برهان العسل: إيروتيكية خضراء أم صفراء؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نصر جميل شعث من غزة: ما الذي جاءت به الشاعرة والصحافية السورية سلوى النعيمي في تجربتها الروائية الأولى: " برهان العسل "، الصادر مطلع العام 2007. كنت أتساءل، قبل أن يرسل أحد الأصدقاء من السعودية بنسخة الكترونية PDF منها، ويقول لي: "عيش في النعمة". وقد بلَغتْ بي الرغبة الأدبية، لا الجنسية، قبل إرسالها، أن طلبتُ من أحد الكتاب الذين يَعبرون "إيريز" خفافا من غزة إلى رام الله - بتنسيق أمني إسرائيلي فلسطيني - أن يُحضر لي العسل مَدفوع الثمن، لو فكّر أن يسرج النية ويرجع ليعيش في جلباب غزة الأسود السميك.. فلابد أنّ "الرواية" العارية المبللة بالعسل، الصادرة عن "دار رياض الريس"، قد وصلت إلى رام الله المدينة المفتوحة المتجلّية على أفواه الجرار، وفي الآفاق الحشو والعشوائية السياسية، من طريق الهلوسة الجنسية، أيضًا. ولئلا يظننَ قارىء عربي أن كلمة "إير يز" تمتّ لـ" إيروس" بصلة؛ هي اسم المعبر البريّ الذي يربط قطاع غزة بالضفة الغربية، وتديره سلطات الاحتلال الإسرائيلي بأسلوب عسكري صرف. لكن نكاية بـ" إير يز" وصلت "الرواية" التي تمت لـ" إير وس" بصلة، وصلت عبر الايميل. وقبلها كانت وصلت سلوى النعمي ذاتها، كزائرة لفعالية ثقافية لغزة الكنعانية، في أواسط التسعينات، سنوات الرخاء والإزهار الثقافي الذي أعقب التوقيع على إتفاقية "أوسلو".
عند الانتهاء من قراءة عمل النعيمي المذكور، أول ما يتبادر للذهن تساؤل في صميم فن الرواية: هل تستحق "برهان العسل" لقب أو رتبة رواية؟ هذا التساؤل ليس من باب الحيرة بقدر ما هو آت من خبرة المتلقي وقدرته على التفريق بين البحث العلمي الابتكاري والبحث، كتحصيل حاصل، في المواضيع الجاهزة. وكم قال أساتذة جامعات لنا وقت كنا طلابًا بصدد عمل أبحاث: "احذروا المواضيع العريضة المطروقة والمقتولة بحثًا، أللهم إلا إذا كانت لديكم طرق ابتكارية تمنح جهودكم التميّز"؟ مثلما قال لنا أساتذة النضال: " احذروا الموت الطبيعي، ولا تموتوا إلا تحت زخّات الرصاص". وكنا نضع كلام المناضلين في سياق رومانسية الثورة، لا لونها الدموي. وكان ينقص "برهان العسل" المكتوب بالبنط الأحمر الثخين، زخّات روحيّة على جسد الطريق الابتكارية المتواضعة في معالجة النعيمي لقضية البحث روائيا. لكن، أين هو الابتكار؟ دع عنك آلية التبويب التي أرادت بها النعيمي محاكاة كتب التراث العربية المتحدثة في صميم موضوع البحث الذي تقدمه عن الجنس؛ الذي جَرّدته، بدورها، من الروح منذ السطور الأولى: " هناك من يستحضر الأرواح، أنا أستحضر الأجساد. لا أعرف روحي ولا أرواح الآخرين، أعرف جسدي وأجسادهم. هذا يكفي " إذ تَجرّد العملُ كجنس أدبي من أبهة ولياقة وفخامة الرواية ذات الرتبة الايروتيكية الخضراء!
فتأخذ سلوى النعيمي أو البطلة عاشقة كتب الباه بـ" مناهج البحث العلمي"؛ فهي تستعمل نظام البطاقات لاقتباس الجمل والعبارات من الكتب إياها. وهنا سيفاجأ القارىء، لوهلة أولى، بقوة ما في "الرواية" نظرًا للاعتماد الأساسي على فحولة التراث، الذي أرادت الكاتبة إحياءَه لتقول خلاله: إن العرب قديما كانوا الأمهر في المعاملات الجنسية والأكثر تصالحًا مع الجنس إلى حدّ البوح به كوصايا وتدوينه كتعليمات يجب العلم والعمل بها، وتعلّمها لأجل تحقيق الهناءة وتحرير المجتمعات العربية من عقدة الجنس. فملخّص أحد النداءات التي تجهر بها الرسالة هو: (يا أيها العرب الحاليون يا أهل التقية والجهل والقمع، عليكم أن تتعلموا من أجدادكم ). سوى أن مقاصد الكاتبة هذه (البطلة والشخصية) المعلنة والمضمرة، لن تكفّ الناظر، نظرة مقارنة في الحقل الايروتيكي، عن القول بأن مثل هذه "الروايات" لو صدرت بحالتها هذه في بلد أوروبي، لظلت في ذيل المبيعات، ولتصدى لها أهل الكار، ولاسيما الأديبات العاهرات أو القارئات العاهرات(لأنهن، أيضًا، نهمات قراءة، وحساسات تجاه الأدب).. لتصدينَ لها بكتابة الكلمات الكثيرة التي تقلل من قيمتها الأدبية، ولأشرنَ، بخيبة وأسف، إلى وضاعة الجنس المسؤول، بدوره، عن انحراف الكاتبة عن مسار الفنّ الروائي، المسار المرن، على أية حال.
صحيح.. إن النعيمي تبدي إهتمامًا، بل شغفًا بكتب التراث العربية التي طُرحت فيها خلاصة وزبدة الخبرة العربية بالجنس حدّ ترف القدامي وتفننهم في وصف وتدوين عملياته وتعليماته.. ولكن "من الحب ما قتل!". فالأسلوب الذي انتهجته الكاتبة ثرثرةً وحكيًا وحشوًا وتعليقا كان أقرب إلى صدوره عن لسان راوية أو بطلة "عاهرة"، تبتدع من داخلها "آخر جنسي محايث" تسميه " المفكّر" أو محدّث النفس، الابيقوري. ومن خارجها تستعمل "الجوّاب" و"السريع"؛ كتسميات "للآخر" المسلّي والمطلوب كما لو كان ميكانيكيا أو كهربائيا يعمل على تشغيل وإضاءة جسدها باستدعاءٍ، طبعا، من "المفكر" الداخلي، أو هي التى تنظر للرجال كأشياء صلبة، ولا ينتاب "المفكر" أي نوع من الشعور بالذنب، وقد اعترفت البطلة بنفسها في الباب الأول " باب زواج المتعة وكتب الباه": " أستعملهم أدوات جنسية، ولم لا؟ ". حيث قسّمت حياتها، في مستهل الباب: " باب المفكر والتاريخ الشخصي"، قسمين: (ق م) و (ب م) أي "قبل المفكر" و"بعد المفكر"، على غرار قبل الميلاد وبعده..
غير أنّ حالة الشغف والثقافة الجنسية المكتبية والخبرة المعاشة التي تتمتع بهما البطلة لم تجعلها على مستوى الأسلوب الراقي والمترف والمميز، وهي تروي وتستند بافتخار إلى كتب الباه، حيث تساءلت: طالما هناك التيفاشي والييجاني والسيوطي والنفزاوي لماذا علي أن أقرأ جورج باتاي وهنري مللر و الماركيز دو ساد وكازانوفا والكاما سوترا.. فاللغة العربية هي لغة الجنس.. كما تقول. وعلى الرغم من سياسة الافتخار هذه سيبدو العمل يعاني من فجوات وومطبات وارتخاء جراء التوظيف الاستعراضي للترف الجنسي المتوافر لدى الأجداد المتوازنين والمهنيين في كتاباتهم الخارجة عن غير أزمة في زمانهم، بينما "برهان العسل" تصدير أزمة ذات في عام.
ما من شك في إمتلاك النعيمي القدرة على هتك المجتمعات العربية بالجرأة، ولكنها فَشَلَت في توظيف القدرة المدعومة من المعلومة التراثية، فشلت في اكتساب عدوى الإتزان والمهنية الروائية اللافتة. وفشل العمل في أن يكون رسالة نقدية لاذعة، إذا ما أخذنا بظنّ القراءة العكسية؛ ذلك لأنّ السخونة تطرّفتْ، ففَصلَتْ الأخلاقَ عن المطالبة بالتربية والثقافة الجنسيتين.. حيث الحدّ المائع، لا المانع، بين البطلة والشخصية في كثير من الوضعيات والغمغمات التي تركن العمل في زاوية الكتب الصفراء؛ لانزلاق الكاتبة وتخبطها بين فيض "المفكر" وكتب الباه المترفة والوقورة برغم جموح الوصف والإخبار والإمتاع لدى الأجداد. أما في هذا الزمن، فتنطبق على النعيمي نصيحة قارىء، بدوره، يطالب كاتب مقالةٍ مليئة بالحقائق اليقينية والمقاصد الأخلاقية والعلاجية، أن يبتعد عن ذكر الأسماء والرواتب كي لا تضيع المقالة وتفقد الحقائق قيمتها وقوتها. ولا شك أن العمل فيه رسالة بالغة الأهمية، غير أنها ضاعت كرواية، بسبب حمّى الجرأة المَرَضيّة التي دفعت لسان البطلة للهلوسة، على مساحة كبيرة من وقت الكتابة، بالوصف وبكلمات (أسماء أعضاء) الجسد الصريحة الحسّاسة و"الكبيرة"، بدعوى جموح التعرية التي ارتفعت عاليا فسقطت من الفكرة النقدية المقصودة لدى الكاتية، وغرقت في مجانية البورنو!!
على أن هذا البحث الروائي بحالته الجاهزة، ليس انتصار الجرأة على التقية في المجتمعات العربية، بقدر ما هو انهزام سلوى النعيمي، المقيمة في باريس، أمام نماذج الرواية الإيروتيكية العالمية الرفيعة. وأكثر من ذلك إنهزامها، إذا ما علمنا أنها شاعرة، أمام شعرية الرواية، الآن، التي تزحف، كدأب النمل، باتجاه الشعر، وتدهشنا حيوية الزاحف والمزحوف عليه في مشهد الزحف الجليل. فأمام الجسد المأزوم بفيض "المفكر"، والهزائم المضاعفة لروح الراوية البطلة و"الرواية" لم تكن تمتلك الكاتبة القدرة - مثلما امتلكت الجرأة- لتعي جمال المعنى الايروتيكي الفني في تعرية سلك كهربائي من حمايته البلاستيكية أو المطاطية. كما لم تفلح في التساؤل بعمق وبشكل راق أمام جسد هذا السلك النحاسي المصقول والمثير للشعرية!
لقد برهنت البطلة على جرأتها في التعرية الخاصة قبل العامة، وعلى اشتعالها في كل الظروف والحالات الطارئة والمانعة التي تخصّ المرأة؛ ولم تبرهن النعيمي للقارىء على قدرتها الابتكارية بمد السلك بالكهرباء الحميمة، أو النصّ بعسل فن الرواية!!
بين الجهوزية والتناقض:
أما في مستهل ثاني أبواب - لا دقائق كما عند باولو كويليو - العسل الأحد عشر: " باب المفكر والتاريخ الشخصي"، نلاحظ تناقض البطلة إذ وهي تصل له جاهزة الذروة تذكّر بآداب الجماع عند النبي، فتقول: " كنت أصل إليه مبللة وأوّل ما يفعله هو أن يمدّ إصبعه بين ساقيّ يتفقد "العسل"، كما يسميه، يتذوقه ويقبلني ويوغل عميقا في فمي وأقول له: من الواضح أنك تطبق وصايا الرسول وتقتدي به: لا يقع أحد منكم على أهله كما تقع البهيمة. وليكن بينهما رسول: القبلة والحديث. وعن عائشة: إن رسول الله كان إذا قبل الواحدة منا مصّ لسانها. وتتساءل البطلة الحاهزة قبل المفكر وبعده "للجوّاب" و"للسريع": كيف يمكن ألا أكون بنت هذا التراث؟ كيف يمكن ألا أذكّر "المفكّر" به. حتى عندما إختارها مسؤولها في العمل لإعداد بحث عن الجنس عند العرب للمشاركة به في نيويورك وذلك لتحسين الصورة بعد أحداث 11/ سبتمبر، كانت جاهزة مسبقًا كونها تعمل في المكتبة ودائما على اتصال عضوي مع "جهنم الكتب"، فهي تقرأها وتراجعها وتتحسسها وتشمّها وتسخن قربها، على الدوام. إنها إمرأة الجهوزية بامتياز، وفي كل الحالات والظروف والأمكنة.
وفي الختام لا نعلم هل قرأت عاشقة الكتب سلوى النعيمي هذه القصة عن النبي الكريم، وتقول: "ذهبت السيدة فاطمة إلى أبيها تشكو له حالة النفاس، وما يشعر له زوجها علي إزاءها أثناء ذلك. طلب النبي عليا، وبحثا في القضية... وكان أمام النبي الكريم صحن من العسل، وأنهى الحديث بأن وضع إصبعَه في العسل حتى وصل إلى قاع الصحن. وهكذا انشقّ العسل إلى قسمين، لم يلبثا أن إلتأما، وعاد العسل إلى حالته الأولى الجميلة الساكنة في الوعاء.. وقال النبي: " حال المرأة أثناء النفاس والحيض كحال هذه العسل، انثلم عندما جَرحناه. ولكنه لم يلبث أن استعاد حاله الطبيعي".