حوار مع الشاعر الفلسطيني خالد جمعة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نصر جميل شعث من غزة: تمهيدًا لعمل هذا الحوار مع الشاعر الفلسطيني خالد جمعة، كان قد دار نقاشٌ، في أيام سابقة، حول التطورات الفلسطينية الأخيرة. وعن بعض الأفكار والمقولات الجمالية والنقدية والسياسية والأخلاقية لدى بعض الأدباء والفلاسفة. عندما قلت له، على الصعيد السياسي: " إننا ندورُ في ذات الدائرة المفرغة والمغلقة! "، ردّ يقول أنه: " لا توجد ذات ولا توجد دائرة، من الأصل "!!. إذ وصل، حقيقةً، الكثيرُ من شعراء وأدباء ومثقفي الداخل الفلسطيني حدّا عنده أمسوا يعبّرون عن استيائهم العارم بأساليب تتعمّد إفساد المعنى والعبث به وقتله؛ بما توحي باستفحال الخصومة بين العين والأفق، داخل وعيهم المليء بفوضى المشهد المخجل. وكان الشاعر خالد جمعة، المقيم في غزة، والذي درَسَ، في ثمانينات القرن الماضي، في جامعات الضفة الغربية، يتذكر محاضرةً ألقاها الفيلسوف الفرنسي الراحل جاك دريدا، في جامعة بيرزيت - برام الله، أثناء زيارته التاريخية والوحيدة للأراضي الفلسطينية عام 1997؛ حيث ردّ الفيلسوف الزائر على سؤال بخصوص آفاق حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، قائلا ما مختصره: "إنه ما من حلّ للصراع إلا إذا أنزله الطرفان من السماء للأرض". وأما في وَصفِه لوعورةِ الأوضاع الفلسطينية الحالية بعامة، قال الشاعر جمعة: " قاسية، وصعبة، كثيرًا، كلغة هايدغر ". قلت مدافعًا عن صاحب اللغة الصعبة: " ولكنه يتحدّث بشعور فلسفي بطولي إزاء ما يؤرق الإنسان: كمقولات الهم والموت.. إنه يتحدّث بالنيابة عني وعنك، وعن الوجود ".. حينها طلب مني الشاعر أن نكفّ عن الشجن المطلق. وقد تحدثنا، بسلاسة، في الشعر، مطوّلا، كمسألة لا يمكن فصلها عن الألم الذي تنطوي عليه مصائر القصيدة - السر أو " فلسطين "، التي رأى الشاعر أنها سلاحه السرّي، في قصيدته، غير القابل للإعلان. إذ يعتبر الشاعر خالد جمعة (مواليد مدنية رفح على الحدود الفاصلة بين مصر وقطاع غزة، عام 1965(أحد الشعراء الفلسطينين الذين ناضلوا، على صعيد الشكل والمضمون، لتحرير القصيدة من الألفاظ والحجارة الفلسطينية، وكانت مجلة " عشتار " - التي صاغ شروطها وأهدافها الفنية الشاعر عثمان حسين ومعه خالد جمعة - شاهدة على هذا النضال الجميل والانتصار لقصيدة النثر. و يشغل جمعة، حاليًا، رئيس تحرير مجلة رؤية في الهيئة العامة للاستعلامات. وإضافة لكونه شاعرًا هو كاتب للأطفال، ولديه عشرات القصص المطبوعة. وكانت " UNRWA " طبعت ثلاث قصص له، وهي قصة " الشبلان " ـ رام الله 2001، و قصة " دموع اللون الأصفر " للأطفال - رام الله 2001، وقصة " السياق " للأطفال ـ رام الله 2001؛ وزعتها، بدورها، على مداس اللاجئين التي ترعاها منظمة الإغاثة الدولية في الأرضي الفلسطينية، بواقع 120 ألف نسخة من كل قصة. و صدر للشاعر من المجموعات الشعرية: " رفح أبجدية مسافة وذاكرة " / بالاشتراك (غزة، 1992م). هكذا يبدأ الخليفة (اتحاد الكتاب الفلسطينيين، غزة، القدس، 1996م)، " نصوص لا علاقة لها بالأمر " (وزارة الثقافة الفلسطينية، غزة، 1999م)، " لذلك " (عن دار شرقيات ـ القاهرة 2000)، و " مازلت تشبه نفسك " (غزة ـ 2004). ولكن هذه المعلومات الشخصية والأدبية، لا تغني عن سؤال الشاعر عن الهوية العميقة الخصوصية:
* من هو خالد جمعة وماذا عن التكوين الثقافي والمعرفي؟
ربما يكون هذا من أصعب الأسئلة التي يمكن أن توجّه إلى كاتب على اعتبار أننا نقضي جزءً كبيرًا من حياتنا نحاول التعرف على ذاتنا. والمهمّ في الأمر ليس مَن أنا في اعتقادي، وإنما النتاج الذي يَخرج من هذه الأنا، حيث يبقى في النهاية انعكاسًا للهوية الحقيقية التي لا يمكن أن تختبئَ وراء أية أقنعة.
أمّا التكوين الثقافي والمعرفي، فمسألة ليس بالسهل الحديث عنها؛ بما أنني مررتُ بعدّة مراحل وتحولات ارتكزت بالأساس على نقاش ما أقرأ دون أخذ أي شيءٍ كمسلمة سواء ثقافية أو غير ذلك. مما أنتج لديّ نوع من المعرفة المستقلة عن المعرفة السائدة، وإن كانت جزءً منها. وما أعيه جيدًا أنني، ومنذ الصغر، كنتُ مشدودًا للغريب وللمقولات المختلفة والآراء الذاهبة بعيدًا في التحليل والعمق، والتي لا تأخذ السائد كمرتكز لها، فلجأتُ إلى كتابات الصوفيين بشكل أساس، ومنها انطلق تشكيلي المعرفي أساسًا، ثم تطوّر ليصبحَ وعيًا خاصًا مستقلا.
* أنت أحد الذين دافعوا عن قصيدة النثر، وجعلوها تحضر بقوة في المشهد الشعري الفلسطيني الداخلي.. هل بات الوعي بالقصيدة الآن أكبر - في ظل الإطلاع على النماذج التنظيرية والشعرية - أم لم تتضحْ ملامحها لدى الكثيرين، برغم كلّ ذلك؟
قد تستغرب أن تجربة قصيدة النثر جاءت في تجربتي ـ كنتاج ـ قبل أن أوغل في نظرياتها، بمعنى أن التطبيق حضرَ قبل النظرية. أما بالنسبة لحضور الوعي في القصيدة، فإن الصيغة الإبداعية العامة هي صيغة فردية بالدرجة الأولى. وبالتالي، فإنّ حضور الوعي هو حضور نسبي يتعلق بالفروقات الفردية على المستوى المعرفي والخبراتي. أما بشكل عام، فإنّ الوعي بقصيدة النثر يمكن القول بأنه أخذ طريقه، وإن لم تكتمل ملامحه بعد، وذلك عائد إلى طبيعة هذا النصّ غير المكتمل نتيجة رغبته في إشراك المتلقي، وبالتالي هو عرضة للتجريب أكثر من غيره، وعلى كلّ الأحوال أعتقد أن قليلين هم من يكتبون قصيدة النثر كما هي في تنظيرات خالقيها الأولين.
* وحده الذي عنده الشجاعة بأن يكون سلبيًا بالمطلق عنده القدرة على خلق الجديد "، هذه العبارة لزعيم المادية الأول الملحد: لودفيغ فيورباخ. كيف نناقشها في ضوء الانشغال بالذات والانشغال بالآخر، في تجربة الشاعر خالد جمعة؟
لماذا عليّ أناقش عبارة لا دخل لي فيها؟ على أي حال، غالبًا ما كنتُ أنا الآخر في تجربتي، وهذا ليس بالمعنى الضيق للانغلاق الذاتي الأناني، بل باعتبار فهم الذات هو المدخل الوحيد ـ ربما ـ لفهم العالم. فكلّ ما يمكن للعالم أن يبثه فيك، لا يمكن أن يوجدَ إن لم توجد أنتَ. وبالتالي أنت انعكاس للعالم على قدر ما هو العالم انعكاس لك في عيون الآخرين. وغالبًا ما يرى الآخرون في النص الإبداعي جزءً من تكوينهم بحكم تشابه التكوينات في الأصل واختلافها في الفروع. وهذا يقود إلى جدليه العلاقة بالآخر الذي تحدثت النظريات النقدية عنه. فبشكل مجرد، الآخر هو وهم بالنسبة لك، لا يمكن أن يتجسد في كائن محدد ـ كمتلقي ـ وبالتالي في معظم الأحيان تختار أنت (آخرك) الذي تصيغه على شاكلة خالقه حتى وإن اختلف معه في التفصيلات، وربما يتصادف هذا مع آخر يشبه هذه المنحوتة. ولكن صدقني: هذا يبقى بمحض الصدفة، فلا يمكن للخاص والعام أن يلتقيا إلا ضمنَ حدود ضيقة إلى حدّ بعيد أو ضمن صدفة.
* على الرغم من كونك شاعرا مختلفَ البصمات، إلا أنك لم تنلْ من الضوء والجوائز حظاً وفيرًا، كمنْ ركبوا عربة الإعلام السريعة، بحكم أنهم من " فلسطين "، القضية العادلة وحمّالة الأوجه الزائفة في الوقت ذاته. ما تعليقكَ على أمر كهذا؟
من هؤلاء من ساعدتهم شخصيّا على ركوب هذه العربة، ولكني لم أهتم يومًا بذلك. كان اهتمامي وما زال منصبًا على مشروعي الخاص. فأنا، مثلا، لم أعبئ ورقة يانصيب في حياتي، ولا أعتمد على الصدف والحظوظ، ولستُ معنيا لا بالشهرة ولا بالجوائز لسبب لا أدركه، ولا أهتم كثيرًا بإدراكه، أنا رجل أستمتع بالكتابة وهذا يكفيني. أما بالنسبة لـ" فلسطين "، فهي سلاحي السري، غير القابل للإعلان.
* مهمة الأدب إزاء الفاجعة ألا يقتصر على التفجع والاستنكار واستغراب وجود العدوان والفوضى؛ بل على الأدب، أيضًا، أن يحاول لجم العدوان والفوضى، وذلك بالفضح والتعرية.. ترى كيف تَصمد هذه الدعوة، الشجاعة، في ظل شيوع الموت العبثي، الآن؟
لا أعرف إذا كنت تتحدث عن الأدب أو عن الصحافة؟ على أية حال، ما زلتُ لا أعرف ما هي مهمة الأدب، فمشكلة الأدب أنه ليس حقنة أنسولين، بمعنى أنه يحدث تأثيرًا طويل المدى، فليس مجرد كتابة نصّ يمكن أن يجعلك تلمسُ التأثير الفوري لمقولة هذا النص، هذا أولاً. ثانيًا، أنا لا أحب عبارة " مهمة الأدب " على اعتبار أن تحويل الأدب إلى موظف يخدم التاريخ سلبًا أو إيجابًا هو انتقاص من قيمة الاثنين. الأدبُ أكثر رهافة من الأرقام والتواريخ وأعداد القتلى وطبيعة موتهم. فإذا أحصيتَ الموتى، فأنت تكتبُ تاريخًا، وإذا أبرزت جمالهم فأنت تكتب أدبًا.
* الشاعر الفرنسي لويس أرغون في فترات الحرب ومعسكرات الاعتقال كتب يقول: " ربما لم تكن أبداً هناك من مهمة أمام الإنسان أكثر إلحاحا ونبلاً من مهمة حمل الأشياء على الغناء، في هذه الساعة، التي يكون فيها الإنسان أكثر ما يكون انسحاقا ومهانة " سؤالي إذًا، كيف نحافظ على الأمل في القصيدة، في معتقل قطاع غزة الكبير؟
أولا، هذه المقولة تدعم مقولتي في السؤال السابق. ثانيًا، الأمل ليس فقط في القصيدة، يجب أن يكونَ لديك أملٌ في الصدرِ لتحمله القصيدة، وإلا تحوّل إلى شعار زائف. قمت قبل فترة مع مجموعة من الأصدقاء الفنانين بتأسيس فرقة اسمها "حناين" يُغني فيها أولاد وبنات أكبرهم في العاشرة، يغنون لكلّ شيء، للعصافير والمدرسة والأرض والورد والوطن والجدة واللعبة.. إلخ. اعتقدنا أننا نزرع أملاً، ولو عند هذه المجموعة من الأطفال، ولكننا اكتشفنا كم الأطفال الذين أسعدهم هذا الغناء، بل والكبار أيضًا، وما زلنا نعمل مع هذه الفرقة إلى اليوم في ظل هذه الكآبات التي تنتشر هنا وهناك.
ما أردت قوله من المثال السابق، إن النبتة مهما كانت صغيرة يمكنها أن تشقّ الفضاء وتصرخ، ولكنها لن تفعل ذلك إنْ لم تجدْ من يَغرسها، والأمل بحاجة إلى من يغرسه.
* هناك مثل يهودي يقول " مجنون ألقى حجرًا في الماء يعجز عشرة حكماء على انتشاله ".. استئناسًا بالمثل اليهودي: من أين يأتي الخلاص الفلسطيني؟
من هو المجنون ومن هم العقلاء العشرة؟