البجعة السوداء: أكثر الكتب مبيعاً في أميركا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
اللبناني فيلسوف العلوم والتاريخ والرياضيات كل شيء عنده يبدأ في أميون
نيويورك - من سيلفيان زحيل: منذ صدوره في نيسان الماضي، عرف "البجعة السوداء" آخر أعمال اللبناني نسيم نيقولاوس طالب نجاحاً عالمياً مدوياً. نُشر هذا الكتاب الذي يتناول "أثر اللااحتمال العظيم واللايقين"، في فئة "كتب الأفكار" وصنِّف "بحثا مبسطا يتضمن ألف مرجع"، وها هو في أعلى قائمة "نيويورك تايمز" للكتب الأكثر مبيعا للأسبوع الثالث عشر على التوالي. جعلته "بيزنيس ويك" في المرتبة الأولى واختارته "أمازون. كوم" من "بين أفضل كتب 2007". أثارت مقاربته الفلسفية لتيمات موسومة بالفكاهة، الاهتمام على مختلف
يقول نسيم طالب بحذق في لقاء مع "النهار": "كتاب "البجعة السوداء" تقني، هجين بعض الشيء. كتاب علمي يتلبس الشكل الأدبي. تماماً مثل مارسيل بروست، ابتكر شخوصاً متخيلة تنبثق وسط الكتاب لتثير اضطراب القارئ. في خضم النقاشات أتوجه الى القارئ من باب الحكايات النادرة". هذا العمل هو انعكاس لتطوره الشخصي. بحث نقدي مطعّم بفكاهة ثابتة تقترب من السخرية. انه أيضا تأمل أساسي في طريقة تصويرنا العالم: "كتابي خريطة طريق لعالم لا نفهمه، حيث الصلات بين التوقعات والتصرفات والنتائج ليست شديدة التطور. "البجعة السوداء" خريطة جغرافية لمجالات البجعة السوداء. لا يمكن التنبؤ بالحروب والتكنولوجيا والاقتصاد، والأسواق. لذا استخدمت الاستعارة والسرد الى حدودهما القصوى".
المصادفة واللايقين موضوعان سحرا منذ الطفولة "فيلسوف العلوم والتاريخ وعالم الرياضيات والإحصائي" هذا، الذي يؤكد ان "المصادفة تخدعنا". أطلق نسيم طالب تيمة "البجعة السوداء" في باكورته، "خدعتني المصادفة"، التي نشرت في أربع وعشرين لغة، ولا تزال هذه التيمة صالحة حتى الآن. بالنسبة اليه، فإن الحرب اللبنانية والحادي عشر من ايلول هما "البجعة السوداء المثالية". ولكن لماذا "البجعة السوداء"؟ يوضح نسيم طالب، المعجب بالفيلسوف والاقتصادي والمؤرخ ديفيد هيوم، فكرته على النحو الآتي: "قبل اكتشاف اوستراليا، لم يكن الناس رأوا بجعة سوداء. لم يكن لديهم سبب للاعتقاد بوجود بجع غير البجع الأبيض. في الواقع، إن مثالاً يتيماً يكفي لتدمير سنوات من التوكيد. لا تملك بجعتي السوداء ريشا. في الأصل هي حدث غير متوقع أو مفهوم يقوم على المعرفة. إنها أيضا حدث ينطوي على نتائج محورية". للتوضيح، يشرح: "إذا تطلّعنا الى الحوادث من منظار مستقبلي، فإنها تتراءى لنا غير متوقعة، لكنها قد تبدو متوقعة تماماً، إذا نظرنا اليها من منظار استعادي".
عند اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975، كان الكاتب في الخامسة عشرة، وهو مذّاك يراقب العالم المحيط به ويدرسه. "تستبد بتفكيره" تماما فكرة تصوير العالم التاريخي وفهم التاريخ. بغية التحكم بموضوعه، أمضى ست سنوات في دراسة بيولوجيا التصور: "هذه الفكرة أساسية على الصعيد النفساني لفهم العالم". يتساءل طالب "لماذا يبقى ضروريا أن نفهم، قليلا، عالما لا يسعنا توقعه ونظن اننا نفهمه؟ ما هي هذه الآليات العصبية والبيولوجية التي تقنعنا اننا نفهم أكثر مما نفعله فعلاً. في هذا السياق تحديدا، يكمن جزء كبير من البجعة السوداء".
بغية فهم الكتاب، يدعونا مؤلفه الى رحلة عبر ما يسمّيه Meacute;diocristan وExtremistan وهما مجالان من مجالات "البجعة السوداء": "يعبّر Meacute;diocristan عن نفسه من خلال عينة من ألف فرد نضيف اليهم الشخص الأكثر سمنة في العالم. لن يتغير آنذاك المعدل. لكن، إذا أضفنا إليهم في المقابل، الشخص الأشدّ ثراء في العالم، فسيرتفع معدل الثراء. المجالات التي لا تتأثر بـ"البجعة السوداء" هي جزء من فئة Mediocristan حيث نجد خبراء مزيفين. أما المجالات الاقتصادية فجزء من Extremistan".
ثاني جوانب الكتاب هو آلية surcausation أو المغالطة السردية: "في الأساس، ممتلكات التاريخ هي التي تصنع ما أسمّيه surcausation، أو كيف يخدعنا التاريخ من طريق ظواهر surcausation . التاريخ أشد وضوحاً في ذكرياتنا وفي الكتب مما هو عليه في الواقع التجريبي. وهذا ينسحب أيضا على الأسواق المالية". يشرح نسيم طالب كيف "يصعب علينا ملاحظة النتائج بالعين المجردة من دون أن نربطها بمسبب".
كيف نتصرف في وجه "البجعة السوداء"؟ يحذّر المؤلف قائلاً: "يجب أولا ان نميّز بين الخبراء الحقيقيين والمزيفين. الطباخ أو طبيب الأسنان هما من الخبراء الحقيقيين. أما الاقتصادي فليس خبيرا، لا هو ولا السياسي أو المحلّل المالي. أكبر الدجالين هم المؤرخون أو المؤرخون الرسميون (محللو التاريخ) الذين يجدون أسبابا للحوادث التاريخية. إن أولئك الذين يكتبون على النحو الأفضل ليسوا في الضرورة اولئك الذين يفهمون على النحو الأفضل".
ينطلق "البجعة السوداء" من الحرب اللبنانية وينتهي ببحث يهدف الى "تدمير" الثقافة الأوروبية برمتها والمرتبطة بما نسمّيه عصر التنوير، "المدمر للفكر الحديث". لا يتمتع نسيم طالب بعبقرية ابي حامد الغزالي الذي يراه "المشكك الكبير في السببية وأكبر المفكرين في شتى الأزمنة"، لكنه يوفق في شرح اننا "نخطئ في ظننا ان العلم قاد الى تطور العالم". في الواقع، يجب "رؤية الأشياء على نحو معاكس". بالنسبة الى الكاتب، الاكتشافات كلها في الطب والتكنولوجيا هي محصلة المصادفة. في الطب، وجدت غالبية العلاجات، مثل الفياغرا وعلاج السرطان، عرضاً. أما على صعيد التكنولوجيا، فلم يكن متوقعاً من اللايزر والحاسوب والانترنت، وهي ثلاث تقنيات باتت مسيطرة، أن تحدث ثورة في العالم: "هذه التقنيات والعلاجات هي بجعات سوداء"، ما حمل بعض العلماء الأوروبيين على اتخاذ موقف دفاعي حيال تأكيدات الكتاب. استقبله المقاولون ايجابا "لأنهم يفهمون التكنولوجيا"، شأنهم في ذلك شأن العلماء النفسانيين واطباء الامراض العصبية والعسكر، لكنه تعرض الى هجمات قاسية من الإحصائيين والاقتصاديين "لأن الكاتب عبر عن رغبته في تدمير مهنتهم". يقول: "أريد إقفال أقسام الاقتصاد في أميركا، فلو أشرفت "إدارة الأغذية والعقاقير" على محللي "وول ستريت" لوضعتهم في السجن".
يعتبر طالب نفسه "محظوظا جداً" لتعرضه للهجوم من مجلة American Statistical Association التي خصصت عددها الأخير لتسخر من نظرياته. أما النتيجة فإنهم "استطاعوا رفع مبيع كتابي".
استقبل نسيم طالب بحفاوة في انكلترا وانتقده بشدة بعض الذين حصدوا جوائز نوبل، من بينهم روبرت انجيل بسبب "نظرياته المركزية". كان "البجعة السوداء" الموضوع المركزي في الصحافة العالمية. فقد ترك هذا العمل إنطباعا بارزا ولا سيما لدى حاكم بنك انكلترا والمؤرخ نيل فيرغيسون من اوكسفورد وهارفرد الذي يعتبر ان نسيم طالب "دمر التقليد التاريخي منذ هيرودوتوس".
عوض النوم على أمجاده، يكبّ طالب على كتابة جزء ثالث من ثلاثية ستحمل عنوان "المقدس والتجريبي" يتناول فيها تيمة القشرة الأفلاطونية أو الاختلاف بين الأشياء التي يمكن الاحاطة بها فكريا وما لا يسع ذهننا تصوره لأننا لا نتمتع بذكاء كاف لذلك، مستندا الى نظرية الغزالي المناهضة للفلسفة الأفلاطونية: "لقد شيدت فعلا نظاما فلسفيا. أمضيت عشرين عاما في وضع قائمة ينبغي لها التعبير عن غياب المعرفة في التصرفات المحددة". في تعبير آخر: "كيف نعيش ونعيش جيدا في عالم لا نعرف فهمه؟".
كيف يصف نفسه هذا الفيلسوف والمؤرخ والإحصائي وصاحب الفكاهة اللاذعة الذي كان في ما مضى "عميلا" لامعا في "وول ستريت" والمعروف خصوصاً بإسم NNT ؟: "ككل شخص يملك فكرة بسيطة، أجد نفسي في مجالات عدة، في مزيج من الفلسفة والإحصاء والعلوم الطبيعية وعلم النفس والاقتصاد والرياضيات والتاريخ الرسمي. أمضيت عشرين عاماً في سعيي الى إتمام فكرتي على نحو مثالي من خلال تغطيتها بأسس منطقية وتجريبية". نسيم طالب هو أستاذ في علم الاحصاء في "لندن بيزنيس سكول" التي لا يقصدها البتة، وأستاذ في جامعة نيويورك التي يرتادها "لاحتساء فنجان قهوة فحسب"، ويتلقى غالبا دعوات الى إعطاء محاضرات أو الى المشاركة في مناظرات: "أنا كاتب. أكتب مقالات علمية"، يقول متفاخرا. يعيش منسحباً بين لارتشمونت وأميون، "مكانه المفضل" الذي يذكره عشر مرات في كتابه. بالنسبة اليه "كل شيء يبدأ وينتهي في أميون"، وهو نشر صور بلدته، عاصمة الكورة، على موقعه الالكتروني. يقول: "بين أميون ونيويورك، أفضّل أميون، لكني أسأم فيها أكثر بكثير مما أفعل في نيويورك".
ترجمة رلى راشد