الإله يقدّم استقالته في اجتماع القمة لنوال السعداوي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
اختراق التابو حتى النهاية
أمنية النجار من القاهرة: صدرت أخيراً الطبعة الثانية لآخر مسرحيات الكاتبة نوال السعداوي "الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة" عن دار نشر "مكتبة مدبولي". المسرحية هي السابعة في سلسلة أعمال السعداوي المسرحية، بعد "إيزيس"، "الأطفال يغنّون للحب"، "الحاكم بأمر الله"، "الإنسان"، "الزرقاء" و"الصورة الممزقة". جميع هذه المسرحيات أعادت مكتبة مدبولي نشرها كنوع من الحرص على جعل أعمالها الكاملة التي كتبتها على مدى أكثر من خمسين عاما في متناول القارىء العربي، وهي أعمال تراوح بين الروايات والقصص القصيرة والمذكرات والسيرة الذاتية والرحلات والدراسات والمسرحيات.
لا شك في أن حياة السعداوي شهدت الكثير من المواقف الثورية، مما جعلها مدرجة على قائمة المطلوب إهدار دمهم لدى الجماعات الإسلامية من ناحية وعلى قائمة المعارضين
لا تزال السعداوي تعيش تحت وطأة هذا التهديد، إذ نلحظه من الصفحة الاولى لمسرحيتها الجديدة حيث نقرأ بوضوح عبارة تؤكد أن "الآراء الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر المؤلفة وليست بالضرورة تعبر عن رأي الناشر". وتتبع هذه العبارة صفحة تحوي كلمة للناشر يقول فيها "إن أي مفكر او مثقف او قارئ عادي قد يوافق السعداوي في آرائها، وقد يختلف معها إلى أبعد الحدود، ولكن من الصعب تجاهلها وإهمال تجربتها، فهي بحق مقاتلة". بعد هذه العبارة التبريرية التي تبرئ ساحة الناشر، تبدأ قصة المسرحية التي تستهلها الكاتبة بذكر القصة الحقيقية التي دعتها الى الكتابة وبدأت ليلة التاسع من حزيران 1992 في القاهرة عندما أيقظتها دقات عنيفة على باب بيتها في وقت ما بعد منتصف الليل اعتقدتها على الفور دقات لزوار الفجر الذين لا تزال تتذكر كيف اقتحموا شقتها واصطحبوها إلى السجن في السادس من أيلول 1981. تأتي المفارقة هذه المرة في أن قوات الشرطة جاءت لتبلغها أن الحكومة أصدرت أمرا بحمايتها بعدما أدرج اسمها على "قائمة الموتى" وبعدما تم اغتيال أحد الكتّاب. كانت تلك الليلة بداية لشعور الكاتبة الدائم بعدم الأمان، إلى أن زارتها فتاة أميركية من المعجبات بها واقترحت عليها أن تسافر وتقوم بتدريس أعمالها في احدى الجامعات الأميركية.
أثناء عملها كأستاذة زائرة بجامعة ديوك، استعادت الكاتبة قصة روايتها "سقوط الإمام" وهي القصة التي ظلت تؤرقها لسنوات وكتبتها بداية على شكل مسرحية حرصت فيها على أن تتناول أفكارها حول شخصية "الإمام" والذي يبدو كأنه هو المسيّر لمجريات الأمور والمتحكم الاوحد فيها ويظهر لها أحيانا "على شكل رئيس الدولة السادات وفي أحيان أخرى يرتدي ثياب الرب الأعلى ويجلس على عرش السماء. لم تكن القوانين تسمح بتجسيد شخصية الرب الأعلى فوق خشبة المسرح. الأنبياء أيضا شخصيات مقدسة لا تظهر صورهم ولا يمكن تجسيدهم في أعمال مسرحية. شخصية رئيس الدولة تدخل أيضا ضمن الشخصيات المقدسة. المسرحية التي لم يقدَّر لها أن ترى النور انتهى بها الأمر في صفيحة كاز تلتهمها النيران، فالكاتبة تدرك تماما أن شخصية الله لا تمس. ومن وحيها كتبت رواية "سقوط الإمام" التي كانت السبب في إدراج اسمها على "قائمة الموتى"، على الرغم من أنها لم تشبع رغبة الكاتبة في تجسيد الله على خشبة المسرح، وكذلك تجسيد شخصيات الأنبياء. حتى الآن تم تجسيد شخصية ابليس فقط، على الرغم من اقتناع الكاتبة بأنه يمثل قوة الفكر والاختيار وله جوانب إيجابية عديدة. ظلت قضية تجسيد الله كشخصية مسرحية تؤرق الكاتبة وتقول: "أربعون عاما مرت من عمرها وهي تكتب، ولا تستطيع أبدا أن تقترب من هذه الشخصية، مع أنها الشخصية الرئيسية في جميع الحوادث، هي الأصل والسبب الاول. هي مصدر الاوامر. هي التي تحكم وتوقع العقاب او الثواب. هي كل شيء وهي في كل مكان، ومع ذلك لا بد أن تكون مختفية وغير مرئية وغير موجودة أمام الناس".
لم تتحقق هذه الرغبة سوى في ليلة الرابع من تشرين الأول 1996 عندما كتبت مسرحية "الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة" في بيتها بولاية نورث كارولاينا بعد مشاهدة مسرحية مستوحاة من روايتها "سقوط الإمام"، تمثيل الطلبة في جامعة ديوك. "الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة"، مسرحية من فصل واحد وأربعة مشاهد، حوادثها عبارة عن حوار بين عشر شخصيات: سيدنا موسى، سيدنا عيسى، سيدنا إبرهيم، سيدنا رضوان، سيدنا محمد، ستنا حواء، السيدة مريم، بنت الله، إبليس، والرب الأعلى.
تصف الكاتبة شخصية الرب الأعلى كشيخ وقور في الستين من عمره "شعره أبيض لحيته طويلة بيضاء" ويظهر من خلف ستارة شفافة كالدخان، "بحيث لا نراه جيدا وصوته منخفض شديد الوقار والبطء، لا يحرك رأسه إلا نادرا بإيماءة خفيفة او يده يرفعها بكبرياء عظيم وقد يغضب بشدة". لن تظهر هذه الشخصية سوى في المشهد الثاني عندما يلقى أفراد الموكب القادمين للقائه ويبدأ في الاستماع إلى تظلماتهم المختلفة. أفراد الموكب نراهم وكلٌّ يتحدث في المشهد الاول الذي يبدأ بمونولوغ تتساءل فيه شخصية سيدنا موسى عن سبب عدم وفاء الرب الأعلى بوعده لشعبه المختار بني إسرائيل بتمكينهم من أرضهم من النيل إلى الفرات حتى تظهر شخصية سيدنا عيسى الذي يناجي أباه في السماء ويتساءل لماذا يبخل عليه بلقائه ويتحسر على الحال التي آل إليها الكتاب المقدس بعدما صار الناس يتركونه ويقرأون كتبا يكتبها رجال ونساء ولا سيما النساء "الفيمينست" المنتميات إلى حركات التحرير النسوية. مونولوغ سيدنا عيسى يكشف تظلمه ضد الإله الأب الذي يقابل لهفة الابن بالصمت ووجود الأم بالتجاهل: "آه يا أماه اغفري ذنوب ابنك، لكنني يا أمي لم أكن أدرك وجودك، لم أكن أسمع صوتك، كان أبي يأمرك بالصمت، ويتكلم هو بدلا منك".
يلتقي سيدنا عيسى بسيدنا موسى ليبدأ حوار يفجر المآخذ التي يأخذها اليهود على المسيحيين، وبالعكس، بما يفضح شبه صراع أساسي بين الأديان السموية على أساس اعتقاد اليهود أنهم شعب الله المختار واعتقاد المسيحيين أن المسيح ابن الله. ثم تنضم شخصية سيدنا محمد إلى الحوار ليؤكد مفهوم أن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس في الوقت الذي يبكي فيه الحال التي وصل إليها المسلمون: "أحوال المسلمين ساءت وحكوماتهم فسدت وتقلصت دولة الإسلام ولا تزال تتقلص وأخشى أن تنتهي تماما من فوق الأرض... المشكلة في بلادنا يا رب هم الملوك، إن الملوك إذا حكموا قرية أفسدوها، وقد زرت ملك السعودية في نومه وقلت له: إسمع يا فهد إن الله ينهاك عن الفساد، أنت تكتنز الذهب والفضة والمسلمين. لكنه في الصباح غيّر الحلم، وقال انني زرته في المنام لأبلغه أنا راضون عنه وعن أعماله، وأنني قلت له الصلح خير مع بني إسرائيل".
حوار التظلمات في المشهد الاول يشهد اعتراض ستنا حواء على الدور المتقلص لها تاريخيا بينما يشكو إبليس تعبه من الوسوسة في آذان الناس ورغبته في تقديم استقالته، وتبرز فيه أيضا شخصية "بنت الله" التي تعرف نفسها إلى إبليس على أنها إنتاج خيال المؤلفة وتطالب بحقها في نسبها إلى الرب الأعلى.
يشهد المشهد الثاني جلسات استماع الرب الأعلى إلى تظلم كل من الشخصيات وإلى جدلها ويزداد استياؤه وغضبه تدريجيا عندما تأخذ عليه الشخصيات مآخذ كثيرة من القسوة والظلم والتعنت أمام أحكامه الثابتة الخالدة وتمييز الذكور، إلى أن تنتهي الجلسة بتقديم إبليس استقالته وقرار الرب الأعلى بعقد اجتماع قمة مغلق.
يبدأ المشهد الثالث بعقد اجتماع القمة المغلق الذي تطلب فيه شخصية سيدنا رضوان من الحضور اختيار بديل ليقوم بدور إبليس. يستمر الحوار والجدال وسط رفض الحضور جميعا القيام بهذا الدور، ثم يطلب انتخاب نبي جديد يرسله الرب الأعلى لإصلاح العالم. هنا يبدأ الحضور في الصراع للحصول على هذا الشرف وإبداء التبريرات الكافية للأسباب التي يعتقد كل طرف أنها تجعله الاولى بهذا المنصب. يفجر هذا الصراع الكثير من الأفكار حول العدالة والمنطق ومساواة المرأة والرجل والإيمان والكفر والحب والعذرية والنقد التاريخي والجسد والروح. تنتهي الجلسة إلى إقرار الرب الأعلى بعدم رغبته في البقاء إلى أبد الآبدين او في الخلود واعترافه بقسوته واعلانه استقالته متسائلا: "إذا خلت السماء من الحب والحرية خلت الأرض أيضا من الحب والحرية، وإذا كان إله السماء ديكتاتوريا فهل يعرف الحكام فوق الأرض شيئا آخر غير الديكتاتورية؟"، ثم يخلو المسرح تدريجيا بحيث لا تبقى سوى بنت الله التي تهجم عليها قوات البوليس وتلقي القبض عليها بتهمة تأليف المسرحية لينتهي المشهد الثالث.
هكذا تحقق نوال السعداوي حلمها بتجسيد الله كشخصية مسرحية وينتهي الحلم الذي أرّقها لسنوات ليبدأ الكابوس الذي تصوره في نهاية المسرحية بمحاسبتها على عملها الأدبي لمسّه بالمقدسات. على الرغم من هذا الكابوس، تستمر نوال السعداوي في المشهد الأخير في تحدي خوفها بتأكيد مطالب بنت الله التي تتحدى إرادة الرب الأعلى وتطالب بإرثها الذي فقدته عندما فقدت سلطة الأم تاريخيا بعد سيادة النظام الأبوي الذي أراد أن يمحو ذاكرتها.
"الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة" لا تعتمد على بناء درامي أكثر من اعتمادها على حبكة فلسفية تطرح من خلالها المؤلفة جدالاً لا ينتهي حول الدين والسياسة والأخلاق وحقوق المرأة. الجدال يأتي معظم الوقت في صورة تخبط بين أفكار متقابلة ليعبّر عن واقع تدعو الكاتبة إلى إصلاحه حتى وإن كان الثمن اختراق المقدسات وهزّ ثباتها.