كزار حنتوش رحل مبللا بزخات المطر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
زهير كاظم عبود: من البيوت العتيقة والأزقة المتربة المرشوشة بالماء صيفاً. من الركض خلف سيارات البلدية وعربات الحمير في أزقة الديوانية، ومن بين أكواخ الفقراء وأحياء المدينة العتيقة والجديدة، ووسط تجمعات الناس في الأعياد وأيام السبت في مرقد ابن الكاظم. ومن تقاطيع الوجه الذي عجنته سنوات العمر الكالح حزيناً معصوراً، من أيام الفقر الهاربة من فرحها، من كل تلك الأحزان يخرج كزار حنتوش كأسعد رجل في الدنيا، لكنه لم يستطع ان يغازل القمر، ولاتمكن أن يهمس في أذن النجمات، وحين يريد أن يبتسم يستل فرحته من جثة الألم الكامن في روحه. من بين هذا الركام الفقير تنمو قصائد الشاعر كزار حنتوش بسيطة وطيبة وساخنة، مثل قرص الخبز الخارج تواً من تنور الأمهات.
من اين يستمد الشاعر كزار حنتوش كلماته وشاعريته؟ وأين يخبئ مخزونه الشعري ؟
ومحيطه الجغرافي يمتد ما بين شط الديوانية والجسر الخشبي والسوق المغلق بصفائح تتطاير مع الرياح ldquo;ومكتبة عارفrdquo; ldquo;وكباب بلالrdquo; ldquo;والمكتبة العامةrdquo; التي يخشى الفقراء أن يدخلونها خشية من صمتها، فالفقراء يحبون الضجيج، لكن أرواحهم طرية كالمخمل الأزرق.
وقدرة غريبة في تطويع الحزن الى الفرح، رغم إن الحزن فاجئه يوما حماما زاجلا يربطه بالوطن الأبهى، لكنه لايلبث إن يرتد الى حزنه وهو قدره الأزلي أن يموت كزار حنتوش حزينا.
وكزار حنتوش الذي يمتطي قامته بين حدائق نادي الموظفين في المدينة ومحلة السراي، يعتصر الكلمات فتصير معتقة كالخمر، وتلك خصلة تميزه حين تزدحم الكلمات بصدره وتضيق عليه، تحبس أنفاسه يطلقها شعراً دون أن يريد.
"ولماذا يا ذئب السبعينات تظل
وحيداً تعوي...
ما من احد سيقول الحال
سواء سيضيع الصوت رويداً
وتموت شريداً كمغني نهر بويب.."
وحين يحلم كزار حنتوش ينقل طفولته الممتدة من أمام بوابات دور العرض السينمائي، عبر الجسر الخشبي، الغاطس نصفه بمياه شط الديوانية، فتطفو آثامه فوق كرب النخل مع تموجات النهر البائس، الممتلئ بالطمي وهو يحمل فوق وجهه كل مخلفات المزابل والمزارع والحيوانات النافقة، فيحلق في أقصى السماوات يرسم أشعاره بكلمات دافئة واضحة الحروف بسيطة مثل عمره.
يصل كزار العاصمة فاتحاً ذراعيه عند المسير، لا يتوقف إلا عند الباب الشرقي يظنه باب بيتهم، ويترك توقيعه فوق قلوب الناس. ثمة مايدهش الناس من خارطة الزمن المنقوش فوق تقاطيع وجه الشاعر كزار حنتوش، ثمة ما يلفت النظر حول جسده الناحل وكلماته التي تقفز الى باطن كفيه فيطلقها في الهواء الطلق تصير طيور نوارس.
"في الشام
لنا نخلة قصوا جدائلها
كانت خلف عبادان لنا قرية
قلبوا عاليها... سافلها
والان خرجنا من مكة
لم نربح بيعاً كصهيب"
يوزع أيامه بين مقاهي الدغارة ومقهى السوق فوق شظايا جمعها من حربنا التي دخلها قسرا فأكلت الأخضر قبل اليابس، وقتلت فيه الكثير من الكلمات الجميلة، وبقي طنينها يدوي في أذنيه، تأكل من عمره اللغة والحداثة و الشعر فيتركها، لكن شيطان الشعر لايلبث أن يسكنه مرة أخرى، ولا يستقر في مقام فكل غرف الفنادق البائسة بيته، وكل النوادي منتدياته وأماكنه الأثيرة، غير انه لايلبث إن يعود الى أهله الفقراء بما تبقى له من القلب والشعر، بعد إن نقش قصائده فوق وجه بغداد، ووزع من قلبه وشعره فيها.
واذ لم تتمكن السلطة القامعة ترويض قصائد كزار حنتوش، ليبقى أمينا على صعلكته لا يأمن أحدا شره، ولا يستجيب لرغبات المحتفلين. عند أول حانة يعلن استقلال البلاد وتزييف التاريخ، وحين يدلف اليها يؤسس تجمعه الثوري، وشعره الذي ينبع من بين ضلوعه البارزة من تحت قميصه الواهن، واذ تتجمع حكايات المدينة الطيبة والعبقة ترسم بعض الأسماء أحرفها فوق عيون كزار حنتوش، فتظهر مرسومة على شكل شخصيات مرتبطة بتاريخ وحياة المدينة (خنياب وابو الحبو والعبدو وطريق عفك وبساتين الخصيمة والبو عبد الله وطريق الإسكان ))
"يامن أسرفت بأكل الجمر، على ريب
وغصصت بجرعة ماء
لَمَ لمٌ تبتلع الياء
اختر عما لم ينزل من صلب الجد وغن للشر وأنت بعيد
انزع اطمار العيب
تقول العيب، العيب، العيب،
العيب ثبرت العالم بالعيب"
وتختلط صورة سومر والدغارة وعفك وإسكافيها، الذي رحل مفلسا،ً وباعة الأرصفة وشط الديوانية والأصحاب وقناعة بكسرة كلمة وجرعة شعر تختلط بكأس من الخمرة العراقية، وحقيبة لا تحتوي إلا على قصاصات يحن اليها، لعلها ميراثه الوحيد، مع اضطرابات روحه المشتعلة والمفعمة بمحبة الفقراء والناس، لايملك سوى روحه فالفقراء لايكترثون للميراث. هو كزار حنتوش المهذب والحزين والبعيد عن الأناقة، المتلبس بشيطان الشعر الذي ربما جعله كزار يجن منه، فيسهل عملية انتقاء الكلمات التي تأتيه مروضة وفاتنة وأنيقة ودافئة، معجونة من طينة شط الديوانية.
كزار حنتوش احد الحكايات التي تحتفظ بها مدينة الديوانية في الذاكرة وتتباهى بها، فصار معلما من معالمها الثقافية، قصائده الحانية والمرهفة، واللوعة والمرارة التي كانت تترسب في روحه، والألم الذي يذبح الروح دون إن يظهر على ملامحه الحزينة، والأصدقاء الذين أكلتهم الحرب والأحزاب، والصعاليك الذين رحلوا، ليعود يستقر في حي فقير من أحياء الديوانية، المدينة الطيبة المنسية على خارطة العراق، وكان كزار وحده القادر على ان يحول
بحة الناي الحزينة الى كلمات تتراقص حزنا، و يوظف خرز الحزن والألم الإنساني الى قلائد وقصائد، وهو الشاعر الذي يمكن أن نسمي نصفه المجنون ونصفه المشتعل غراماً ويحمل نصف قلبه بيده ويرسم كلماته في اليد الأخرى.. لكنه آثر الرحيل بهدوء الممتلئين سعادة وشعرا، لايملك غير مئزره الأبيض الذي تنبأ به والذي كان يشبه قلبه كثيرا كثيرا.
"ذات ضحى
قد أحمل للنجف الأشرف
لاأملك إلا مئزري الأبيض
وبقايا من أسف
كون الدنيا لم تكن الدنيا
ليس بمقدوري أن امنع هذا
لكن...
ليس بمقدور أحد
أن يلبسني كفني
وأنا حي"