الدم يورث الدم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صلاح نيازي:بيقين ثابتٍ، وحرصٍ غيور، يشترط آبن قتيبة - من بين ما يشترط - على الكتّاب الناشئة، أن يتمعنوا في أيّام العرب، وإلاّ فصناعتهم الكتابية لا تستقيم أدواتها، وكذلك يفعل عبد الحميد الكاتب، وآبن الأثير الْجَزَري. أيّام العرب المدوّنة ذات حدّيْن فعلاً. الكاتب الناشئ إنْ لم يتدرّعْ بالأمصال واللقاحات، سيتعرّض إلى الإصابة بعدم التقزّز من الدم. لا مراء قد يجد بعض الكَتَبة الكلاسيكيين، طرافة أدبية وملحة، أو مقطوعة شعرية مؤثّرة، ولكنْ تحت ركامات من العنف الدموي العشوائي، والثأر المبيّت، ومحو أثر الضّد.
الغدر أخسّ أنواع القتل. تُدعى إلى خوان في خيمة، ثُمّ تُطعَم السيف من الخلف. تُكرّم بفنجان قهوة، فيشتعل جسدك بالسمّ. أو تُترَك لتنام، فتصبح فريسة مطعونة بعدّة ثقوب فاغرة. هرب أحد المسلمين من الآضطهاد إلى الجبل ليبات ليلته. آلتقى بكريم عينٍ يغنّي بالضدّ. لم يعلنْ صاحب العين الكريمة عن هويّته. لم يُمارهِ. صبر عليه إلى أن نام، فغرز رمحه في العين السليمة. هكذا تنتهي الحكاية، بلا تهوّع أو أرق، وما للضمير من أثر.
مرّتْ شعوب أخرى بتأريخ دموي كهذا، ولحدّ الآن، وما إلياذة هوميروس، إلاّ أكبر دلتا دموية في تأريخ التأليف. غير أنّ تمجيد الطرفة، والمقطوعة الشعرية فيه، لا يختلف كثيراً عن آبتهاج لصّ بخاتمٍ ثمين بمعزل عن الإصبع التي بترها، وهل يختلف كثيراً عمّن يمجّد صدق التمثيل، ومهارة حركة الكاميرا في أفلام رعاة البقر؟ بهذا المعيار لا يختلف شرط آبن قتيبة وغيره، عمّنْ يقدّم لك نصيحة واثقة، بأنّك لا تتمكّن من آستعمال المجهر، ولا تُحسن التهديف وإصابة النيشان، ما لم تتعلّمْ كيف تسترق النظر من ثقوب الأبواب.
إدمان قراءة أدبٍ كهذا، كإدمان مشاهدة أفلام رعاة البقر سواءٌ بسواء. أقلّ شروره تبليد بشريّة الإنسان، بحيثُ يُصبح مشهد الدم المسفوح منظراً متكرّراً، وبالتكرار تفقد الأشياء طاقتها على الإثارة. أو كما يقول أوسكار وايلدْ:"المنظر المتكرّر لا يثير الآنتباه".
الغريب في هذا التبلّد، أنّ الأمّةَ تتواطن عليه. يصبح من حيثيّتها وأعرافها، لذا فهو من أشدّ أنواع التوحّش وكأنْ "لا يأتيه الباطل من بين يديْه ولا من خلفه"، لدرجة أن أحد الأدباء الأكاديميين، وكانت له اليد الطولى في توجيه دفّة الأدب قبل ثورة 58 بالعراق وبعدها، وسم شاعرا عراقيا بأنّه "رسول العراق للإنسانية". وهذا الشاعر بعينه كان قد قال عندما آشتدّتْ الخلافات بين مصر والعراق: "إنّا سنجعل من جماجمهم منافض للسجاير". وقبل ذلك كيف نفسّر أنّ سبعة عشر خليفةً عباسياً - وفي مدي سنوات قلائل خُلِعوا وهم ما بين قتيل ومسحول ومفقوء عين، على أيدي أقرب المقربين إليهم، حتى أنّ الخليفة القاهر، أصبح بعد أنْ سُمِلتْ عيناه متسوّلاً بأبواب المساجد ببغداد؟.
صحيح أنّ بعض الشعراء القدامى كرهوا الحرب، وحسّنوا السلم في النفوس، وقد يكون آمرؤ القيس أحذقَ مَنْ تنبّه لسيكلوجية الحرب (الأبيات من زيادات آبن النحّاس):
الحربُ أوّل ما تكون فتيّةً
تسعى بزينتها لكلّ جهولِ
حتّى إذا آستعرتْ وشبّ ضرامها
عادت عجوزاً غير ذاتِ خليلِ
شمطاءَ جزّتْ رأسها وتنكّرتْ
مـكـروهة للشـمّ والـتقبيـلِ
صحيح أيضاً أن الخوارج في صيدهم وطَرَدهم، لم يقتلوا حَيَواناً، إلاّ أنّ ذلك ليس ببيت القصيد هنا.
المقصود في هذه الأسطر، هو ما الذي ساهم فيه الأديب في التقزّز من الدم؟ كيف عالجنا التقزّز من الدم؟ إنّها لمهمّة شبه مستحيلة آستقراء كل الأدب العربي، ولا حتى آستقراء متصفّح. إلاّ أنّ فكرة لا تني تغري على القول، ولو بتحفظ: إننا في تراثنا نحسن تصوير الضحية، كما في المراثي والدراما الفولكلورية، ولا نتعمّد الدخول في ضمير القاتل. لكن ربّما نشبعه هجواً وشتماً ولعناً، ونهدّده بالغد والله والآخرة. بكلمات أخرى، لا يغرز أديبنا عدسته داخل القاتل، ليعكس تطوّر أزماته بعد القتل، وكيف تملح عيناه من الأرق والخوف، كيف تتنكّر حواسّه، بعضها لبعض. خلاف ذلك فإننا نتبسّط كل التبسّط في تصوير الضحيّة.
رُوِيتْ قصة ديك الجنّ، وما فعله بزوجته ووصيفه، بعدّة وجوه. لكنْ لتكنْ رواية العاملي في الكشكول أساساً هنا، لغرض فنّي فقط:"وجَدَهما في بعض الأيّام مختلطيْن تحت إزار واحد، فقتلهما وأحرق جسديهما وخلط به شيئاً من التراب وصنع منه كوزيْن للخمر، وكان يُحضرهما في مجلس شرابه، ويضع أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، فتارة يقبّل الكوز المتخذ من رماد الجارية، وينشد:
يا طلعةً طلع الحِمام عليها
وجنى لها ثمر الردى بيديها
هذه مادّة خام، تصلح أن تكون من أهمّ الأعمال الأدبية في الندم، ومَنْ أقدر على تصوير صدقها غيرُ صاحبِها؟ يبدو أنّ ديك الجنّ بعد هذه الجريمة الطائشة، لم يزدْ إلاّ الخمرة خمرتيْن، والفسق فسوقاً ومجوناً، حتى لَتشعر أنّ بكاءه لم يكنْ سوى أنانية باردة الأعصاب:
عهدي به ميتـاً كأحسـنِ حالمٍ
والحزنُ يسفح عبرتي في نحرِهِ
لو كان يدري الميْتُ ماذا بعدَهُ
بالحيِّ حـلّ بكـى له في قبـرِهِ
جملة "عهدي به"، وخاصّة ضمير الهاء في به،جعلتْ ضحيّته بعيدة زمناً ومنفصلة عنه مكاناً. لا يمكن أيضاً تبرير قوله " كأحسن نائمٍ"، إلاّ إذا آختلط على الشاعر: الموت والنوم وراح يتصرّف وكأنّ القتيلة نائمة حقّاً، موهماً نفسه أنها ستستيقظ في أيّة لحظة. وما من إشارة إلى ذلك.
بالإضافة، فإنّ "كأحسن نائم"، توحي بوضوح، أنّ المسجّى لم يدفنْ بعدُ، مما يتناقض مع: "في قبره" في البيت التالي. أكثر من ذلك إنه أحرقها فكيف يصفها وهي ميتة نائمة؟
مهما دار الأمر، يبدو أنّ الشاعر في البيت الثاني، آنشغل بأمريْن: ترويض تفاعيل بحر الكامل: "ماذا بعده بالحيّ حلّ" فجاءت العبارة مفكّكة. الأمر الثاني أنّه بصحوٍ ذهني يتوقّع البكاء عليه هو. يبدو هذا الصحو على أشُدِّهِ نصوعاً في رثاء آخر:
سوف آسي طول الحياة وأبكيك على ما فعلتِ لا ما فعلتُ
هكذا فشا ديك الجنّ سرّه. لا يبكي على ما فعل، بل على ما آرتكبته هي من خيانة، وبذلك يحلّل قتلها فيناقض كلّ مراثيه وكوزه الذائع الصيت.
حكاية ديك الجنّ مادّة خام، كما ذُكِر أعلاه، وهي على فرادتها برواية العاملي، بقيتْ حكاية شخصية محدودة، لا تستوعب بشريّة أوسع، كبركان صغير لا يهدّد كلَّ جيرته من مخلوقات، وكلّ قرّائه باللامتوقّع. أيْ أنّ رماد كوزه، لم يكنْ إلاّ غصّة ترثي لها، لا غصّة تنتقل عدواها إليك فتعاني منها. لنذكرْ، وليس من باب المقارنة، عطيْل الذي قتل، مثل ديك الجنّ، زوجتَهُ، غيْرةً عليها، وشكّاً فيها. لكنّك لو قرأتَ مسرحية عطيْل عشرات المرّات، فإنّك تبقى تتساءل، كما تساءلتَ في المرّة الأولى التي رأيتها فيها أو قرأتها، هل سيقتل زوجته دزدمونة؟ بودّك أن تصعد على خشبة المسرح وتصرخ بملء حنجرتك، بملء أذنه: إنّها بريئة. بودّك لو قامت معجزة في آخر لحظة وأُنقذتْ دزدمونة. لكن لماذا نتعاطف معها؟
دزدمونة لم تعدْ دزدمونة. إنّها براءتنا الباطنية تجسّدتْ خارجنا، في دزدمونة. أصبحت دزدمونة أنت، أنا، وكلّ مَنْ يقرأها أو يراها. بالطريقة نفسها تتساءل ما الذي سيفعله عطيْل بنفسه، بالدنيا كلِّها؟ هل سيغيّر النهاية التي قرّرها شيكبير؟ ليته يفعل، ليته، ليته، وأنت تعرف تمام المعرفة أنّه لا بدّ غارز خنجره في صدرها لا محالة. ومَنْ ذا الذي لا يصيبه الغثيان مع راسكولنكوف في الجريمة والعقاب، حين وجد قطرة من دم الضحية على حذائه، وكان قد تأكّد - كلّ التأكد - أنه أخفى آثار الجريمة تماماً. وما دام لمْ يفطنْ لتلك القطرة، فما أدراك، ربّما ثمّة لُطَخٌ أخرى لم يرَها. هنا يبدأ شكّه في عينيه. ألا تفتح عينيْك معه مستنفَراً، بكلّ حمّى وانهلاع، تفتّش عن أثرٍ آخر سواها؟ تصبح وكأنّك أنت القاتل، لا معنيّاً بالجريمة، بل بإخفائها. ألمْ يعترفْ فلوبير في المحكمة، أنّه هو مدام بوفاري؟ وهل يكون قارئها إلاّ هي؟.
آعتقد العرب القدامى، أنّ طائراً خرافياً يخرج من رأس القتيل، يسمونه الهامة أو الصدى، وهو يصيح: (إسقوني إسقوني)، ولتنزلْ بعد ذلك الدواهي، أو كما قيل: (صَمّي صمامِ). لِمَ لا يخرج هذا الطائر من رأس القتيل إلى رأس القاتل وصدره وضميره، ليقيم قيامته فيه ويشعل جحيمه هناك؟ لماذا نصوّر الضحية بأشدّ الألفاظ عاشورية، ولا نصوّر القاتل؟
قد يكون شيكسبير أهمّ كاتب فطن إلى القاتل. الدوائر تدور عليه أمام النظّارة (رغم أنّ القوى الخفية هي التي تحرّك الأحداث والشخوص). ما من وصفةٍ للتقزّز من الدم كمكبث، وما من قولة مأثورة ترنّ في قاع النفس البشرية كقولته الشهيرة:
"الدم يورث الدم" Blood will have blood.
لِمَ لا نتشفّى بمصرع مكبث ونعرف أنّه مدان؟ لِمَ لا نتشفّى بالليدي مكبث وهي تجوب ممرات البيت، مفتوحة العينيْن، لا ترى، سائرة في نومها، تهذي، مذعورة من الظلام، ومن أثر دم الملك العجوز دنكن في يديها؟ هل حوّلهما شيكسبير من شخصيّتيْن تأريخيتيْن إلى جرثومتيْن في كلٍّ منّا؟ إلى مرآتيْن تعكسان شرّنا الكامن فينا، ويتضخّم حينما تواتيه الظروف المناسبة؟ أو كما يقول أحد المغنين الأمريكيين: "لو عرف العالم ما يدور برأسي لشنقني ألف مرّة".