ثقافات

النافذة القريبة من الموت

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حين توفيت خالتي دفنوها في ارض كان قد اشتراها خالي ليكون فيها مثواه الأخير, في مقبرة أسموها الجديدة..
أو أي اسم آخر لم يكن مهما أن اعرف أو أن أتصور شكل قبرها الوحيد في تلك الأرض المقفرة البعيدة وحتى حين جلست أمي قرب النافذة لآخر مرة قبل أن نكتشف أنها تسير في طريقها نحو الأرض الجديدة , تحدثني عن رحلتها قبل الأخيرة لم تشغلني التفاصيل بقدر ملامح وجهها التي كانت ترسم تعبيرا جديدا لم المحه من قبل.. ما الذي يسحقها بهذا الشكل المؤلم لتتكلم عن الموت وكأنها تراه, لكن الكلمات تختنق في صدرها حين تنظر إلى وجهي فتطير نظراتها نحو النافذة لتكمل بينما أتوه في حيرة من يحاول أن يفهم دون جدوى..
ثلاثة أشهر مثل الجبال مرت فوق صدري ازدحمت كل لحظة فيها بالقلق والخوف والألم وأبشع المفاجئات حتى لم يعد فيها ركن لدمعة قد تسقط في قدح الماء أو على شراشف سريرها المزدحم بأناس يثرثرون كثيرا ويتمنون ويقلقون ويغادرون بعدها دون أن يتمكنوا من دفع القدر الرابض خلف النافذة يوما أو حتى سنتيمترا واحد.
قبران متلاصقان وسط ارض شاسعة تنتشر فوقها قبور متفرقة ولاشيء بعدها غير تراب الأرض الصحراوية الممتد حتى الأفق وسكون الموت.. أناس هنا وهناك يبحثون عن قبور أحبتهم يتحركون وكأن عدوى الموت امتدت إليهم, لاشيء يعلو وجوههم غير تجهم واسى يجعلني اشعر إن لا حياة بقيت خلف هذه البقعة من الأرض
أدور ببصري على حدود الأرض الصغيرة المحددة بجدار منخفض لا يرتفع أكثر من ربع متر فوق الأرض أو أغوص في لون تراب الأرض وكأني أحاول إن افهم أو استكشف تفاصيل بيتها الجديد.. أصل ببصري إلى قبرها فيفقد كل شيء معناه ويبدو راسي خاليا من الأفكار تماما.. لماذا لا استطيع أن افعل مثلما يفعلون؟ لماذا لا القي برأسي فوق أحجار القبر وأجهش ببكاء مر..
أحاول تذكر وجهها تعلوه ابتسامتها لكن صورة وجهها الشاحب ونظرات عينيها المملوءتان بالقلق والترقب تغطي كل شيء وتمسح من ذاكرتي كل السنوات الماضية.. ربما كنت ابكي دون إن اشعر لأني لا استطيع إن أنسى صورتها أيام مرضها.. أحاول بشدة أن انتزع تلك الصورة القاتمة دون جدوى
في ليالي الشتاء الباردة وحين كان النوم يرفض إن يزور أجفاني وكما في كل ليلة كنت انظر إلى حافة الدرج الغير بعيد عن سريري وتحت المصباح الأخير الذي بقي مضاء أظل انتظر إن المح خيالها يمر إمام غرفتنا أو اسمع وقع خطواتها على الدرج لأتظاهر بالنوم علها تزور فراشي فاشعر بلمسة يدها وهي تمررها فوق الدثار.. لكنها ومثل كل الليالي التي مضت, يظل النعاس يراهن أنها لن تأتي قبله أبدا وربما حتى بعده..
تناديني لكني لا استطيع سماع صوتها فكل شيء حولي يصدر ضوضاء تتضافر لخنق صوتها الذي أنهكه المرض لكني أتمكن من سماعها أخيرا.. أسرع نحوها تنظر اليّ بعيون يملأها عتب واسى وشيء من اعتذار.. ملابسها وفراشها ملوثة بقيء يغطي كل الصور الباسمة والضاحكة المرسومة في ذاكرتي.. أنظف كل شيء لكني أبالغ في تنظيف صورتها القديمة لدرجة إني محوت كل ملامحها..
يدها ترتجف بسبب الضعف والمرض وعروقها أصبحت نافرة أكثر.. تستسلم ليدي بينما الم خصلات شعرها المتناثرة ..
وكأن ليالي الشتاء ترفض أن تفارقني رغم قصرها هنا.. كنت أمشط شعرها واضع كل دبابيس الشعر التي املكها في رأسها دون إن تعترض اصنع من خصلات شعرها القصير جدائل صغيرة أعاني كثيرا كي أبقيها ثابتة , لم أكن افهم لماذا لا تجدل شعرها بينما تصر إن تجدل لي شعري كل صباح قبل إن اذهب إلى المدرسة.... تنزع كل الدبابيس لتترك شعرها ينساب حول وجهها من جديد بينما تعلن لي إن وقت النوم قد حان, أحاول إقناعها إني صففت لها شعرها بشكل مختلف تماما تبتسم وتعدني أنها ستصففه غدا على طريقتي, وفي الغد لا تفعل...
تتساءل عن الوقت وهل حل المساء بينما تنظر إلى النافذة المفتوحة إمامها.. اعرف أنها لا تشعر بالنعاس فقد استيقظت منذ قليل.. انظر نحو النافذة لاتاكد إن الضوء الداخل منها مازال قويا.. تستمر في حديثها الهادئ بينما أراقب نظراتها التي أصبحت بلا شك بعيدة , هل استطيع إن أتذكر كلامها بينما أفكاري تغرق في أعماق الألم ولا أمل.. لاشيء حتى البكاء يستطيع إن يدرك ظل المرض الذي يسخر حتى من ذاكرتي التي صار يمحوها بعبثية.. أحاول إن لا افهم مرة أخرى لكني افشل إن اقنع نفسي إن المرض لم يسلبها بصرها..
مرت خمسة أشهر على موتها.. هل انتقلت المقبرة إلى مكان أخر أم إن الموت الذي يأكل في أجساد أبناء هذه الأرض بنهم كان يضحك من ذاكرتنا التي تحتفظ بصورة عن قبرها النائي بين قبور قليلة متفرقة.
افشل حتى في القدرة على السير بين القبور المحتشدة بشدة بينما يبقى قبرها ضائعا لزمن أطول.. انظر مرة أخرى لحدود الأرض المسيّجة بجدار واطئ لكنها بدت هذه المرة اصغر بكثير.. الهواء البارد الذي يضرب راسي بشده يحدث في إذني طنين يجعلني لا اسمع..أو هكذا كنت أتمنى حتى أنصت لصوت الموت الذي يحيطنا من كل جانب أو عله يرد على سؤال يتردد في نفسي إمام مشهد الموت الرهيب.. هل بقي على أرضنا إحياء؟!
هدوء وظلام يلف المكان ولاشيء يبدو من النافذة التي لم يعد الضوء يمر من خلالها لان المساء حل منذ زمن طويل.. لاشي يحول دون دخول الهواء المشحون بالأتربة والغبار فالزجاج تهشم من شدة العصف.. على الأرض الممتدة خارج النافذة كانت أشلاء الأجساد تتناثر قبل ساعات قليلة.. يبدو أن الأرض غيرت مكانها من جديد تحمل معها سكون الموت وصوت الريح النائحة.. وحدها السماء بقيت بعيدة عن هذه الأرض التي يدهمها الموت المختبئ تحت دوي الصوت الهائل وملايين الشظايا ليزيد احتشاد القبور أمام قبرها الضائع..
مرت سنوات منذ أن ضاع وجهها الضاحك في دهاليز المرض اللعين.. لن احتاج للابتعاد كثيرا حتى أصل للنافذة التي كانت تجلس قربها قبل أسبوع واحد من موتها تحدثني بهدوء عن كل سنوات التعب التي ضاعت هباء وعن أبناء أختها الجاحدين الذين أحبتهم أكثر مما أحبتنا!.. لم يروا ما فعل المرض اللعين بوجهها النظر الهادئ
لكن هل مازالوا يتذكرون ابتسامتها الجميلة؟!.. لم اعد ابحث في ذاكرتي عن تلك الصورة البعيدة بينما ارض الموتى تزحف كل يوم باتجاهنا ففي تلك الليلة حين كان سكون الموت يغطي الأرض خارج النافذة حيث لم يجف بعد دم الرؤوس والأيدي والأكباد الممزقة , كان سياج الأرض الواطئ يلوح غير بعيد رغم الظلام الحالك..

كاتبة من العراق

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف