شكسبير والدراما السياسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صالح حسن فارس من أمستردام: لايمكن التعرف على عوالم شكسبير المسرحية الا من خلال إعادة قراءة ومشاهدة أعماله باستمرار. وتظل مسرحياته مصدراً لا ينضب لتأويلات جديدة وقراءات متنوعة لدى الكثير من الفنانيين المسرحيين في العالم العربي والغربي الذين قدموا أعماله ولازالت تجتذبهم لتقديمها على الخشبة، ولكل مخرج طريقته في القراءة والتأويل والتناول.
عرض بنسختين
عرض العمل بنسختين، واحدة تقدم من جزءين في مساءين منفصلين. والأخرى تمتد عبر مساء واحد طويل مع استراحة مقسمة الى عدة مرات وهي ضرورية للمثليين والجمهور. عناصرالاثارة والتشويق والاستراحات القصيرة جعلتنا نستمتع بالعمل الطويل على مدى اكثر من اربع ساعات يشترك فيه خمسة عشر ممثلاً من فرقة أمستردام المسرحية.
رأى المخرج في تراجيديات شكسبير الثلاث معالجة من زوايا مختلفة لموضوعة واحدة هي صعود وهبوط الزعيم السياسي. "كريولانس" يستسلم لغرائز الجسد ولارادة الناس. بينما يحاول "يوليوس قيصر" على العكس من ذلك ان يستخدم العقل لارضاء الشعب. أما انطونيو فيتمزق بين المسؤولية العامة ورغباته الشخصية. الجسد،العقل، القلب هي القوى المحركة في التراجيديات الرومانية المعدة عن اعمال شكسبير الثلاثة. على الرغم من ان مسرحية "كريولانس" لم تُعرض الا قليلاً على خشبة المسرح ويرجع السبب في ذلك كما افاد الناقد "يان كوت" إلى أن (هذه المسرحبة لم يكن لها الا قلة من المعجبين والمتحمسين...)، جاء هذا العمل المسرحي الضخم ليُفند هذه المقولة، ويؤكد اصرار المخرج على اختراق اعمال شكسبير في تجربة تستحق مكاناً متميزاً بين التجارب المسرحية الهولندية المعاصرة. دعونا نتأمل كيف تألق المخرج الهولندي بهذا العمل الكبير وتأويله السياسي.
الجمهور في قلب الحدث
من البداية يجد المشاهد نفسه في طريقة جديدة للعرض المسرحي، فقد كان للجمهور الحق في اختيار المقعد الذي يريد وأي زاوية من زوايا المسرح دون التقيد بنظام المقاعد المرقمة كما يحصل
ترقب ودهشة، مالذي سيحدث بعد هذا كله؟
يفاجأ الجمهور بصوت يأتي ليقول بامكانكم أن تغيروا أماكنكم وثمة استراحة لمدة عشرة دقائق بعد نهاية كل مشهد، امتلأت الخشبة بحركة الممثلين المفعمة بالحيوية التي تداخلت مع دخول وخروج الجمهور. اصبح الجمهور شريكا في اللعبة المسرحية وتفاعل مع العرض في المتابعة والتلقي. كسر المخرج المألوف والسائد والمتوقع من قبل الجمهور. بداية مدُهشة حقاً، طقس بهيج جعل الجمهور جزءاً لا ينفصل من احداث العمل وكأنهم الشعب الذي يتابع اخبار ملكه عن كثب.
قصة دكتاتور
"كريولانس" وأسمه الحقيقي "كايوس مارسيوس" من أشجع الرومان وقد سمي كريولانس بعد أن استولى على مدينة كوريولي من أهلها الجبليين المعروفين بأسم "الفولسيين". ينحدر "كريولانس" من سلالة العوائل النبيلة، وأثبت قدراته ومهارته كجنرال بالحروب التوسعية التي حدثت في مدينة روما، ثم ازداد طموحه عندما تم تعيينه قنصلاً، لكنه لم يتمكن من اجادة اللعبة السياسية ولم يكن يُخفي احتقاره للشعب. كما يرفض الأعتراف بالنواب الذين اختارهم الشعب، حيث تتصاعد حدة الصراع وتنتهي بنفيه خارج روما وتدفعه الرغبة بالتحالف مع ألد أعداء روما لاحتلالها من جديد. هذه هي فكرة المسرحية باختصار شديد.
لكنه حين يجلس مع ممثلي الشعب في الاجتماع يبدأ بالتصرف كطاغية وتحدث مشادة بينه وبين ممثلي المواطنين، يمضي العمل بايقاع سريع وعنيف كحياة الملك المتوترة، تحتدم الاحداث وينشغل العالم باخبار الملك، نرى حواراً تلفزيونيا حياً تبثه أحدى القنوات التلفزيونية العالمية الذي تقدمه الممثلة- المذيعة- مع أحد الممثلين وتسأله عن أحوال كريولانس.
من المشاهد الجميلة والممتعة مشهد المشاجرة بين الملك "كريولانس" وافراد الشعب حينما يقرر نفيه خارج روما، كم هو مشهد رائع حيث يظهر فيه المخرج القدرة الكامنه لدى ممثليه على اداء ادوارهم بصدق وحرية كاملة، كأننا نرى مشاجرة حقيقية في الشارع. يغادر "كريولانس" المدينة ثم يتحالف مع الد أعداء روما، ويعود من جديد لاحتلالها. لكن مواطني روما يواصلون مقاومتهم له لتنتهي المقاومة بمقتله. يموت الملك "كريولانس" في المشهد الاخير ويقذف به الى الخارج كأي كلب هرم، وهكذا هي نهاية الديكتارتور الذي كان يمقت شعبه ويعاملهم كالكلاب، أو كأنه يقود قطيعا وليس شعبا.
زمن متحرك
بعد الاستراحة يتواصل العمل لتقديم الجزء الثاني "يوليوس قيصر" الذي لا يقل اثارة عن الجزء الاول. "يوليوس قيصر"يمتلك شعبية هائلة النفوذ السياسي المتنامي، تثير المخاوف لدى حلفائه السياسين الذين كانوا يشعرون بالقلق من أن يتمكن "يوليوس قيصر" بسهولة من تحويل نظام الحكم في المدينة إلى ديكتاتورية، صديقه الحميم "بروتس" يحرض الاخرين ضده فيتفقون على موت
تميز العرض بسرعة الايقاع ورشاقة الممثلين وخاصة الممثل الشاب (Hugo Koolschijn) في دور يوليوس قيصر. تخلص الممثلون من الصراخ الحاد والمفتعل كما يحدث في بعض العروض الهولندية. وتمكنوا من استغلال الخشبة وقاعة المسرح استغلالاً ذكياً لمثليين محترفين.
في الجزء الثالث والأخير ينسى أنطونيو (الممثل هانس كيستسنغ Hans Kesting) وهو بين ذراع ملكة مصر القديمة مصالح بلاده وطموحاته السياسية، لكن وفاة زوجته (الممثلة كريس نيتفيلت (Chris Nietvelt ) ترغمه على العودة إلى روما وإلى السياسية حيث يتزوج من أخت الرجل القوي "اكتافيو" لكي يعيد توثيق علاقته به، لم يمض الا القليل حيث بدأ "أنطونيو" يشعر بالشوق إلى عشيقته المصرية، يستغل "اوكتافيو" غياب "انطونيو" ليوسع نفوذه، وفي النهاية يتوجه بجيشه إلى مصر ليصفي حسابه مع غريمه "انطونيو". يصف الناقد يان كوت في كتابه "شكسبير معاصرنا ماساة أنطونيو وكليوباترا بهذه العبارات المؤثرة (... عاشقان مليكان، الأرض والسماء. الأرض العاجزة عن احتوائهما. والسماء التي يعجزان هما عن تغييرها. والعالم ملئ بالعداء. ولكي ينتصر الحب يجب أن تسقط الارض والسماء، ولكن الارض والسماء اقوى من انطونيو وكليوباترا، وعلى العاشقين أن يستسلما، أو ان يختارا الموت) "ترجمة جبرا إبراهيم جبرا".
الاخراج
يعتبر هذا العمل الفريد تجربة خاصة ومهمة تضاف الى تاريخ المخرج الهولندي ( ايفو فان هوفه) في محاولة مدهشة ومغامرة جريئة ومثيرة للاهتمام حيث كشف المخرج عن قدراته الابداعية وادواته الجديدة باستثمار القدرات التمثيلية لدى ممثليه في لعبة دائرية جميلة في سرد الاحداث ضمن ثلاثة خطوط تؤدي الى نتيجة واحدة.
ابتعد المخرج عن الواقعية التقليدية في سرد الحوار وظل محافظا على اسلوبه الجديد انطلاقا من التكنولوجيا - الميلتي ميديا- التي أصبحت اكثر دهشة وحيوية بسبب تأويلها للفعل والصورة ولم تكن بمعزل عن احداث المسرحية التي تركت اثارها على المتلقي وتحويل بعض الاحداث الى صورة حية تتحرك بعفوية في صياغة بصرية تعيد تشكيل النص الشكسبيري، ليس من أجل التزيين أو التعكز عليها بل من أجل توكيد افكاره التي تتناسب مع الهم السياسي ومآساته في هذه الاعمال. وهذا ليس جديداً على المخرج الهولندي الذي يعرف كيف يصطاد النصوص الكلاسيكية المثيرة ويقدمها بطريقة معاصرة. تحرر المخرج من سلطة النص وعمل على دمج وإعداد ثلاثة اعمال شكسبيرية ضخمة ومهمة واستثمار مساحة العرض والقاعة باجمعها، واستطاع أن يخلق مساحات كبيرة حرة يتحرك فيها الممثلون والجمهور في آن. عكست اللوحات الثلاثة المتتالية رؤية المخرج الخاصة في تعرية الأحداث السياسية. ربما أراد المخرج أن يعيد كشف وقائع التاريخ وأقنعة السادة والملوك. وفي هذا السياق يبدو اختيار شكسبير مناسباً جداً فأغلب أعماله تتضمن دائماً بعداً سياسياً لا يرتبط بعصر محدد، وكما يقول الفنان المسرحي العراقي "سامي عبد الحميد" في كتابه تجربتي في المسرح: ( إن التحدي الاساسي الذي يواجه المخرجين في جعل مسرحيات شكسبير مقبولة لدى المتفرجين هذه الايام ليس في جعل شكسبير مناسباً للعصر، أو في الكشف عن الجوانب السياسية في مسرحياته، إذ ان جميع تلك المسرحيات تقريبا تحتوي على مواقف حاضرة، لها صلة بزماننا).
وفق المخرج بشكل هائل بين الشكل والمضمون واغناء عين المتلقي بالمشاهد البصرية وكأن المشاهد داخل صالة سينما. عمل المخرج على تدمير معمارية البناء الاغريقي الكلاسيكي، وخلق تصميم تقني عال بموازاة تقنية ممثليه التي تضافرت جهودهم في هذا العمل الضخم العظيم.
لعبت الموسيقى الحية دورها بشكل ناجح وساعدت هي الاخرى على شد الجمهور ونجاح العمل من خلال اعتمادها على الايقاعات الحربية والآلات الموسيقية المختلفة. كما كان المخرج موفقاً في اختيار ازياء ممثليه التي هي عبارة عن بدلات عصرية سود انيقة تشبه بدلات رجال السياسية المبالغ في اناقتها.
اما مصمم الديكور فكان مبدعا هو الاخر حيث لم يكن منفذا لادوات المخرج بل مبدعا حقيقيا واضاف للعمل رؤية فنية اخرى ومتعة جمالية.
المخرج
تطغي السياسة ومفهومها المعاصر على رؤية المخرج "ايفو فان هوفه" في اغلب اعماله المسرحية. ويبلغ هذا الاهتمام ذروته في عمله الاخير "تراجيديات رومانية". ان المتتبع لاعمال المخرج (ايفو فان هوفه) المسرحية يتعرف على اسلوبه الذي يتميز باخراج مسرحي يلفت الانتباه. ويتميز عمل فان هوفه بشغفه بالشكل ولكن ليس على حساب المضمون، خاصة وأنه يتعامل غالباً مع نصوص كلاسيكية كبرى. ولا يغفل الجسد وقدرات الممثل دون أن يكون ذلك على حساب النص المسرحي. إنه من أكثر الفنانين الهولندين اهتماماً بالشكل والتقنية التكنولوجية التي تؤطر عمله المسرحي والبصريات التي تثري عين المشاهد. حاول المخرج في عمله هذا ان يحقق ما يصبو اليه باستخدام التكنلوجيا التي غزت العالم الاوربي والامريكي المسرحي مما جعله اسلوبا خاصا به، يطوره في كل عرض جديد، كما رأينا في عمله المسرحي الجديد. اجتهد المخرج في عمله هذا على تقديم الجديد والمثير كما عودنا في أعماله السابقة "الحداد يليق بالكترا" وغيرها من الاعمال المسرحية. ولكنه بعمله هذا اعادنا الى اجواء شكسبير والتركيز على العامل السياسي كمادة درامية عابرة لكل العصور.
ولد المخرج إيفو فان هوفه في بلجيكا عام 1958، بدأ مسيرته في الإخراج المسرحي عام 1981، وحقق نجاحاً واضحاً جعله من أبرز المخرجين المسرحيين في هولندا وبلجيكا. يشغل منذ عام 2001 موقع مدير "فرقة أمستردام المسرحية" التي تعتبر أكبر الفرق المسرحية الهولندية وأكثرها تميزاً.
salehhassanfaris.com