ثقافات

عندما تستعيد الأنوثة إشراقتها

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

"الزَّهْرَوَرْدِيَّة" لإبراهيم المصري
عندما تستعيد الأنوثة إشراقتها وطيوبها

1ـ تقديم:
عزت عمر: "الزَّهْرَوَرْدِيَّة" قصيدة واحدة نُشرت في كتاب، وهي آخر ما أنتجه الشاعر إبراهيم المصري ضمن قائمة طويلة من الكتب والمجموعات الشعرية التي نشر بعضها إليكترونياً على الإنترنت، إلاّ أنها الأولى من حيث النشر الورقي، ولكنها إلى ذلك لا تعكس تجربته التي نعرفها جيداً منذ بداية التسعينيات، بمقدار ما تعكس مرحلة نضجه الفكري، واستقرار تجربته الإبداعية اعتماده لغة تمتاز بالشفافية والصدق، مفعمة بالبساطة والعمق الفكري في آن.
"الزَّهْرَوَرْدِيَّة" إذاً قصيدة، أو إنها، في الحقيقة، طاقة من الزهر انتقاها الشاعر من حدائقه الفردوسية، لتنشر طيوبها حيثما حلَّت، مراهناً على مقدرتها في إدهاش قارئها سواء من حيث موضوعها، أو من حيث اسمها المركّب من الزهر والورد، مضافاً إليه (ياء) النسبة و (تاء) التأنيث، لتشكّل عتبة أولى، أو مفتاحاً أوّلياً للدخول في عالم القصيدة وطبقاتها التي بناها الشاعر لبنة لبنة، وبمستويات مختلفة ترتبط جميعاً بالمرأة والأنوثة كرمز مركزي للحياة، وكرمز إنساني للعطاء المحض.
ويأتي الإهداء "إليكِ حيث اليقين" كمعزز إضافيٍّ للعنوان، ليمارس دوره في شحن القارئ بشيء من الغموض المستحبّ، لمعرفة ما سيقوله الشاعر حول هذه "الزَّهْرَوَرْدِيَّة" التي ما انفكّت ترقبه من بعيد بعين أخذت حيّزاً كبيراً من صفحتيّ الغلاف والعنوان الداخلي، وقد تساءلت شخصياً بعدما قرأت اسمها إنْ كانت ترتبط على نحو ما بـ.. "السهروردي" شاعر الإشراق المعروف، ولم يخب ظنّي، إذ سرعان ما تأكّدت من ذلك بقوله:
هل الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ حفيدةُ السهْرَوَردي؟
نعم هي حفيدته...
لكن ألا تشاهدونه مُمْسِكاً بعباءَتِها في ذهابهما معاً إلى تطعيمه ضد شلل الأطفال والبارانويا التي تصيبُ زاهدينَ في العشق، يُفرقونَ بين الزَّهْرَوَرْدِيَّةِ وبين رغيفِ خبزٍ، ويظنون أنَّ الزَّهْرَوَرْدِيَّةَ نوعٌ من حلوى ألفِ ليلةٍ وليلة.
الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ ليستْ نوعاً.. إنَّها الحلوى. (ص 23)

ولكنها إلى ذلك علاقة روحية وجمالية تنتسبان إلى بعضهما من خلالها، فمن هي إذن، وهل تتضمن القصيدة إجابة شافية لهذا اللغز الجميل الذي صمّمه إبراهيم المصري ببراعة؟
"ما أعرفهُ عن الليل
أنَّه طائرٌ أعمى
وعن البنفسج
أنَّه شهوةٌ كريمة...
ثم تأتي الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ لتتعانقَ بهما...
ليسَ مع أحدٍ وإنَّما مع وجهِها.

الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ ورغمَ أنها امرأة...
لكنها لا تطحن القمح
عملُها هو الموسيقى مرفقةً بغيومٍ تصفُّها الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ غيمةً فوق غيمة.. ويمكنها ببساطة سحبُ غيمةٍ من الماضي أو الحاضر أو المستقبل.
الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ.. وريثةُ الأبد. (ص 9)

2ـ في دلالات النصّ: التجلّيات الأنثوية
يعود بنا إبراهيم المصري في هذه القصيدة الطويلة إلى حكاية المرأة الغابرة/الحاضرة في الكينونة الإنسانية، كي يستعيد أمجاد النصوص الابتهالية الأولى لسيّدة القمح التي تتمركز فيها المتناقضات جميعاً: الأنوثة والذكورة، الحنان والقسوة، النور والظلمة، الإيقاع الكوني الذي ينطلق منها. إنها: حواء الأم الكلّية، أو عشتار و إيزيس اللتين تماهتا بها، ولكن الزَّهْرَوَرْدِيَّةَ في الوقت نفسه امرأة عصرية، تقاسمنا هذه الحياة حاملة ذات المورّثات الفيّاضة بالقيم والصفات والأسرار التي سبق وذكرناها، وهي كذلك بمثابة وعيّ ممتدّ يربط ما بين المرأة والطبيعة من حيث الخصوبة والعطاء والفرح والجمال والرقة والحرية والسلام؛ وعي ينطلق من تلك اللحظة الموغلة في القدم، حيث تفتّحت البراعم الإبداعية الأولى عليها، فكتب نصّه الأوّل، ولكنه لا يبقى قاراً هناك حيث "ألواح الطين" وإنما يتّصل بزمننا الحاضر عبر آخر تقنياته الحاسوب والبرمجة الالكترونية للتواصل مع العالم كمشترك إنساني ما عاد غامضاً ومتّسعاً كما كان سابقاً، وبذلك يمكن الاستنتاج أنها امرأة واقعية تعيش بيننا: تأكل وتشرب وتنام. وهي إلى ذلك:
"ابنةُ الحي، الجارةُ، والأم المسحوبةُ من أناملها إلى رتق ثياب اليتامى" (ص 11)
ولكن تجلّياتها وأسرارها هي ذات تجليات وأسرار أمنا حوّاء/الحاوية للكلّ سواء من حيث ارتباطها بالطبيعة أومن خلال تفاعلهما مع الناس والكائنات المختلفة، وبذلك فإنها ستكون على مدار النصّ: المركز الذي تتحرك فيه الموجودات، ومنه تنطلق في مسيرتها، وإليه سوف تعود، وبمعنى آخر مركز أمومي يحاول الشاعر استعادته كي يقابل فضائح الذكورة وغطرستها بلغة تتميّز بأطروحتها الإنسانية:
"الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ.. تدركُ الأسرار وتصفُّها كما لو كانت تصفُّ الأطباقَ وأدواتِ المائدة استعداداً للعشاء، وتوزع الطعامَ بما يكفي حاجتها إلى الصمت، ثم تأكل بجوع ينبوعٍ إلى الفوران، ثم تفور داخلياً كأنها تُملي على البرقِ أوامرَ اندلاعهِ في علبةِ كبريت.
ومن وظائفِها أنها تُصادقُ الجن، تعلمه آدابَ المائدة وكيفيةَ الوقوفِ صفَّاً لإنهاء معاملاته المتراكمة في مؤسّسةِ الليل." (ص 14)
والزَّهْرَوَرْدِيَّةُ إلى ذلك أيضاً:
"تحبُ لعبَ الأطفال ومنها لعبةُ البحر حين تحمله إناءً زجاجياً تسبح فيه أحلامٌ بأشرعةٍ مُلونة.. وتخشى على دميتِها القطنيةِ من صخبِ الدببة وتخشى على الدببة من المدافع الرشاشةِ التي تمقتها الزَّهْرَوَرْدِيةُ كونها.. الحالمةَ العظمى.. بعالمٍ خالٍ من الأوبئة." (ص 15)

إنها أمّ كلّية، وكلّ شيء مرتبط بها أو ينتمي إليها، وليس من عبث قالوا: إننا أخوة في الإنسانية، فالكلّ جاء منها وعاش في رعايتها وعطفها وحنانها، كأسرة واحدة تمايزت بالمحبّة والرحمة وعدم التفرقة بين قويّ وضعيف، وبين لون ولون. وإذا كانت السيرورة الإنسانية قد اندفعت نحو مسارات أخرى سادت من خلالها الثقافة المضادة بكلّ عنفها وجبروتها، إلاّ أن العودة عن ذلك بات ضرورياً لإنقاذ أنفسنا من أنفسنا أوّلاً، ولإنقاذ الطبيعة ذاتها كجسدٍ لا يحيا إلاّ بقطرات الندى وغبار الطّلع، كي تواظب على حيويتها وإطعام أبنائها ورعايتهم.

3ـ بنائية النصّ: العودة إلى لغة المشترك الإنساني
ينهض النصّ كبنية على حكاية الشاعر مع "الزَّهْرَوَرْدِيَّةِ" الأنثى المتكاملة الصفات كإطار حكائي أوّلي ما تلبث أنْ تتفرع عنه إطارات أخرى، في مستوى من الكلام يمازج ما بين القول الشعري والسرد، تماماً كبنية الأسطورة التي مزجت ما بين الحكاية والشعر، سعياً من الشاعر للعودة بنا إلى لغة المشترك الإنساني، والبنيات النصّية الأولى التي حفلت بكثير من الطقسيات والدراما في نسيج واحد، فباتت أصل كلّ فنّ سينشأ فيما بعد.* وهكذا فإنَّ الشعر بتخطيه لهذا الحاجز الوهمي ما بين الجنسين الأدبيين، فإنه سوف يستفيد من أهم خواصهما ونعني بهما: السرد والخيال المجنّح، يعزز ذلك بطبيعة الحال: تفاعل أساليب الخبر والإنشاء، والصورة البلاغية في شكليها: الجزئي والكلّي لتشكيل نصّ قرائي بصري تتناغم فيه الألوان والأصوات والروائح:
"أيُ رحمٍ هذا الذي.. حَمَلك
أيتها المرأةُ المجلوبةُ مِن أوصافِها كلُّ امرأة
ربما.. رحمي!
أنا الرجل الذي عليه أنْ يحيا فائضَ أنوثةٍ هي أنوثتك
أمْ أنتِ تلدين ذاتَك
مبرأةً من الشبيه...
إلا أنْ يكون.. فؤادي." (ص 14)
وسنرى في المقطع اللاحق كيف يوظف الشاعر التقنيات السردية عبر توظيف الخبر والإنشاء على نحو جمالي يثير متعة القارئ، ويدفع به لتتبّع أخبارها، فيزداد معرفة بها وبشخصيتها الاستثنائية:
"هل الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ ذكرٌ أم أنثى
الشمسُ أم المَظلَّة؟
وماذا لو كانت كلَّ هذا، وكانت أيضاً الزجرَ الذي يدفع مولوداً خارجَ الرحم وبذرةً إلى شقِّ نعاسِ الطين ويدفع وتراً إلى التلذذِ بالنغماتِ قبلَ أنْ يُطلقَ موجاتها متأنياً." (ص 15)

"حين تَصلُ بين قُطبينِ أحدهما سالبٌ والآخر مُوجب.. انظر إلى المصباح، فالزَّهْرَوَرْدِيَّةُ هي عينُكَ والضوءُ في ارتكازهِما على يدِك.." (ص 16)

أما الصورة الشعرية برمزياتها المكثّفة ودلالاتها الغنية، فإنها عالم مواز وغني بكلّ ما هو مألوف وغير مألوف من الكلام الذي يبنيه الشاعر بهندسة عالية، وروحية خاصّة يعكسان نضجه الشعري، فكلّ شيء موظّف، وليس ثمة نشازات لونية أو صوتية تشوّه جمالية البناء، أو بمعنى آخر، ليس ثمة صور تأتي منعزلة عن سياقها بالرغم من طول النصّ، هذا بالإضافة إلى أن الصورة الجزئية سواء كانت استعارة أو كناية أو تشبيهاً تمتاز بحداثتها وطرافتها:
"تُحدِّقينَ من فوق كتفي إلى يديَّ المرفوعتين بالدعاء.. وأنا المتأنقُ مثلَ زمردةٍ خضراء.. لأنني أحبُّك." (ص 17)

"حينما كنتُ واقفاً بوجهي إلى الحائط وذراعاي مرفوعتان، علمتُ أنَّ عقابك لن يطول إلا بقدر ابتسامة...
كانت ثمارُ التين مبثوثةً في إدراكي لحياةٍ لا يمكن إقصاؤها عن يدِك...
وإلا ماذا يعني أنْ أجوع وأشبع وأنْ أعبرَ المحيطَ كعصفورٍ على لوح خشبي لكنه لا يأكل الأسماك، فالزَّهْرَوَرْدِيَّةُ تمده بالتوت، وحين يرى بارجةً مضيئةً في الليل يظنها أنتِ، ناسياً أنْ وجهكِ قلبُه المُرتجف في ماءٍ لا حدود له.." (ص 18)
وبالإضافة إلى ذلك فإن التكرار، سواء كان في المعنى أو لفظياً، يعزز توجّهات الشاعر الإخبارية عن "زَّهْرَوَرْدِيَّته"، على شكل محطّات استراحة قد ترتبط بما سبق من كلام، أو أنها تنطلق في شعاب جديدة، ومثالها لفظة الزَّهْرَوَرْدِيَّة: الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ ورغم أنها امرأة...الخ/ الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ وريثة الأبد/ الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ امرأة/ الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ ابنة الحي/ الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ تعرف..
مما يمكن استنتاجه أن بنية التكرار سوف تدفع لإنشاء مزيد من الكلام، ولكنه سيختلف بطبيعة الحال من مقطع لآخر تعبيرياً وجمالياً وأسلوبياً، فتارة يأخذ شكل سرد متّصل يبيّن العلاقة ما بينها وبين الشاعر المحبّ، بذكر المزيد من تجلياتها وأسراراها:
"لأدع هذا الآن.. حتى لا يُفاجئني الطَلقُ وأنتِ تولدين من جنبي الأيسر وحتى أقسمُ بالوالد وما ولد.. وحتى ننام معاً في سريرِ طفلةٍ أضاعتْ حذاءَها الفضيَ في قلبي.. فأنا أيضاً طفلٌ ألزموه بتربيةِ شاربيه حتى يصبح وَجيهاً يدفع عنكِ الرذائل.. وأنا أيضاً عاشقٌ كان عليه أنْ يصبغ قمصانَ نومكِ باللازوَرد وأنْ يرفع إلى يديكِ كلَّ مساءٍ أغنياتهِ التي تشبه الفوانيس فلا تخطئينَ إشعال أرواحها." (ص 18)
وتارة أخرى على شكل قول شعري متقطّع يُقال بضمير المخاطبة، ولكنه لا يختلف من حيث المعنى المراد إيصاله:
"أنتِ.. تنهضينَ في مُنتصفِ العذوبة
ولا يعرفُ الليلُ
كيفَ يُقبِّلُ أنفك
يُوكلني بهذه المهمة
فأقبِّلُ الأنفَ مأخوذاً بصوفيِّته الشامخة." (ص 19)

والتنويع ما بين الضمائر والمتفاعلات النصّية وتعدد البنى المشهدية، بما تفضي إليه من تعدد المستويات الدلالية: الذاتي، الجمعي الإنساني، النفسي الجواني، التعبيري المباشر، الواقعي، الأسطوري، التراثي لتتشابك جميعاً ضمن بنية إيقاعية هارمونية أخّاذة، لتقول بعد ذلك: هذه هي " الزَّهْرَوَرْدِيَّةُ" التي تشبه ذاتها ولا أحد يشبهها، صاغها إبراهيم المصري من قطرات الندى الصباحي المتموضعة على وريقات الزهر، وإلاّ لمَ كلّ هذا البريق الأخّاذ الصادر عن أمواجها اللونية :
"أنتِ.. الزَّهْرَوَرْدِيَّة
ويا أنتِ...
حين يدسُّ الأطفالُ كتبَهم صباحاً في حقائبِ الماء
ذاهبينَ إليكِ بأفواهٍ يُوشِّحها البخار
فلا تردي طفلاً بدون حصتهِ من قلبك.

أنتِ.. الزَّهْرَوَرْدِيَّة
ويا أنتِ...
حين أدسُّ ما أشقاني في يدِك
واقفاً على أصابع القدمين
فتمسحين صدري بماءِ الورد. (ص 20)

أنتِ.. الزَّهْرَوَرْدِيَّة
ويا أنتِ...
حين يختلي الهمسُ بنهديكِ
ويوبخ الصوفيين كونهم عديمي النظر
في التصاقهم بكهوفٍ ومغاراتٍ ومزالق
وكان عليهم أنْ يلتصقوا بدمِك.

أنتِ.. الزَّهْرَوَرْدِيَّة
ويا أنتِ...
حين تفتحين بابَ روحِك
فيخرجُ الهدهد حَاملاً
إبريقَ الشاي الأخضر.(ص 21)

الموتُ أنْ نعود إليكِ...
وإنْ جرفنا الخوفُ فاعذرينا... (ص 22)

خاتمة:
سيقال الكثير في "زَّهْرَوَرْدِيَّة" الشاعر إبراهيم المصري*، والكلام في النقد عادة ينطلق من زاوية الرؤية الخاصّة بكل ناقد، الذين نأمل ألاّ يقفوا في الزوايا البعيدة من هذه القصيدة النصّ لأنها قريبة من القلب والعقل.

عزت عمر
ناقد وكاتب سوري
http://www.izzatomar.com

............................................................
هوامش:
* انظر دراستنا السرد والدراما وبناء السياق الثقافي:
http://www.izzatomar.com/modules/news/article.php?storyid=84
* الزَّهْرَوَرْدِيَّة، إبراهيم المصري، أبوظبي، مطبعة المستقبل، 2007

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف