جابس ما بين مسلسل حياته ومشروعه الكتابي الفذ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سيرة الشاعر إدمون جابس الأولى باللغة الفرنسية:
ما بين مسلسل حياته ومشروعه الكتابي الفذ
باريس ـ أنطوان جوكي: قلة من الشعراء الفرنسيين المعاصرين حظوا بالاهتمام الذي حظي به الشاعر المصري الفرانكفوني الكبير إدمون جابس (1912 ـ 1991) من قبل أكبر مفكّري ونقّاد زمننا. جاك درّيدا، موريس بلانشو وغابرييل بونور وضعوا أبحاثٍ عديدة حوله. رونيه شار اعتبر كتبه كأعمالٍ "لا معادل لها في عصرنا". ماكس جاكوب، بول
ويبدأ كاهِن أولاً برسم المشهد الطفولي الذي نشأ فيه جابس، أي مصر، وتحديداً القاهرة في بداية القرن العشرين، ولكن خصوصاً الريف المصري الذي شكّل جغرافيا حميمة سكنته حتى آخر أيام حياته وقال فيها: "أرض السهل المنبسطة والمرقّطة بأشجار النخيل المندفعة نحو السماء، تفتح الذهن على إدراكٍ حسي للزمن أوسع من إدراكنا. الزمن هناك هو مفهومٌ اصطناعي. الواقع مصنوعٌ من حركاتٍ مكررة بصبر، الفلاح ضامِنها الأمين. حركاته تحدّه، وفي الوقت ذاته، تمنحه لا محدوديته". ثم يتوقف الباحث عند عائلة جابس الأرستقراطية وانغماسها الكبير داخل الثقافة الفرنسية الذي يعكسه جهل الشاعر للغة العربية، باستثناء بضع كلمات، وتعلّقه منذ الصبا بالمثال الجمهوري واستثماره كل فرصة لإبراز ودعم الحضور الفرنسي في مصر.
بعد ذلك، يتناول كاهِن مسألة اكتشاف جابس للشعر في الثالثة عشر من عمره، لدى قراءته ألفرد دو موسي وألفرد دو فينيي وبول فرلين، ثم بودلير ورامبو ومالارمي. ومع أن نصوصه الأولى (قصائد ومسرحيات) تعود الى فترة المراهقة هذه، لكن قدره ككاتب سيُحسم بين عامَي 1930 و1932، مع إصداره ثلاثة كتب: "أوهام عاطفية"، "أنا في انتظارك" و"أمي". فمنذ ذلك الحين، حاول توزيع وقته على الأصدقاء والقراءة والنشاطات الأدبية العديدة: الكتابة طبعاً، ولكن أيضاً التمثيل على خشبة المسرح، ثم خلق مجلات أدبية طليعية ودار نشر مهمة مع مواطنه الشاعر الكبير جورج حنين. لكن كسب عيشه لن يلبث أن يقوده مرغماً الى العمل مع عمّه كصيرفي لمدة عشرين عامٍ تقريباً بمسؤولياتٍ كبيرة، وبالتالي الى تخصيص لياليه لكتابته الشعرية التي سيقوم بنشرها بانتظام. فديوان "القدمَين في الهواء" صدر عام 1934، تبعه "رهانات شعرية" (1935) المزيّن برسمٍ من صديقه موسكاتيلي الذي رافقه في رحلته الى صحراء سيناء في صيف 1934.
ويتوقف كاهِن عند هذه المغامرة التي عاشها جابس في الصحراء، وعند الاستقبال الذي لقيه من ناسها، لإبراز أثرهما العميق والفاعل عليه طوال حياته، وبالتالي لإظهار كيف سيتحوّل الأمل والانتظار والضيافة البدوية في الصحراء الى مواضيع جوهرية في كتبه القادمة. كما يتوقف الباحث عند حدث وفاة أخت الشاعر البكر في عز صباها الذي ترك بصمته على معظم أعماله اللاحقة وكان وراء علاقته المألوفة مع الموت.
أما لقاؤه بماكس جاكوب فتم خلال شهر العسل الذي أمضاه في باريس عام 1935. وبسرعة أصبح هذا الشاعر الفرنسي الكبير مرشده الروحي الذي "علّمني أن أكون ذاتي، أي مختلفاً". فبفضله نشر جابس عام 1936 ديوان "الظلمة المقبولة" لدى دار النشر الباريسية العريقة GLM، وتعرّف على بول إيلوار الذي أدخله الى قلب عالم الأدب والنشر في باريس.
ولأن الشاعر من أصل يهودي، يقارب كاهِن مسألة اكتشاف معسكرات الإبادة النازية مباشرة بعد الحرب التي شكّلت منعطفاً أساسياً في كتابته، مذكّراً بجوابه على جملة الفيلسوف الألماني أدورنو الشهيرة: "لا يمكننا أن نكتب الشعر بعد أوشفيتز"، ويقول فيه: "أجل يمكننا أن نكتب الشعر، بل علينا أن نفعل ذلك. علينا أن نكتب انطلاقاً من هذا الصدع، من هذا الجرح الذي يوخَز باستمرار". وخلال تلك الفترة، التقى جابس بالناشر الفرنسي بيار سيغيرس الذي أصدر له ديوان "أناشيد لوجبة الغول"، كما استقبل في القاهرة فيليب سوبو وهنري ميشو وروجيه كايوا الذين ستربطهم به علاقات وثيقة وثابتة. وبعد تأميم قناة السويس (1956)، غادر الشاعر مرغماً وطنه في حزيران 1957 الى فرنسا، بعد خمسة وأربعين عاماً من الحياة السعيدة في القاهرة. ولا يعتبر الباحث عدم رغبة جابس العودة الى مصر نوعاً من المحافظة على الحنين بل يضع ذلك في سياق محافظة الشاعر على مسافة ضرورية تسمح له باستثمار آلاف الذكريات المصرية في كتاباته اللاحقة: "بدون مسافة، لا يمكننا أن نمتلك الأشياء. يجب أن نترك للكتابة الوقت لاستملاكها".
لكن المفارقة التي يشير إليها جابس نفسه هي شعوره بقربة أكثر مع الثقافة الفرنسية أثناء وجوده في القاهرة. ففي باريس، اكتشف في الواقع اختلافه، بينما سمحت المسافة له من قبل بتجنّبها: "انتمائي الى بودلير ومالارمي والسرياليين في القاهرة كان مرجعاً أكثر من أي شيء آخر. في باريس، انتصبت مصر وصحراؤها وإيقاع الحياة فيها فجأةً كجدارٍ بيني وبين هؤلاء الشعراء". كما لو أن جابس، باستقراره بين أولئك الذين يتكلمون لغته ولغة كتبه، أصبح أكثر فأكثر غريباً عن ذاته وعن كتابته. من هنا هاجس العثور عل الذات في مكان إقامته الجديد الذي قاده الى تأملاتٍ وتساؤلاتٍ رائعة حول المنفى ونتائجه. فمن كتابٍ الى آخر، تتكدّس الفرضيات حول هذا الموضوع، ولكن ليس فقط لاستكشاف علامات المستقبل بل للعثور مجدداً على معنى الحدس. كما لو أن اختبار المنفى منحه حرية العودة الى الأصول بهدف سد ثغرات هوية تبحث عن ذاتها: "نتألم جميعاً من فراغ في الهوية نحاول بيأسٍ سدّه. في هذا اليأس تكمن هويتنا".
ويتساءل كاهِن إن كانت تسمية شاعر لا تحدد (وتطبِّع) بسرعة كاتب مثل جابس تميّز عمله الكتابي بتنوّعٍ مذهل على مستوى المواضيع (الأدب، السياسة، الأخلاق...) والأشكال التعبيرية (القصيدة، الحكاية، النشيد، المَثل، المقطع والصمت)، وتعددت مقارباته للكتابة الأدبية بشكلٍ يجعل كل واحد من كتبه نموذجاً مثالياً لأدب ما بعد الحداثة. فمثل مالارمي، اعتبر جابس أن العالم لا بد وأن يفضي الى كتاب. لكن، بنظره، على هذا الكتاب أولاً أن يسمح بجعل العالم مرئياً. بعبارة أخرى، تشارك الشاعران الحلم بكتابٍ مُنجَز، لكن في حين أن مالارمي وضع ما رآه من هذا الكتاب تحت أعيننا، سعى جابس لرؤية هذا الكتاب في جميع كتبه.
وفي هذا السياق، يتوقف الباحث عند ديوان "أشيّد منزلي" (1959) الذي جمع جابس داخله نصوص الصبا الأخيرة التي كتبها خلال الحرب، قبل رحيله من مصر، وكتب مقدّمته غابرييل بونور، مرشده الروحي الآخر الذي جعله يكتشف "كتابه" وساعده على تحويل قلقه الى مِفصَل تساؤلاته، وعلى استقاء مادّة كتبه من تناقضاته بالذات. ونشعر في هذا الكتاب، قبل أي شيء، بتوق الشاعر الى عيش كتابته وإلى بلوغ كلمة صامتة يقول في جوفها ألق اللايقين (incertain). ولكن بجب انتظار "كتاب الأسئلة" (1963 ـ 1973) بأجزائه السبعة كي تعثر رغبته في "كتابٍ مُنجَز" على فضائها وتنفّسها. وتطلّب تحقيق هذا الكتاب من جابس خمسة عشر عاماً وإيقافه أي نشاط آخر غير الكتابة. ويتألف من قصائد ونصوصٍ سردية وحكايات وحوارات وتأمّلات تعكس وحدةً داخل التنويع، ميزة المرحلة الثانية من كتاباته.
ويقترح علينا الشاعر في هذا الكتاب نزهة داخل التاريخ، مستعيناً لذلك بلغة كلاسيكية ومبدعة في آنٍ واحد. وتتقاطع داخل هذا النص الطويل قصة جابس وظروف حياته كشاعر بوضع البشر ككل. أما حبكته فتتشكّل من جروحٍ حيّة ثلاثة: فقدان الأخت، بربرية معسكرات الإبادة النازية والنفي من الوطن الأم. وحول مفهوم التساؤل الذي يرتكز عليه الكتاب، يقول الشاعر: "أن نتساءل هو أن نكون بلا انتماء، أن لا نكون في أي مكان، خلال زمن السؤال"، كما يقول أيضاً: "كل سؤال مرتبط بالصيرورة. الأمس يُسائِل الغد، كما يُسائِل الغد الأمس باسم المستقبل المفتوح دائماً (...). السؤال هو المُسيِّر الوحيد للفكر ومحنته". وإذا كان شكل هذا الكتاب يُذكّرنا بالأسفار اليهودية المقدّسة، إلا أن جابس لن يضيّع فرصة للتعبير عن عدم انتمائه الى الطائفة اليهودية وعن تحرره من جميع الأماكن والأشكال التعبيرية التي تخص هذه الطائفة.
بين عامَي 1976 ـ 1980، صدرت الأجزاء الثلاثة من "كتاب التشابهات" الذي يظهر كنموذج أو بديل عن جميع الكتب السابقة. إذ نعثر داخله على جميع هذه المواضيع الجوهرية التي منحت الكتب السابقة نفَسها: الله، الإنسان، الحياة، الموت، الكتابة...، وكأن الشاعر يكتب الكتاب ذاته. فالسطور الجديدة تشكّل امتداداً لسطور البارحة وتتناول الأسئلة ذاتها بمقارباتٍ متجددة. ويمنحنا هذا الأسلوب التفسيري الشعري مفاتيح لقراءة وفهم مشروعه الكتابي ككل.
وكذلك الأمر بالنسبة الى "كتاب الحدود" الذي صدرت أجزاؤه الأربعة بين عامَي 1982 و1987 وحافظ جابس فيه على روح كتبه السابقة. ولكن مع مرور الوقت، تتقشّف كتابته وتجف صيغه وتتوارى غنائيته كردّة فعل، بدون شك، على فيض بعض الشعراء المنغلقين على أنفسهم داخل أبراجهم العاجية، ولكن أيضاً كسياقٍ طبيعي قاده الى تصفية مسعاه الشعري وأسلوبه. ومع ذلك، نستشعر في هذا الكتاب بلذّة الكتابة ذاتها، الحادة والمؤلمة، وبالرغبة ذاتها في إحياء اللغة ضمن احترامٍ مطلق لقوانينها وقواعدها. ومثل كتبه السابقة، يتضمن هذا الكتاب حِكَم وتأمّلات وحكايات وحوارات، لكنه يتميز بتواري الشخصيات الناطقة عادةً بأفكاره، وحلول مكانها زوّار غير محتملين يتوافدون بكثرة داخل أحلامه.
عام 1987، يصدر "كتاب الهوامش" الذي يعرض جابس فيه ذلك الواقع المُعاش بحدة: "أن نكتب، هو أن نخطّ خطوة الآخر الذي هو نحن، قبل رسم ألفاظها"، أن نضيّع طريقنا، الطريق المعتادة، للسير على طرقات أكثر سرّية وغموضٍ. إنه التيه كفضيلة وكمغامرة لا نهاية لها، يغادر الشاعر بواسطتها دنياه ويتقدّم "داخل الظلمة والفراغ وعدم المعرفة" لقبول العالم كما هو ومواجهة وقائعه. ويندرج كتاباه الأخيران، "غريبٌ بكُتيّب تحت إبطه" (1989) و"كتاب الضيافة" (1991)، في السياق ذاته، حيث يتم مقارنة الكتاب المُعاش من داخله بتأمّلٍ حول الخلق وصيرورة الإنسان، الأمر الذي يعود بنا من جديد الى المراحل المهمة من تاريخ الشاعر، مراحل تعبر الأزمنة وتتبع، حتى اللحظات الأخيرة، نزعة حياته الخاضعة كقدرٍ محتَّم للكتابة