغلقت المجلة فى مايو عام 1952، حدث لديه اكتفاء ذاتى جراء إنتاجه لهذا الكم الهائل من الرسومات.
وفى العام نفسه (1956)، كان له معرض بقاعة "كايرو آرت جاليرى" بشارع عبد الخالق ثروت وكانت بداية مرحلة جديدة قال عنها الناقد الفرنسى "فيليب دارشو": "فى هذا المعرض بدا "حامد ندا" يضع يديه بثقة ويكتشف سحر الشكل كبداية للمرحلة الصعبة".
وفى عام 1957، عاد ليعمل بالتدريس بكلية الفنون بالإسكندرية، وتوقف عن الإنتاج الفنى لمدة عام، ومع بداية عام 1959، عاد لممارسة الفن بحماس ونضج أكثر، وكانت نقطة تحول فى مساره الفنى بدأه بلوحة "فرح عزة" عام 1959، التى حصلت على جائزة بينالى الإسكندرية فى العام ذاته.
وفى الستينات ركز على رسم الحيوانات.. المراكب.. الكواكب.. النجوم.. وبرز الرمز فى أعماله، وزاد استخدامه للون الرمادى نتيجة تأثره بتحول المجتمع نحو الصناعة.. والجو الرمادى الذى كان يسود العالم فى هذه الفترة.. فكانت لوحاته "أفريقيا والاستعمار"، "كينيا والاستعمار"، "هيروشيما"، "الحرب والسلام"، وشهدت هذه المرحلة أيضاً ومضات فنية ذات طابع تعبيرى مباشر، وفيها بدأ يميل إلى الاقتصاد الشديد فى اللون حتى أصبح أقرب إلى الأسود والأبيض بتنغيمات شفافة وأشكال مبهمة، فى الوقت الذى عاد فيه إلى تكتيل الأجسام وترسيخها بأقل الألوان الممكنة، حتى تصبح عزفاً على لون واحد، كثيراً ما يكون الأزرق أو الرمادى، وهو يعرض هذا الزهد اللونى بإكساب سطح اللوحات ملمساً متوتراً غنياً بالطبقات والدرجات، كالذبذبات الصوتية المتتابعة، أو كآثار الزمن على جدران قديمة.
من هذا نتبين أن "ندا" - بالرغم من بعده عن الموضوع واحتفاله بلغة الشكل - لم يتخلص من الروح الدرامية، وكل ما فى الأمر أنها تحولت من الصياح والجهر إلى الحوار والهمس، اللذين لا يقتصران على الآدميين بل ينسحبان أيضاً على الحيوانات والطيور والكتل والفراغات والمساحات اللونية وملامس الأسطح.
الفكرة القوية التى كانت تراوده كثيراً ويكررها دائمًا فى لوحاته هى فكرة الرجل المقهور الذى يدعى الفتونة، بينما واقعة الفشل والتخنث، ولقد ظهرت هذه الشخصية بشكل واضح وملح بعد حرب 1967.
وبعد عام 1967، ظهر اللون الأبيض بقوة واحتل مكاناً رئيسياً فى أرضيات كل لوحاته، وهى المرحلة التى رأى عز الدين نجيب أنها تعد استمراراً للمرحلة الغنائية، من حيث تركيزها على السطح التصويرى الديناميكى وإن كان هنا يخطو خطوة جديدة بالنسبة لكتل الأجسام والأشكال، فقد عمد إلى تفتيتها وإطلاقها من عنانها المنطقى، محاولاً إيجاد إيقاع أكثر بدائية وعنفاً كطبول أفريقية أو موسيقى الجاز، وأصبحت الغلبة هنا للعناصر الزنجية من أقنعة وأشكال محرفة، ويلعب دور البطولة معها عنصران جديدان لم يستعملا من قبل: الأول حروف الكتابة العربية، التى استخدمها الفنان كمشخصات تتجاوز وتتحاور مع العناصر البشرية، والثانى الحصان.. الذى اقتحم عالمه طائراً كالبراق حاملاً على ظهره المرأة العارية النائمة فى استسلام وأصبح هذا الثنائى - المرأة والحصان - بطلين متلازمين فى العديد من لوحاته فى السبعينيات، ويمكن أن تشعر بوجود شبح الموت فى أعمال "ندا" ولم يظهر من قبل إلا فى لوحات القط الأسود.. قد يبدو ذلك من خلال إيحاءات فى غاية الرقة، مثل نبات أجرد على حافة أفق صحراوى يتلاشى فى المجهول، بل لعله يبدو أيضاً فى جسم المرأة المستلقية على ظهر الحصان بعينيها المتسعتين فى ذهول وفزع من شبح الموت.
كانت لوحاته قبل السبعينيات تنزع إلى تصوير الحياة الشعبية وكانت تخلو من هذه العناصر الأنثوية العجيبة، التى أصبحت كالبصمة تتميز بها بين مئات الأعمال الفنية، تكسوها مسحة ميتاقيزيقية، ومع بداية السبعينيات إتجه إلى المساحات الصغيرة "20times;20" وهى مرحلة صعبة فى التنفيذ ولكنه قدم خلالها 180 لوحة جميلة.. وبعد عام 1973، وإحساسه بالاستقرار عاد للموضوعات الشعبية من جديد.. وعادت الألوان المرحة، واستخدام أسلوب التعبير عن المادة، فالبحر يعبر عنه باللون والملمس.. ومن لوحاته الشهيرة فى تلك الفترة لوحة "صندوق الدنيا".
ومضى ندا يساهم فى بناء الحركة التشكيلية المصرية، وفى أعماقه آثار لا تمحى لتعاليم الرائد الراحل، الذى نسيه الجميع لأنه لم يكن أستاذًا فى كلية فنية. فى عام 1951 أبدع "ندا" مجموعة لوحات نال بها درجة الدبلوم من الفنون الجميلة، بها موضوع "الشعوذة" حتى يعبر عن مظاهر الحياة الشعبية التى عاشها طوال السنوات السابقة وحتى يجمع بين الإتجاه الأكاديمى ونزعاته الفنية الذاتية. فحفلت لوحاته بمظاهر السحر والدروشة والزار. وامتلأت الملابس والجدران بالرسوم الرمزية وزخارف الوشم على الأيدى الغليظة، مع العناية بالتشريح والظل والنور وإقحام العناصر الغريبة، مما أضفى على لوحاته طابعًا سرياليًا ظل يصاحبه دائمًا حتى بعد انتقاله إلى تشكيلاته الحديثة التى لا يعتمد فيها على أفكار مسبقة، بلا عنوان أو موضوع يدفعه شعور مبهم إلى سطح اللوحة فيضع عليها عنصرًا ما: إمرأة وقطة أو ساعة حائط وعصفورًا، وغالبًا ما يتصور نفسه متقمصًا شكل قط أو عصفور، ديك أو حصان، ثم تتوالى العناصر بلا علاقات منطقية مع واقع الحال، إنما فى صور أقرب إلى الكوابيس تتسم بالشاعرية والطرافة.. والرهبة أيضًا.. تجسيد لخيالات ذاتية مستقرة فى أعماقه قد لا يتبينها قبل أن تبدو لعينيه على اللوحة. ثمة علاقة بين عناصره والطبيعة لكنها تفتقد المنطق، كائنات غريبة وإن كانت ذات صبغة بشرية أو حيوانية، حتى الأشياء غريبة بدونها. تكوينات لا معقولة فى ضوء أفكار فرويد عن العقل الباطن.. تخاطب أعماق المتلقى وتثير هواجسه وتستنفر أفكاره..
وفى لوحته الصرخة التى أبدعها عام 1984، رمز إلى تعبير بشكل ميكانيكى يشبه الإنسان الآلى، رسم على صدره أشكال حيوانيه، فى تكوين درامى يتداخل فيه الألوان مع الجو الأسطورى الذى إنتهجه منذ بداية مشواره. أما هذا الشكل الميكانيكى الآلى فى رسومه الأخيرة - التى أبدعها عام 1985 فى أحجام صغيرة نسبيًا - فيبدو أنه يسترجع بها طفولته الباكرة. أيام كان يهوى جمع النفايات والخردة وهو فى سن الرابعة من عمره حيث كان يقتنى الأسلاك والصواميل وأدوات الكهرباء. وكم كان سعيدًا حين حصل على فانوس عربة حنطور قديم ليتوسط مقتنياته.
وقد اشترك فى معظم المعارض الفنية الرسمية العامة منذ عام 1948 وحتى عام 1987.. وله نحو 25 معرضاً فردياً أشهرها معرضه فى برلين الغربية عام 1956.. والذى كتب عنه النقاد الألمان أكثر من 12 دراسة عن أسلوبه المميز.. وسافرت معارضه إلى معظم الأقطار العربية والأوروبية.. ووصل عبر هذه الرحلة الطويلة إلى حرفية عالية جعلته يقول: أنا قادر على طبع أحاسيسى ومشاعرى الدفينة على اللوحة بسلاسة وثقة وما زلت قادراً على عمل الكثير من الأعمال الفنية التى تعبر عن نفسى وعن المتغيرات المستمرة حولى.
وبشكل عام فإن عالمه يرتكز على تحريف مقصود لبعض الأشكال، ومخالفة لقوانين النسب والحركة واللون، يقترب كثيراً من الكاريكاتير، مما أعطى لأعماله صفة "الطرافة"، وقد اختاره المستشرق الفرنسى جاك بيرك أستاذ علم الاجتماع بالسربون، ليكون نموذجاً لفنانى الدول العربية فى كتابه "العرب حاضر ومستقبل"، كما كتبت عنه الموسوعات العالمية مثل لاروس وهردر نبذة أجمعت فيها على إبداعه وأثره فى العالم العربى..
يذكر هنا أن الفنان الراحل "حامد ندا" فاز بجائزة الدولة التقديرية لعام 1990 فى مجال الفنون. ولكن حال الموت دون تسلمه الجائزة فتسلمها ابنه نيابة عنه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف