ثقافات

الأدب الصيني الشبابي وثورة الوقائع العارية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

محمد مسعاد: يعتري المرء أحساس بالتخمة وهو يزور مكتبات بكين الكثيرة. يتعلق الأمر بسوق كبيرة للكتب، الناس في كل مكان واقفون، وآخرون جالسون القرفصاء، طلبة، متقاعدون، رجال أعمال، أمهات، أولاد. الكل يتصفح الأوراق بنهم، الجميع غارقون في القراءة. لا يميزالصين عدد السكان الكبير ومعدل النمو المرتفع فقط، فعلى الرغم من الفقر والأمية، تشهد البلد حركة نمو كبيرة، تزدهر معها أيضا سوق الكتب أكثر من أي بلد آخر، تزداد معها أعداد القراء والكتب ً. رفوف كثيرة هنا وهناك، تضم مختلف أنواع الأداب من الكلاسيكي إلى الحديث، ناهيك عم رفوف أخرى تزدحم بكتب الشعر والمسرح والآداب العالمية.
يغلب على هذا الطوفان من الكتب، الذي لا مثيل له في الغرب، السيرة الذاتية أو ما هو مستوحى منها. مقابل هذه الحيوية في المكتبات وسوق الكتاب بشكل عام في الصين يتساءل المرء عن سر هذا الأدب الذي استغرق وقتا كبيرا كي يصل إلى القارئ الأجنبي. فمنذ ظهور الترجمات الأولى لكتاب وأغلبهم شباب كـ "مويان" و"شو تونغ" وأخرين الذين تأثروا بكتاب عالميين من أمثال جيمس جويس وغابريال غارسيا ماركيز، بعد هذه الموجة بدأت تظهر ترجمات أخرى لمؤلفين شباب أيضا منهم من لم يتجاوز سن العشرين "كميان ميان" صاحبة كتاب "لا لا لا" و "واي هو" صاحبة "شانغاي"، هما كاتبتان تناولتا تفاصيل الحياة في المدن الكبيرة ومتاهاتها اليومية كالجنس والمخدرات ومتاهات الحرية. لقد شكلتا انطلاقة لما عرف فيما بعد بموجة "أدب البوب"، فظهرت بعد ذلك أونطولوجيا تحت عنوان "الحياة هي الآن"، هي عبارة عن محكيات قصيرة لكتاب شباب ولدوا بعد سنة 1960، كانت كلها تأكيداً "للبوب ليتيراتور"، تلتها كتاب "ليلك نهاري" للكاتبة "ميان ميان"، وهي كلها محكيات قصيرة تسير في نفس الخط، أي: متاهات الحياة اليومية في المدن الكبيرة وأسئلة الشباب. تقول "أني بايبي"، وهي أصغر كاتبة في الأنطولوجيا السالفة الذكر وهي من مواليد 1974، "لا أستطيع الكتابة إلا عن الأناس الذين اعرفهم". تكتب عن أناس عاديين. تهتم وزملاء لها مثل "شون شو" و"با كياو" بأناس لم يعيشوا بالضرورة قدرا بطوليا.
هذه النظرة الدقيقة للتفاصيل أو النظرة من تحت، يساهم فيها أيضا الكاتب الشاب "وايواي" الذي نشر روايته الثالثة، و "فوشينجون" و"مالان" والذين يصفون جميعا بنية الأسرة الصينية التقليدية التي تنهار تدريجيا، أو الذين تنهار الأرض من تحت أقدامهم، الذين لم يعودوا يفرقون بين الحقيقة والفانتازيا. على الرغم من التطور السريع لأدب الشباب الصيني الحديث، فإنه دائم البحث عن ذاته، يلتصق بالواقع المجتمعي، يستوحي أحداثه وشخوصه من الرؤى الذاتية، لكن دون أن يكون وفيا للمذهب الإيديولوجي الذي ميز كتابات عقد الثمانينات. إنها كتابة عن الواقع لكن دون الانجرار إلى البطولة الواقعية.
هؤلاء الكتاب الجدد، كانوا، إما مراهقون أو صغار عندما شارفت الثورة الثقافية التي دشنها "ماو" على نهايتها، وبالتالي لم يعيشوا متاهاتها. وحتى وان لم يكونوا أيضا حاضرين في انتفاضات ساحة "تيان مين" الدموية سنة 1989 فلقد خلفت هذه الأحداث أثرا بالغا عليهم. فهم ينتمون الى الجيل الأول من الكتاب والفنانين الذين تأثروا بالأفكار التحررية لهذه التجربة والتي بدأت تبتعد تدريجيا عن حاجيات الأسرة والمجتمع.
يوضح جل هؤلاء المبدعون أن الأوضاع الثقافية في الصين متذبذبة وأنها تفتقر لبنيات مضبوطة، بل ان جمعية الكتاب التابعة للدولة، لم تعد تمثل أغلب هؤلاء الكتاب، ولأسباب سياسية وأخلاقية. لقد اكتفى أغلب الكتاب من الجيل السابق لهؤلاء الشباب بدور الملاحظ المهادن، هذا الدورالمتواضع للكتاب الصينيين،الذي ابتعد نسبيا عن المهمة التربوية او دور المعارضة، لا يعجب فئة عريضة من القراء.
تشكل الرقابة الغول الذي يرهب الكتاب الشباب والناشرين في الصين، إذ يؤكد جميعهم على الحضور القوي للرقابة، وأنها تلعب دورا كبيرا، غير أن البعض يرى أن الانترنيت خففت من هذا العبء. ويؤكد الناشر "يان نيغ" وجهة النظر هذه، فبالنسبة اليه ليست الرقابة وحدها الحاجز الوحيد، ولكن السوق نفسها أيضا، تسيطر عليه دور النشر الرسمية الخاضعة لتوجهات الدولة. ففي كل مرة، إذا أراد مثلا "يان نيغ" أن ينشر كتابا جديدا، يجب عليه أن يحصل على رخصة يصل ثمنها الى ما بين 2000 و3000 يورو، في حين أن دور النشر المكرسة معفاة من هذه المكوس. إضافة إلى ذلك أن المكتبات هي الأخرى تخضع للتوجهات العامة للدولة. لذلك فإن مساهمات المكتبات ودور النشر الصغرى والخاصة في إنعاش الحياة الثقافية في الصين جد محدودة. غير أن لأوضاع بدأت تشهد انفتاحا محدودا وذلك بعد توقيع الصين على اتفاقية التجارة العالمية قبل سنتين. لذلك نجد عدد من الناشرين كما هو حال يان نيغ التوفيق بين سلطة الرقابة وتحولات سوق الكتاب في الصين، وذلك بنشره للكتاب المكرسين دون أن يغفل الكتاب الشباب.
شكرا للرقابة
"ميان ميان" من الأقلية التي تعيش في شانغاي، وليس بكين كأغلب اقرانها وقريناتها من الكتاب، كتابها الثاني "ليلك نهاري" الذي تعرض للمنع هو الآخر، يعالج حياة البوهيميين الشباب، عالم المخدرات، الجنس. تدور أحداث المحكيات في بار في شانغاي رواده كلهم من الأجانب باستثناء الراوية والنادل. وفي اللقاءات القليلة التي تجمعها بالصحافة تتهرب من الأسئلة الجدية، تفضل دائما الحديث عن عالمها الخاص، عن ابنها الذي يعيش في بكين رفقة ابيه، تحكي بمتعة عن عوالم صغيرة غالبا ما تكون فضاءات لمحكياتها. صرحت مرة قائلة إن "الرقابة التي منعت كتابي الثاني، هي أجمل حدث في حياتي، حيث ضاعفت من شهرتي في الصين وفي الخارج".
"شون شو" هي الأخرى حديثها دائما عن حياتها الخاصة تنتشي بالنجاح الذي حققته روايتها "بايجين دولس" في أميركا وبريطانيا. عانت هي الأخرى من المنع بل اكثر من هذا، انها تتعرض للمضايقات في الشارع العام بسبب كتابتها التي تعتبر ناطقة باسم مجتمع الهامش. إن هؤلاء الكتاب الشباب كتاب يتماهون مع كتاباتهم، يعيشون ما يكتبون ويكتبون ما يعيشون.
يمكن القول أن الصين انطلقت منذ مدة وعلى أكثر من صعيد، وها هي الآن تدشن لانطلاقة جديدة وعلى مستوى آخر، مع كتاب شباب، تتضاعف شهرتهم وقراؤهم تدريجيا فاتحين الطريق أمام أدب جديد.
*كاتب وصحافي من المغرب يقيم في ألمانيا

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف