الأوجلي: تشغلني الروح التي تسكننا منذ داحس والغبراء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حوار مع الكاتب الليبي عطية الأوجلي
تشغلني الروح القبلية التي تسكننا منذ داحس والغبراء
أجرى الحوار خالد المهير: أسئلة متعددة حول العلاقة مع الأمكنة والأزمنة والناس، الأستاذ عطية كما نود أن نقول له في كل لقاء بيننا حيث يأخذنا إلى حديث شائق عن الحكاية،حكاية المكان والأسئلة الدافقة لهذه النسيج.
*نود أن نتحدث معك عن الطفولة،في أعمالك الأخيرة هناك حنين دافق لهذه المرحلة،والأمكنة التي شكلت بدايات الوعي؟
لا أحن للطفولة.. ولكنني أعيد اكتشافها. البدايات كانت الولوج في عالم السحر المدهش عبر حكايات الجدة وقصص العجائز وسهارى العائلة التي كان لها طابعا متميزا. كانت العائلة الليبية تجتمع في ما نسميه "وسط الحوش" حيث نندس نحن الأطفال في أحضان الجدات..نرصد نجوم السماء وسط ذهولنا من مغامرات "بوزيد الهلالي" و"نص انصيص". دفء المشاعر الإنسانية والشعور العميق بالأمان ميز حياتنا آنذاك رغم الفقر الذي كان سائداً. كانت جدتي امرأة رائعة بالغة التدين والحكمة تقطر محنة وحبا. ولأن والدتي توفت وأنا صغير فقد عشت سنوات طفولتي مع جدتي التي كانت مرجعا للعائلات. يأتون إليها بمشاكلهم فتبدد همومهم بكلماتها العذبة وهدوئها المهيب وشخصيتها الآسرة. لا زالت هذه المرأة بعد سنين طوال من وفاتها تمارس تأثيرها في حياتي وكتاباتي.
الجدة وعالم الحواديث الساحر الممتع، والقصص التي تروى على نواصي الشوارع بين الجيران أو يتم تهريبها في غفلة من فقي جامع "بالروين" وعيونه الراصدة...ودنيا الخيالة وأفلام "الكاوبوي" ورجال العصابات وقصص ألف ليلة وليلة. كل ذلك ساهم في تشكيل وجداني ورمى بي أمام أبواب الدهشة.
كما أنني عشت طفولتي و أبناء جيلي في زمن كان الكتاب رفيقنا وكنزنا وبساطنا السحري.
آنذاك كان المناخ الثقافي في بنغازي مميزا، حيث تصدر العديد من الصحف اليومية مثل الحقيقة، الرقيب، العمل، الزمان، برقة...الخ و تصدر مجلات مثل قورينا وجيل ورسالة، كانت هناك محاضرات أسبوعية بالجامعة، وكنا نتمتع برؤية زوار محاضرين من أرجاء الوطن العربي، كانت هناك أنشطة ثقافية بالأندية الرياضية مثل نادي الهلال ونادي التحدي... كان هناك العديد من المكتبات التي توفر الكتب والمجلات وبأسعار زهيدة. كانت هناك صحف ومجلات تأتينا من طرابلس مثل مجلة الرواد وصحيفة الحرية. كما كانت هناك حركة كشفية نشطة. كانت هناك المكتبات المدرسية والمسرح المدرسي والمرسم المدرسي.
لا أنسى وجود بعثة تدريسية مميزة من مصر وأساتذة أفاضل من فلسطين ومن السودان. كانوا بآرائهم وبنقاشاتهم وأحيانا بتعصبهم وخصوماتهم يساهمون بشكل وأخر في تشكيل وعي جيل بأكمله. كانت هناك مراكز ثقافية مثل المركز الثقافي المصري والأمريكي والبريطاني والمكتبات العامة...... كانت هناك إذاعة مسموعة بحق..وكنت أتابع عدة برامج مميزة مثل التي يعدها الدكتور عبدالهادي بولقمة والدكتور على فهمي اخشيم. كان هناك المسرح الشعبي وحفلات الإذاعة. في مثل هذا المناخ الثقافي يستطيع المرء أن يتفهم وبيسر وجود العدد الهائل والمميز من الكتاب والمؤلفين الليبيين.
في مثل هذا المناخ تعرفت على أعمال كتاب ليبين مثل الصادق النيهوم، على مصطفى المصراتي، خليفة التكبالي، علي الرقيعي،رشاد الهوني، خليفة الفاخري، يوسف القويري، يوسف الشريف، عبدالله القويري، وغيرهم.... مما زخرت بهم ساحتنا الثقافية.
تسألني عن الأماكن....!!
لا شك أن للقاهرة ولطرابلس دورا لا ينسى في حياتي وقد عشت في كلاهما ولكن شاء القدر أن يكون المكان الأكثر تأثيرا في هو الأبعد مسافة عن مسقط رأسي، فقد أتيحت لي فرصة أسطورية. فقد عشت فترة السبعينيات في أمريكا بمنطقة سان فرنسيسكو وبيركلي التي بها تشكلت ذروة المعارضة الطلابية والشبابية للقيم السائدة في المجتمع الأمريكي. هناك عاصرت وتعرفت على نضال السود من أجل المساواة ومن اجل نيل الحقوق المدنية، وكذلك الحركة المعارضة لحرب فيتنام وأنصار حركات التحرر بالعالم الثالث. تعرفت على خطب ومقالات وكتب وأفلام وساسة وزعماء وصعاليك وفنانين ودراويش وحالمين. العالم بأسره كان هناك.
* كيف تصف علاقتك بالكتابة؟ و ما هي ملامح الكتابة لديك؟
الكتابة هي ممارسة التساؤل والدهشة. هي الحوار مع المجهول، هي مغازلة الذاكرة للأزمنة وغوايتها للأمكنة. الكتابة امتداد لمشروع القراءة...أو ربما الوجه الأخر له.
لا أتصور حياتي دونما كتاب وقلم. أحد أصدقائي يقول أنه يكتب لأنه لا يجد من يستمع إليه. أقول أنا أكتب لأحادث نفسي و آخرين.
الكتابة احتياج قبل أن تكون أي شيء أخر. تسيطر فكرة ما على ذهني وتقودني إلى الورق أو إلى لوحة المفاتيح فأتنفس كلماتي.. لا أملك طقوسا أتبعها عند الكتابة فالكلمة هي التي تقودني ولا أعلم كيف سينتهي النص حينما ابدأ كتابته.
*وعن ماذا تكتب؟
أكتب عن بعض ما يشغلني.
* في كتابتك الأدبية ترحل بالقارئ إلى الذكريات القديمة شيخ الجامع،والبيت القديم،وفجأة تأخذنا إلى عواصم المدن العالمية كيف تفسر هذا الأسلوب؟
هناك جزء من كل هذه الأماكن والشخصيات بداخلي. أنا يا خالد أبن الجامع والشيخ، أنا أبن الثقافة الإسلامية والقرآن الكريم كان ولا زال ملاذي وملجأي وهو أكثر كتاب أثر في حياتي. كما أنني أبن الجامعة الغربية والكتاب الغربي.. كما تأثرت بكتابات لأدباء غربيين معاصرين وقدامي.
* وما الذي يشغلك الآن؟
أشياء كثيرة يا خالد. بينها غياب الحوار من حياتنا. نحن لا نتحاور في بيوتنا أو مؤسساتنا أو حتى بين أصدقائنا. الحوار قيمة إنسانية هائلة والمجتمعات التي لا تتحاور لن تجد ذاتها. لن تتعرف أبدا عن نفسها. لن تعرف مشاكلها ولن تعثر عن حلول لها. البديل عن الحوار هو سيطرة رؤية فردية يتيمة وهيمنة عقلية القطيع. الحوار هو الاعتراف المسبق بحق الغير في التفكير والتعبير. نحن نطالب العالم بالحوار معنا....وفي نفس الوقت لا نتحاور فيما بيننا. كيف لي أن أطالب العالم بالحوار معي وأنا لم أمارسه يوما ما؟
تشغلني الروح القبلية التي تسكننا منذ داحس والغبراء. لا زال عالمنا شيخ قبيلة وشعراء ومحاربون وغزو. لقد خرجنا من شكل القبيلة ولكننا نحتضن قيمها ونمارس مفرداتها ولا زلنا ننصر أخانا ظالما ثم ظالما ثم ظالما..ولا نبالي به إن كان مظلوماً. أتسألني عن ماذا يشغلني!
تشغلني عزلتنا عن العالم... نحن نقف موقفا أخلاقيا لفظيا من العالم. ندين ونشجب نصرخ وننتقد ولكننا لا نمارس وجودنا كجزء من هذا العالم. نطلب من الكون بأسره أن يتعاطف معنا ولكننا لا نتعاطف مع أحد. أين نحن من قضايا الآخرين؟. لازلنا نتصرف كقبيلة تعيش في قلب الصحراء تتغزل بذاتها حتى الموت عطشا.
لماذا لم ننتج أعمالا إبداعية عن الغير؟ أين نحن من قضايا الفقر والعنصرية والإيدز والجريمة المنظمة؟. أين نحن من رواندا وأمريكا اللاتينية؟. أين نحن من الهنود الحمر أو سكان استراليا الأصليين؟ لقد تأثرنا لما حدث في البوسنة و الشيشان فقط لأنهم امتداد لنا وليس لأنها حالات إنسانية. حاولت أن اجعل من كتاباتي وترجماتي نافذة وان كانت صغيرة لنطل منها على هموم الغير. لذا فقد كتبت عن السود بأمريكا وعن كفاح اليسار بتشيلي وترجمت أعمال من نيجيريا ومن جنوب أفريقيا. ولم احصر اهتمامي بقضايا العالم الثالث بل ترجمت نصوصا لكتاب أمريكيين وكتبت عروضا لكتب وروايات غربية.
أنطلق من حقيقة أننا لسنا أعداء لأحد. نحن فقط نطالب بحقوقنا وباحترام قيمنا وثقافتنا. يجب أن نحارب مشاريع الهيمنة ولكن يجب علينا أن نتفهم ونحترم الثقافات الأخرى. يؤلمني حتى الثمالة ما أراه من عداء وكراهية لكل ما هو غربي لدى البعض منا. وأقولها بكل صراحة إن العداء المطلق مثل التبعية المطلقة وهو رؤية غير متزنة و هو حالة مرضية وعنوان لأزمة في نفوس معتقديها. هناك بالطبع من يغذى هذا الاتجاه بالمقالات والقصائد والبكائيات. والنتيجة هو شباب في عمر الزهور شباب شبه أمي ومحروم من المهارات على استعداد للموت في إي ساحة دون أن يعرف حتى هوية المتقاتلين. هل ثمة ما يؤلم أكثر من ذلك؟ بالله عليك أخبرني.
*كيف استهوتك الترجمة؟ ولماذا؟
لم يكن الأمر مخططا له. فأنا أتابع بعض ما ينشر باللغة الإنجليزية. فتستهويني بعض النصوص فاحدث عنها أصدقائي الذين يحرضونني على ترجمتها. وهكذا كان الأمر. ولكن ما إن انتهيت من ترجمة النص الأول حتى شعرت بولادة جديدة وبعشق جديد. وبعد شيء من التمعن والممارسة أدركت إن الترجمة هي كتابة من نوع آخر. كتابة مقيدة ولكنها لا تخلو من الإبداع. ربما حجم التحدي الذي يواجهه المترجم لا يقل عن ذاك الذي واجهه المؤلف.
* في الترجمات التي تنشرها هناك دقة في اختيار النصوص؟والسؤال كيفية اختيار النص؟
لا أستطيع أن أترجم نصا لا أعشق. لا بد للنص من أن يغويني لأبذل الجهد من أجل تقديمه لقارئ في لغة أخرى. خذ مثلا قصة الأشباح للكاتبة النيجيرية "تشيمامندا اديتشي" والتي نُشرت ترجمتها في مجلة "نزوى" العمانية. شعرت أن الكاتبة لا تتحدث عن نيجيريا و إنما تتحدث عنا جميعا سكان العالم الثالث. وأن كثيرا من شخصيات القصة قد سبق لي وأن قابلتها هنا أو هناك. أما قصة " أمنية وبئر قديم" للكاتبة الأمريكية "دان راي كارسون" فقد سحرتني شاعرية اللغة، براعة السرد وتوظيف الفكرة. أن يتحدث البئر عن العشاق الذين مروا به فهو أمر شائع في شعر البادية لدينا، أما أن تتحدث عنه كاتبة أمريكية معاصرة فهو أمر خارج عن المألوف. أما في قصة المحادثة للكاتب الجنوب أفريقي - وهو بالمناسبة رجل أبيض - فقد شدتني إليها براعة الكاتب في تناول موضوع معقد مثل الحروب الأهلية في أفريقيا واستخدام الأطفال فيها كجنود دون أن يقع الكاتب في فخ التقريرية أو المعالجة الخطابية. تناولها الكاتب عبر حياة قس يمر بأزمة إيمانية. يا له من إبداع.
*ما هي الصعوبات عند الترجمة،وهل الترجمة تحتاج إلى حرفية في نقل النص بشكل حرفي أم نقل المعنى خاصة في النصوص الشعرية والروائية؟
الصعوبة الحقيقية هي في التفاعل مع النص الأصلي. الباقي مجرد تفاصيل مهنية يمكن التغلب عليها بشكل أو آخر. لذا ستبقى الترجمة بالنسبة لي هواية استمتع بها ولن تنقلب إلى حرفة.
بالطبع لا أقلل من قيمة الصعوبات التي قد تواجه المترجم عند ترجمة الشعر مثلا. أو عند التعامل مع مفاهيم غير متواجدة أو غير معروفة في البيئة العربية، كما أن المترجم في نهاية المطاف يتحرك في إطار معرفي ولغوي وثقافي محدد سيترك أثره على النصوص المترجمة. ولكن هل ثمة مهرب من ذلك؟
* لماذا الاهتمام بالترجمة،هل لأنها صارت تشكل نافذة في معرفة العالم؟
بالنسبة لنا كأمة، مسألة الترجمة ليست خيارًا و إنما قدر. ونحن بالمناسبة لسنا بغرباء عن الترجمة. فقد شكلت الترجمة دوما إحدى المكونات الرئيسية لنهضتنا الثقافية. كما أن الترجمات والشروح العربية للنصوص اليونانية لعبت دورا رئيسيا في اليقظة الأوروبية.
الترجمة دليل نضوج ويقظة.
نحن نعيش عصر الحضارة الغربية. شئنا أم أبينا. وإذا أردنا العلوم والتقدم والتقنيات ومناهج التفكير والتنظيم الحديثة فعلينا بترجمتها لتطوير وتحديث مجتمعاتنا. الترجمة كانت ولا زالت أداة للحوار والتفاعل بين الثقافات ووسيلة للتطور الحضاري. الترجمة طوق نجاة لمن يريد أن يتفادى الغرق.
أدرك أن العلاقة بيننا وبين الغرب مرتبكة ومربكة لنا ولهم. وقد زاد من تعقيدها بروز العامل الديني وتوظيفه سياسيا من قبل الجانبين. في ظل هذا التوتر تبدو الدعوة للحوار والتسامح نغمة شاذة ودعوة طوبائية وربما توسم بالسذاجة من قبل البعض. ولكن هل هناك بديل عن الحوار والتفاهم؟ من يملك بديلا أفضل فليرنا إياه.
* لماذا قلة المترجمين الليبيين، و هل هذه ظاهرة عربية؟
أعتقد أن قلة عدد المترجمين لها أسبابها المباشرة المتمثلة في ضعف سوق الكتاب وصعوبات النشر. بالإضافة إلى غياب تعليم اللغة الانجليزية وانقطاع الابتعاث إلى الخارج لسنوات طوال. كما أعتقد أن حركة الترجمة لن يكون لها شأن إلا في مناخ نهضوي يسعي للمعرفة. عدا ذلك سيكون الأمر جهودا فردية متواضعة النتائج.
* وأخيراً ماذا تتمنى أن تترجم؟
أنا معجب حتى الثمالة بالأعمال الأفريقية و الأسيوية المكتوبة باللغة الإنجليزية. فاللغة راقية وشاعرية، المشاعر دافقة والأفكار هائلة. وكثير منها يتناول التعقيدات الناشئة عن العيش في ثقافة تختلف عن ثقافة الاباء والأجداد، مثل ما يحدث مع الجيل الثاني من المهاجرين إلى دول الغرب. فمسائل الهوية والانتماء وصراع الأجيال والثقافات وعلاقة كل ذلك بحياة الأفراد العاديين هي المحور الرئيسي لكتابات مثل ازادي سميث و مونيكا علي وغيرهم. أتمنى أن تتاح لي الفرصة لترجمة عدد من هذه الأعمال. أما الحلم السري الذي يراودني بين الحين والآخر فهو ترجمة نصوص عربية إلى اللغة الإنجليزية.
خالد المهير صحفي وكاتب من ليبيا.