ثقافات

حياة شرارة بين الواقع و رواية «إذا الأيام أغسقت»

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

بلقيس شرارة من لندن: نشأت "حياة شرارة" في جو أدبي سياسي، و تشبعت في الأجواء الأدبية و السياسية منذ طفولتها، فغرست فيها اللقاءات الأدبية التي كانت تقام في دار والدنا، حَبها و تتبعها إلى الأدب و الشعر و القصة و الرواية و النقد. فأصبحت نهمة في القراءة و استيعاب ما كانت تقرأه. كما جعلتها اللقاءات السياسية، تدرك و تؤمن منذ نعومة أظفارها، أن هنالك ظلماً و جحافاً في المجتمع من خلال ما تعرض له والدنا، من اعتقال و سجن، انعكسا بدورهما على العائلة أيضاً. أدّت هذه الأحداث بها، إلى البحث عن أداة أو منظمة تجد فيها المنهاج المناسب الذي تتفاعل معه بإثارة شعورها بالإجحاف، و وجدت في الحزب الشيوعي تلك الأداة المناسبة التي كانت تنشدها. فانتمت إلى الحزب الشيوعي في السادسة عشرة من عمرها، و وجدت في الفكر الشيوعي الحلول التي كانت تتوق لها في تغيير مستقبل الشعب، وحل مشاكله، و الانتقال به إلى عالم آخر يسوده العدل و الإنصاف، و هو انتقال محّتم كما يعتقد الحزب الشيوعي. فهذا الانتشاء بالحياة الموعودة و الحلم بخلاص البشرية من البؤس و الإذلال هي النظرة الخلاصية التي لاذت بها المنظمات التقدمية، لأنها تعطي رؤية إلى المستقبل و خلاصها من الوضع الذي هي فيه. و لأنها منظمات واضحة في منهجها و هدفها، فهي مريحة من الناحية النفسية، و بها ضبط للذات و إعطاء هوية.
يظهر الالتزام في المجتمع بأشكال متعددة، و كثيراً ما يكون متضارباً ضمن المجتمع الواحد. لأن نفسية الإنسان مركبة، تجمع أحياناً تناقضاً بين الالتزام و التفرد وكرامة الذات. فهناك الالتزام الديني و الطائفي و القبلي و السياسي. أما الالتزام السياسي فهو على نوعين: 1 - الالتزام السياسي الصارم، الذي يتمثل بحزب البعث أو الحزب الشيوعي أو الأحزاب الأصولية الأخرى. فلا يمكن للفرد في هذا النوع من الالتزام السياسي أو الديني الصارم، أن يخرج عن قرارات الحزب، و يتفرد عن الآخرين، و إنما يجب أن يكون من ضمن المنظومة الحزبية و يتنازل بذلك عن إرادته و حريته. و تصبح الذات خاضعة لنظام الحزب و ذلك واضح في جميع المجتمعات الشمولية. 2 - أما الالتزام الآخر فهو الالتزام السياسي العقلاني، الذي يتمثل بالأحزاب الديمقراطية، كحزب الوطني الديمقراطي في العراق. و يتصف الالتزام السياسي العقلاني، في أنه يسمح للفرد بالتفرد ضمن التضامن الاجتماعي، و لذا فانه يعتمد حرية المساءلة و التسوية. فكل قضية معرضة إلى تسوية للتوصل إلى حلول لصالح الطرفين، و هو واضح في أحزاب الدول الغربية، كما نشاهد ذلك في حزب المحافظين أو حزب العمال في إنكلترا و أحزاب الدول الديمقراطية الأخرى في أوربا و أمريكا، لأنها مجتمعات مدنية تؤمن بالتعددية و تعتمد على تفرد الفرد و تضامنه في المجتمع.
و عندما زار راجيف غاندي، رئيس الوزراء الأسبق في الهند، الولايات المتحدة في منتصف الثمانينات، سؤل عن علاقته بالاتحاد السوفيتي، إذ كان الاتحاد السوفيتي يعتبر آنذاك رمزاً للشر في عهد الرئيس ريغن، عندما أطلق عليه اسم " دولة الشر "، أجاب راجيف غاندي: لا يوجد عندنا لونان فقط، الأبيض و الأحمر، و إنما عندنا لون ثالث، و هو اللون الوردي. و يعني بذلك الحل الوسط و التسويات السياسية. يفتقد الالتزام السياسي الصارم إلى الحل الوسط و لا يقبل التعددية، فحياة الفرد خاضعة للقرارات الحزبية، و لا يمكنه الحياد عنها، بل تبتلع أيدلوجية الحزب الفرد و يصبح آلة مسخرة بتطبيقه لتلك الأيدلوجية. و هذا ما تعرضتْ له"حياة" عندما كانت عضواً في الحزب الشيوعي، فكانت تُطبق كل ما يمليه عليها الحزب من أوامر. و لم تشعر في يوم من الأيام، بالتناقض بين إرادتها و إرادة الحزب إلا بعد مرور أكثر من عقد و نصف تقريباً، بعد أن نضجت فكرياً و اعتزلت العمل السياسي. أثر هذا النوع من الالتزام السياسي الصارم في موقفها نحو الحياة و المجتمع في سن مبكّرة، و فرضت على نفسها، مستوىً معيناً و مقياساً قاسياً في تعاملها مع الناس. و لم تستطع التخلص منه نهائياً، رغم أنها أدركت أن هنالك ظلالاً أخرى و ألوانا مختلفة في الحياة، و وجدت أن الحياة أعقد من أن تختزل بلونين. كما إنها لم تنتقد رفاقها بالنضال، بالرغم من اختلافها معهم، بعد أن تركت العمل السياسي، و ذلك للأخلاق الرفيعة التي تحلت بها، فالتزمت الصمت، و تجنبت الضغط الذي تعرضت له من قبل أعضاء الحزب في موسكو، بأسلوبها الهادئ، و ابتعدت عن إحداث المجابهة. و بذلك كانت نقيض بعض الكتاب الذين اختلفوا مع الحزب الشيوعي، فظهرت ردود فعل هؤلاء بصورة عنيفة، بعيدة عن الاتزان، تمثلت في المقالات التي كتبوها في الجرائد آنذاك، منددين برفاقهم الحزبيين، و أصدقائهم التقدميين. عندما عادت "حياة" من موسكو إلى بغداد، انخرطت في سلك التعليم الجامعي، و لكن لم تمر إلا بضعة أعوام حتى تم تسييس التعليم العالي، من قبل حزب البعث الذي سيطر على جميع مرافق الدولة، و نصّب نفسه الممثل الشرعي للسلطة، و تعرض أساتذة الجامعة و منهم "حياة" إلى ضغوط شديدة و تهديد لمستقبلهم، و وجدوا أنفسهم أمام خيارين لا غير، أما ترك الجامعة أو الانتماء إلى حزب البعث. و نتيجة لمثل هذا الضغط السياسي، انتقل بعض الرفاق من الالتزام الشيوعي إلى الالتزام الآخر، و ذلك عندما وجدوا أن التزامهم الأول يتعارض مع مصلحتهم. و تلونوا بكل الألوان الممكنة، و أصبحوا جزءا من القطيع الذي اخذ يصفق و يعزف لحن الحزب الواحد و الرؤية الشمولية، كالأستاذ "وجدي" في رواية " إذا الأيام أغسقت" حيث أصبح من مثقفي السلطة، و تنازل بذلك عن وظيفة المثقف المستقل و المقاوم لمجرى الأحداث التي تفرضها عليه السلطة في الكلية. لأن الأستاذ الذي صار عضواً في حزب البعث أصبح يتمتع براتب أعلى و امتيازات كبيرة، وألقي على عاتقه الدور الأمني و البوليسي الذي يؤديه العميد أو رئيس القسم في الكلية كما هو واضح في رواية " إذا الأيام أغسقت".
و لكن "حياة" لم تسمح لها كرامتها التي تمسكت بها كتمسك الشعرة بأهداب العين، بالانتقال من التزام إلى التزام آخر، لأن الالتزام عندها هو مقياس أخلاقي، و ظلت مستقلة في موقفها البعيد عن تأييد السلطة و عن المثقفين التابعين لها، مقاومة لضروب التسلط في جميع أشكاله، و لازمتها الكرامة كظلها، حتى في الظروف القاسية التي عانت منها. و معروف إن الفئة المثقفة هي الفئة الأولى التي تتعرض عادة للضغط السلطوي في المجتمع الشمولي. و ما يهم السلطة المستبدة هو إخضاع ضمائر تلك الفئة أو تهديدها بمعيشتها و شل تفكيرها. و لا تخاف السلطة المستبدة على شرعيتها أكثر من المثقف الحر المستقل التفكير الذي يكّون خطراً عليها، و التاريخ مملوء بالشواهد على ذلك.
لذا قاست "حياة" كثيراً في حياتها الجامعية، عندما رفضت الانتماء إلى حزب البعث، مؤكدة بحزم على موقفها المستقل و التفرد الذي لا يتحمله الفكر التوحيدي و الأنظمة الشمولية، مما أدى إلى تعرضها إلى صعوبات، و خلق مشاكل كثيرة لها، أثناء وجودها في الجامعة. و عندما تضاعف العنف و اضطهاد الناس الذين لا يخضعون إلى فلسفة حزب البعث في تلك الفترة، أتخذ قرار بالتخلص من جميع الأساتذة الذين لا ينتمون للحزب. كانت "حياة" على رأس القائمة، عندما نقلت إلى مشروع صناعي في مدينة الديوانية. و لكن أعيدت إلى الجامعة بعد فترة قصيرة، حيث لم يجدوا أستاذا يشغل منصبها، و لكنها تعرضت في الوقت نفسه إلى المراقبة الدائمة من قبل مكتب ضابط أمن الجامعة، و أصبحت من المشكوك في ولائهم، بما في ذلك فتح الرسائل التي كانت ُتبعث لها من قبل عائلتها. و كانت تُقرأ من قبل ضابط أمن الجامعة، قبل أن تقرأها "حياة"، بالرغم من أنها بدرجة أستاذ. إذ ليس هنالك قدسية و احترام أعز ما يخص الفرد، و هو قراءة مضمون الرسائل الخاصة به، و التدخل بخصوصيته، بهذا الشكل المفضوح و النابي. و لأن الفكر التوحيدي يفترض تنظيماً اجتماعياً موحّداً و فكراً موحّداً، لذا يطلب الالتزام الصارم، و العمل على خضوع الآخرين لأرادته. و يتم بذلك استغلال الفرد و سحق تفرده. فتفتيش رسائل الأساتذة هو جزء من الإجراءات لتوحيد الفكر، و يعُتبر خطراً أي سلوك خارج عن تفكير المنظومة الحزبية، بل يعتبر جسم غريب، يجب مراقبته و اقتلاعه و القضاء عليه. وبذلك تحولت المؤسسات العلمية إلى مراكز أمنية ضمن الجامعات و انتشر فيها المخبرون بحجة حماية الأمن الوطني من الأعداء الذين لا يؤمنون بفلسفة الحزب. نجد ذلك واضحاً في رواية " إذا الأيام أغسقت" في سلطة و سطوة العميد التعسفية، حيث تنتقل هذه النزعة التسلطية إلى رؤساء الأقسام، ثم الأساتذة و الطلاب، فهي سلطة تراتيبية هرمية، أو تدرج هرمي من الأوامر التي لا يجوز تخطيها، و الخروج عنها في الفكر الملتزم. و الهدف الرئيس في الفكر الموحّد و المجتمع الشمولي هو إسكات المثقف المستقل، و ذلك واضح في الإرهاب و الالتجاء إلى العنف الذي وصل إلى قمته في جامعة الموصل، حيث أُفرد سجن خاص في داخل حرم الجامعة، و غرف للتحقيق، لمعاقبة و سجن الطلبة و الأساتذة المشكوك في ولائهم. و تعطينا "حياة" صورة واضحة عن ذلك الجو، و الرقابة الذاتية الذي أصبح يحملها الفرد في ساحة العمل، و الجامعة، في رواية " إذا الأيام أغسقت": " نحن نقول الآن نعم عندما يرفض ذهننا فكرة أو عملاً مقترحاً علينا، و نبتسم عندما تتجهم نفوسنا و ترغب بالعبوس، و يلوح علينا الهدوء عندما يتملكنا الغضب" (ص 182). إنه وصف للهيمنة الفوقية و التسلط و الاستبداد و غياب العدالة، في كبت مشاعر و أفكار المثقف و خضوعه التام، و سحق للفكر، ليصبح آلة مسيرة، و ظل للسلطة.
عرضت "حياة" عدداً متنوعاً من الشخصيات و الأبطال في روايتها، يتراوح عددهم على ست و عشرين شخصية. و كل واحد هو نسيج من عدة شخصيات في المجتمع الجامعي و العراقي. و لذا تؤلف كل شخصية في الرواية، تركيباً و مزيجاً لهذه الشخصيات التي لا تمثل شخصية معينة بالذات، صوّرتها الكاتبة من خلال ملاحظتها الدقيقة، للواقع الذي عاشته، و أضافت إليه من تجربتها الشخصية و ملاحظتها للواقع. فالكاتب يبدأ بصياغة الكلمات و الجمل و يحبكها في نسيج متين. يكّون شخصياته و يشكّل أبطاله كعجينه، أثناء عملية الابتكار، يدخل في أعماق نفسيتها، فيعريها تارة، و يلبسها من خياله ألوانا، و ظلالاً مختلفة تارة أخرى، فتظهر لنا شخصيات حية نابضة بالحياة. لذا فان رواية " إذا الأيام أغسقت" رواية واقعية، أحداثها من صلب الحياة اليومية، و ليس هنالك تصعيد روائي لأثاره مشاعر القارئ، و إنما يعرف القارئ نهاية الرواية منذ الصفحات الأولى. و ليس هنالك مفاجآت مذهلة أو أحداث عنيفة متطرفة أو عقدة متأزمة، كما هي الحال في القصص البوليسية مثلاً، و لكن هنالك سرد للأحداث من خلال شخصيات الرواية التي يصل بعض أبطالها إلى لحظات التمزق و الانهيار، و ذلك عندما تتمزق المفاهيم و تضيع القيم بعنف غير معقول، من خلال حادثة أو عمل يكون السبب في تقويضها. استطاعت الكاتبة من خلال ملاحظتها الدقيقة، أن تصور الإذلال و الإهانات اليومية التي كان يتعرض لها أساتذة و موظفو الجامعة، بإصغائها و مشاركتها أحاديثهم، التي تدور عن كيفية الحصول على المواد الغذائية، و القلق الذي كان يساورهم عندما يعجزون عن سد رمق عائلاتهم، و اضطرارهم لبيع سياراتهم، أو العمل كسواق تكسي في ساعات فراغهم. و أضافت إليها من تجربتها عندما شعرت بحصار السلطة لها و أغلقت أبواب النشر أمامها. و هو أقسى أنواع الحصار على الكاتب و المؤلف. و لذا عندما سؤل الأستاذ "أكرم" أحد أبطال الرواية، إن كان يواصل الكتابة؟ "ستدهش إذا قلت لك إنها أصبحت تشبه مياه المستنقع الراكد! ماذا تعني الكتابة إذا أصبحت بلا غاية! أعني إذا لن تستطع أن تنشر ما تكتبه و توصله إلى الناس! ما قيمتها إذا ظلت محفوظة في أدراج مكتبك أو على الرف؟.. إن كل ما يمكن أن آملة هو أن تنشر نتاجي بعد موتي، إذا حالفها الحظ! " (ص 322). تسجل هذه الرواية الأجواء المعتمة، الخانقة، نفسياً و فكرياً و سياسياً و اقتصادياً، أجواء غير طبيعية مّر بها العراق، و لا زال يعاني منها في المرحلة الراهنة، خاصة الفئة المثقفة منها، من المبدعين و المفكرين، التي أول ما تطالها السلطة، أن يكون هدفها الرئيس هو إسكات المثقف في جميع المجالات، و يشمل البلدان التي تحت أحكام دكتاتورية. لقد جسدت "حياة" براويتها حقيقة الأستاذ الذي كان رمزاً إلى المعرفة و العلم، و أصبح ألعوبة بيد النظام. فصورت الصراع النفسي الذي يعاني منه، عندما يشعر أن لا كيان له، من خلال أحداث الرواية التي يتعرض لها الأساتذة من الإهانة و الإذلال، في انتظار فتح باب الكلية لهم، و إجبارهم على الاشتراك بالمسيرات، و التصفيق عند ذكر أسم رئيس الجمهورية في اجتماع العميد، و سوق الأساتذة و الطلبة في الاشتراك في الحرب العراقية الإيرانية، و التدخل في رفع درجات طلاب القبول الخاص. فيشعر الأستاذ بصغر شأنه، أمام السلطة و ضعفه و عدم قدرته على أن يقف أمام هذا التيار من الإرهاب. كما تطرقت الكاتبة في روايتها، إلى أحداث ربما يتصورها القارئ البعيد عن أحداث العراق، من صنع الخيال لا صلة لها بالواقع، و كأنها تتحدث عن عالم غريب، لا يمت إلى المجتمعات المدنية بصلة، بل عالم قائم بحد ذاته، له قوانينه و تعاليمه الخاصة به. إذ أصدرت السلطة، مرسوماً شملت المسئولين، من الوزراء و رؤساء الدوائر الحكومية و أساتذة الجامعة، في تحديد وزنهم، حسب مقاس أصدرته السلطة، بالنسبة لطول و وزن الفرد، و عليهم ألا يتخطوا ذلك المقاس عندما يحين موعد الوزن السنوي. و عندئذ يقادون كما تقاد الخراف إلى المسلخ. صوّرت "حياة" القلق الذي ينتاب الأساتذة قبل الوزن، و إحساسهم بالذل فوق الميزان، و المعاناة النفسية التي تهيمن عليهم، عندما يكتشفون أنهم تخطوا الوزن المطلوب، فيشعرون أن سيفاً مسلطاً على رقابهم، سيف الإهانة و الإذلال، بتخفيض رواتبهم الشهرية، و درجتهم الإدارية و العلمية. و وصفت سيكولوجية ذلك الفرد الذي اسُتلب حقه حتى في التصرف في بدنه، عليه أن ينضوي تحت التعليمات، التي لا تكتفي بقولبة فكره، و إنما قولبة حجم بدنه. و شعر بطل الرواية "نعمان" عندما وجد أن وزنه أقل بنصف كيلو غرام : و كأن حملاً ثقيلاً حمله مدة طويلة قد ألقي عن كاهله. و لكنه شعر أيضاً بالاختناق و التصدع النفسي بعد الانتهاء من الوزن، فأضطر إلى القفز من نافذة الغرفة عندما سمحت له الفرصة، و عّبر عن شعوره في الفقرة التالية: "شعرتُ أنني قفزت من فوق جدران سجن إلى الفضاء الواسع و استعدت حريتي المفقودة، و لم تعد لي علاقة بتلك البناية التي بدت لي مختلفة، عما يجاورها من عمارات. توارى كل القلق و الترقب في داخلي، و لكنني لم أعد أنا نفسي، فقد تصدع شيء في أعماقي و انهار، و جثمت أنقاضه على مشاعري و بهتت هويتي الشخصية و اتخذت سمات دخيلة عليها، لا تنسجم مع صفاتها المألوفة. ألقيت نظرة على المبنى قبل مغادرته، كان عدد الأساتذة قد أزداد فيه و كانوا يقفون كالأسرى الذين لا يعرفون متى ستنقضي محنتهم و يقرر مصيرهم"(ص 162).
يعّرف علماء السيكولوجي، أن الخوف غريزة تساعدنا على البقاء، و نوع من الحذر عند الإنسان حينما يكون مصدر الخوف معروفاً. فجميعنا نخاف لدغة الأفعى، نحاول أن نتجنبها لأننا نعلم مصدر الخوف. أما عندما تنتشر "رائحة الخوف" بعموميتها كما وصفتها "حياة"، لا يستطع الفرد عندئذ، في الاستمرار في حياته اليومية بصورة طبيعية، لأنه يجهل مصدر الخوف، فهو منتشر في الهواء الذي يستنشقه يومياً، عندئذ يصبح رعباً. و الرعب يسيطر عادة تدريجياً على الفرد، و تصبح الرقابة الذاتية جزءاً من كيان الفرد في ساحة العمل و الجامعة و يرافقه في مختلف مجالات الوجود و يسيطر على نفسيته حتى في خلوة داره. هذا ما عبّرت عنه "حياة" في تصويرها للخوف عندما ينقلب إلى رعب: " أطل الخوف أمام ناظري في البداية كبرق خاطف يسبي الأبصار ثم توارى. غير أنه لم يَغِب نهائياً، بل ظل يظهر بين آونة و أخرى بدرجات تختلف في قوتها و ارتفاعها و عمقها. كان يتخذ شكل دخان رمادي كثيف يلتف و يتصاعد في دوائر مرئية ثم ينتشر عرضاً و طولاً، و يتسلل إلى النفوس و ينبت في حناياها و يرقد فيها و يترك على نحو مزمن أثاره الرمادية الكابية" (ص 68). كما وصفت في فقرة أخرى الاختلاف بين الخوف الغريزي و الرعب: " تعاظم الخوف في داخلهم، و ازداد معه استسلامهم للضغط الذي يتعرضون له. لم يكن خوفهم ذلك الخوف الغريزي الذي يشعر به الحيوان في الغابة، عندما يسمع خطى متلصصة تقترب منه، أو رائحة عدو تتسلل في الهواء فيلوذ بالفرار للحفاظ على حياته، و إنما خوف يجّمد الروح و يشل الأوصال و يميت الكلمات على الشفاه و يبعث الفزع في العيون و يظل المرء مسّمراً في مكانه في تلك الزاوية التي حُصر فيها و لا يتحرك منها إلا بإرادة غيره" (ص 81). إن الذل هو الخوف من المجهول، عندما لا يوجد من هو معصوم و بعيد عن الإهانة، التي تعرض لها أمثال الأستاذين "عبود و أكرم" في الرواية، و ذلك عندما تجرآ على الوقوف أمام الوضع المنحرف في الكلية، الذي أصبح هو القاعدة، إنها صورة الرعب المتجلية بأقوى معانيها، و تصوير لعجز الإنسان المسلوب الإرادة و الحقوق. إذ أصبحت ثقافة الخوف متأصلة في سيكولوجية الفرد العراقي، و شملت حتى رجال السلطة و القادة أنفسهم، فالكل يخاف من الكل.
لقد عبر كتاب غربيون عن هذا الرعب الذي مارسته بعض السلطات في أوربا الغربية في عقد الثلاثينات، كالكاتب ألشيكي"كافكا"، كما عبر عنه كتّاب في الاتحاد السوفيتي كالكاتب الروسي"صولجينتسن" في عدد من رواياته. و عندما سئل الموسيقار الروسي "جستاكوفيج" في إحدى زياراته إلى الولايات المتحدة: بأي درجة تضع نفسك بالنسبة لستالين ؟ أجاب: أنا بمنزلة الدودة. بينما أخذ التاريخ ينسينا دور ستالين كمنظّر سياسي، و لكن بمرور الزمن أصبح الموسيقار "جستاكوفيج" من أعظم ما أنتجته عبقرية القرن العشرين في الموسيقى.
لم تستطع أن تستمر "حياة" في التدريس في الجامعة بعد رفضها بإصرار دائم الانتماء إلى حزب البعث، و خسرت بذلك عملها في الجامعة و أغلقت أبواب النشر أمامها و وجدت جميع أبواب العيش موصدة أمامها. أحست بأنها محاصرة من جميع الجهات و أنها تعيش في سجن، و لم تبق لها حتى كوة مضيئة تساعدها على الاستمرار في الحياة. و لكنها أنهت كتابة رواية "إذا الأيام أغسقت" قبل رحيلها عن هذا العالم بأربعة أشهر، لتترك لنا وثيقة أدبية صريحة عن تفرد الفرد و بيان مشاعره، و مجابهة حقيقية لسطوة السلطة على الفرد و سحقه، و هي صراحة لم تزل نادرة في الأدب العراقي.

ملاحظة: "طلبة القبول الخاص": هم الطلبة الغائبون عن حضور المحاضرات أثناء العام الدراسي، و تنحصر مهمتهم بمراقبة و كتابة التقارير عن رفاقهم الطلبة، و على أساتذة الجامعة إعطاؤهم درجات تخولهم النجاح في نهاية العام.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف