موسم الهجرة إلى الشمال والمقابسات الشكسبيرية (1/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
قرأت وأنا وتلميذ في مرحلة الدراسة المتوسطة كتابا للأديب اللبناني الراحل فؤاد سليمان عنوانه (درب القمر) كتب مقدمته الأديب الكبير الراحل ميخائيل نعيمة وكانت عن عجيبة الحرف كيف أن الحروف تترابط مع بعضها وتشكل الكلمة وكيف أن الكلمات تتآلف فيما بينها فتشكل الجملة وكيف تقوم الجمل بنقل الصور المادية والحسية الى القارئ وما تخلفه في نفسيته من اثر، وقد قادتني المقدمة والكتاب إلى الشاعر نزار قباني وديوانه (الرسم بالكلمات) وقادني ديوانه الرسم بالكلمات الى رواية (موسم الهجرة الى الشمال) والى اللغة التي كتب بها الطيب صالح روايته ورسم فيها البيئة والشخصيات بدقة مبدعة ونفذ بها الى الدواخل والحالات النفسية لتلك الشخصيات ببراعة فائقة فكأني به يمتطي فرسا عربية أصيلة يمسك زمامها بيده يسيرها حيث يشاء ويوقفها أين أراد كأنه أبو الطيب المتنبي راكبا حصانه في شعب بوان أو في صحراء الأرزن مع عضد الدولة واصفا الصيد ومنشدا أرجوزته اللامية المشهورة التي مطلعها:
ما أجدر الأيام والليالي بان تقول ما له وما لي
تذكرت ذلك واسترجعته حين انتهيت من قراءة ما كتبه الاستاذ صلاح نيازي عن رواية (موسم الهجرة الى الشمال) على صفحات ثقافات إيلاف وعلى صفحات ينابيع العراق الثقافية بعد أكثر من أربعين عاما على نشرها أول مرة والذي ضمن ما كتبه حسب اعتقاده حقيقتان وملاحظات قاربت السبع صفحات من القطع الكبير.
إن معلوماتي عن الطيب صالح انه درس العلوم في بلده السودان ومارس التدريس فيه بعد تخرجه قبل أن ينتقل إلى بريطانيا ويدرس في إحدى جامعاتها ويحصل على درجة علمية أخرى اعتقد أنها كانت في فن القيادة أو الإدارة أو التنظيم ويعمل في الإذاعة البريطانية، كما أني أرى أن الرواية لم تتخذ الأجواء السودانية المحلية ذريعة لان أحداثا هامة منها قد جرت في تلك البيئة، وأصحح أن من كان يلقب مصطفى سعيد (الانجليزي الأسود) زملاءه في الفصل الدراسي إعجابا به وحقدا عليه وليس أهل القرية. اما ان الرواية مشحونة بالثقافة الاوروبية ولا سيما المسرحيات الشكسبيرية فاريد ان اوضح شيئا واقول :ان التوربينات المولدة للطاقة الكهربائية تدار بقوة الشلالات أو بقوة مياه السدود المبنية على الأنهار، وهى امتداد متطور لدواليب الماء والطواحين المائية التي كانت تدار بقوة المياه في الزمن القديم، وان العجلة الموجودة الآن في السيارات والقطارات والطائرات هي امتداد متطور أيضا للعجلة الآشورية، وأن في الحياة بديهية معروفة مفادها (ليس هنالك شيئا وجد من العدم)، وان هذه البديهية تنطبق على العلوم مثلما تنطبق على الآداب والفنون والفلسفة والعلوم الانسانية الاخرى، وقد سمعت معنى هذا وان غلام صغير يردده احد المذيعين حين كان يقدم برنامجا ثقافيا من احدى الاذاعات مرافقا للّحن المميز للبرنامج بكلام موزون ومقفى قائلا :
يا صاحبي تعجبا لملابس قد حاكها من لم يمد لها يدا
كل الثياب يحول لون صباغها وصباغ هذا حين طال تجددا
اما ان الملاحظات ليست دراسة للرواية بقدر ما هي تتبع لابطال بعض الروايات الاغترابية وكيف تكيفواللعيش باوربا وكيف تفاعلوا مع بيئاتهم الاصلية، فاقول: ان قراءتي للملاحظات قد بينت انها لم تتمكن من تتبع ذلك، ولم تستطع الافصاح عنه وايضاحه، لان الاغتراب موقف من الحياة، وهو لا يعني التغرب، وقد يؤدي التغرب إلى الاغتراب في حياة بعض الناس، وقد لايؤدي التغرب الى الاغتراب في حياة البعض الآخر، وقد تكون حياة بعض الناس اغترابا وهم يعيشون في اوطانهم بين اهلهم وذويهم واصدقائهم، ومن أراد تتبع الشخصيات الاغترابية قام بدراسة منهجية نفسية لابطال تلك الروايات وحلل شخصياتها من الناحية النفسية وبين ما كانت تعانيه من امراض نفسية، أو ما كانت تشعر به من مركب نقص، كما فعل الراحل الدكتور علي كمال الاخصائي في الطب النفسي في دراسته القيمة (المتنبي والنفس) المنشورة في العدد الرابع من مجلة افاق عربية في كانون الثاني 1977، على الرغم مما بذله الدكتور كمال من جهود مضنية لاعداد الدراسة واكمالها، لانه قام بتحليل شخصية المتنبي من خلال قراءة ودراسة شعره، لعدم وجود سيرة ذاتية مكتوبة عن حياة المتنبي وللغموض الذي يحيط بحياته الخاصة، ولبعد الفترة الزمنية التي عاش فيها عن زمن اعداد الدراسة بما يزيد على الاف عام، بينما تفصح الرواية بشكل تام عن شخصياتها وتصف احوالهم النفسية بدقة وتوضح البيئةالسودانية المحلية والبيئة الانكليزية التي جرت احداث الرواية فيها، وان الرواية كتبت في فترة زمنية قريبة يمكن للدارس او المتخصص معرفتها والاحاطة بها جيدا والكتابة عنها، واني ادعو المتخصصين في الاداب وفي علم النفس وفي الطب النفسي لدراسة (التقابل والتعارض) في شخصيات رواية موسم الهجرة الى الشمال (مصطفى سعيد -الراوية)، (جين مورس- حسنة بنت محمود)، (ام مصطفى سعيد--مسزز روبنسن)، (الشيخ احمد -ود الريس) وغيرها من الشخصيات المتقابلة المتعارضة، كما ادعو لدراسة اجتماعية تتناول البيئة السودانية المحلية والبيئة الانكليزية، او بشكل اوضح دراسة العائلة السودانية والعائلة الانكليزية، وبكلمة ادق دراسة التماسك العائلي في المجتمع الزراعي السوداني ودراسة التفكك العائلي في المجتمع الصناعي الانكليزي، والقيم والعادات السائدة اجتماعيا في كلتا البيئتين وّّاّثارها على شخصيات الرواية، أي دراسة التقابل والتعارض في البيئتين، وساقدم هنا دراسة موجزة لشخصية مصطفى سعيد وشخصية الراوية، متخذا الخطوات التي اتبعها الدكتور علي كمال في دراسته لشخصية المتنبي منهجا اتبعه(على الرغم من اني لست اخصائيا نفسيا)، واقيس شخصية كلا منهما بمقياس ايزانك لقياس الشخصية، وابين الخصائص النفسية البارزة لكل من الشخصيتين مركزا على شخصية مصطفى سعيد وما كان يعاني من الناحية النفسية وموضحا اثر العوامل التي ادت الى تكوين شخصيته ومحللا ما كان يشعر به من مركب نقص وما عاناه في حياته من ازمات نفسية كان لها الاثر في تكوين شخصيته وسلوكه في حياته اللاحقة.
اما شخصية الراوية، فعند قياسها بمقياس ايزانك نجد ان 1. خصائص من مجموع 16 تدل انه شخصية متزنة، و9خصائص من مجموع 16 توضح انه شخصية انبساطية، ولا اريد ان اتوسع بتحليل شخصيته كما فعلت مع مصطفى سعيد واترك ذلك لدارس غيري بتحليل شخصيته، لكني اكتفي بالقول انه عاش تغربا اثناء دراسته في بريطانيا، وكان يحن الى أهله وأصدقائه في بلاد تموت من البرد حيتانها، عاد اليهم بعد انهاء دراسته وحصوله على اعلى درجة علمية، مارس عمله بعد تعينه بصورة اعتيادية، ذو شخصية مستقرة، متوافق مع بيئته ومحيطه، لكن لا يمكن ان يكون خالي الهموم وانه خالي من الأمراض النفسية بشكل تام مثله مثل اي انسان موجود في الحياة.