موسم الهجرة الى الشمال والمقابسات الشكسبيرية (2/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
موسم الهجرة إلى الشمال والمقابسات الشكسبيرية (1/2) ناجح فليح ألهيتي: لاادري لماذا لا يذكرني ما جاء في الملاحظات حول رواية موسم الهجرة الى الشمال بما فعله الاقدمون مع ابي الطيب المتنبي حين وجدو معنى بيت واحد في قصيدة كاملة له نسبوه لشاعر مغمور لم ينتبه اليه المتنبي وقد يكون لم يسمع به، فاتهموه بالسرقة والفوا الكتب عن سرقاته واقامو الدنيا واقعدوها، لكن جميع ما كتبوا ذهب ولم يبق منه شيئ وبقي المتنبي شاعرا لا يدانيه احدا يقطع الزمن بخطوات حثيثة منذ اكثر من الف عام، متجاوزا زمننا الحاضر ومتوغلا في الزمن المستقبل الاتي.
تريد الملاحظات ان تؤكد حقيقة ان الطيب صالح كان تحت تاثير مسرحيات شكسبير حين كتب روايته وتبدا بمسرحية عطيل بعد تعرف مصطفى سعيد على ايزابيلا سيمور وسؤالها له عن جنسه، فاجابها:
يرد تساؤل في الملاحظات هل تعبير اوتارها المشدودة صيغة عربية متوارثة؟ ويذكر التعبير بمسرحية مكبث وبوتر الليدي مكبث، واجيب بنعم انها صيغة عربية متوارثة واسال الم يكن (اختلط الحابل بالنابل واشتبك الامر)مثلا عربيا وعجز بيت الحطيئة (اعطي القوس باريها) مثلا عربيا ايضا، وهل يطلق النبل بدون شد وتر القوس ؟ الم يصنع العرب آلة الرباب وآلة القانون والعود ؟الم يكن لهذه الآلات اوتار ولكل وتر مفتاح يشد العازف الاوتار بهذه المفاتيح قبل العزف على الالة.
وعن قتل جين مورس الذي يعتبر ماخوذا من مسرحية عطيل، فاني ارى ان مصطفى سعيد شخصية عربية عاش طفولته حتى البلوغ في ظل قيم تختلف عن القيم الانكليزية، وان جين مورس عذبته واهانته في رجولته وكانت تخونه متعمدة متحدية، فقتلها لانه عربي اراد ان تكون له وحده كما قتل عطيل ديدمونة وقال مبررا قتلها: لقد تعبت من مشاركة الفقراء لي بها.
وعن المقابسات الشكسبيرية الاخرى، التصورات النهرية: جاء في الملاحظات ان الانهار عند شكسبير رمزا للموت، وتقتبس من الرواية، الطائر يا مصطفى سعيد وقع في الشرك، النيل ذلك الافعى قد فاز بضحية جديدة، اود ان اوضح ان هنا تعبيران، الاول الطائر وقع في الشرك يعني ان مصطفى سعيد فاز بضحية جنسية جديدة، والثاني ان مصطفى سعيد هو النهر او النيل والمعنى هنا لايجنح للموت بقدر ما يجنح للجنس، فليس مصطفى سعيد اله تقدم له العذارى اتقاء الفيضان او خوفا من انتقامه وهذه هي لغة الطيب صالح في روايته، واني اسال، هل كانت الشاعرة الشعبية (فدعة) المعروفة في جنوب العراق وهي لا تعرف القراءة والكتابة متاثرة بما كتبه شكسبير في مسرحية مكبث ؟حين قالت تصف معركة اقاربها وعشيرتها:
يخوضون خوض الماي بالدم
والشاف عركتهم تندم
او هل كان الشاعر البدوي في شمال العراق في منطقة سنجار متاثرا بما كتب شكسبير حين عزف على الرباب وانشد قصيدة وصف بها معركة وقعت بين عشيرتين؟ منها:
عفية البو وتيوت سيلوا سنجار بدم
وعجزت السواق من نقل الزلم
اما
اما ان الطيب صالح تصورا فلسفيا للتاريخ خاص جدا، وهذا اعطى الرواية بعدا جغرافيا وعمقا تاريخيا في اعماق النفس، فاني أرى ان الطيب صالح لم يتطرق الى هذه الناحية ولم يكن له تصورا فلسفيا للتاريخ لكن له نظرة انسانية شمولية يرى فيها ان البشر سواسية في أي مكان من العالم، وان العدل يجب ان يسود وان لا يكون هناك غالب ولا مغلوب، كما انه لا يؤمن بعامل واحد يتحكم في بني البشر، يؤثر على نفسياتهم واوضاعهم، بل هو يروج للرأي القائل ان جميع العوامل مجتمعة هي التي تؤثر على الانسان وتكوينه (العامل الاقتصادي، العامل الجنسي، العامل النفسي، العامل الجغرافي، العامل الديني، العامل الاجتماعي، العامل الثقافي، عوامل الوزانة الداخلية، عوامل الوراثة الخارجية)وغيرها من العوامل الاخرى، لكن يجب أن توجه هذه العوامل مجتمعة عبر طريق العلم والدراسة الانسان لخدمة اخوانه من بني البشر، وليس استعبادهم ونهب خيراتهم. وعن فشل الأوروبيين في صناعة انسان شبيه لهم من بلدان اخرى، فاقول انهم فشلوا في تغيير عامل واحد من العوامل المؤثرة في الإنسان وجعله مشابها لما يعتنقون وهذا ما ذكر عن حملات التبشير التي كانت تاتي الى جنوب العراق في بداية القرن الماضي، فقد كان المبشرون يجمعون الناس ويقدموا لهم المساعدات ويلقوا عليهم المواعظ لتنصيرهم واقناعهم بترك ديانتهم الاصلية الإسلام، واعتناقهم الديانة المسيحية، وبعد انتهاء الموعظة كان المجتمعون يرددون بصوت واحد (صلوات الله على محمد وعلى آل محمد).
، وعن تعبير يا سادتي على لسان الشخصية الثانية في الرواية (الراوية)اصبح صوتا تاريخيا فاقول: ان من يكتب لا يكتب لنفسه وإنما يكتب لنفسه وللاخرين، واورد ما قاله غيري (ان تقييم الرواية العربية بمقدار ما تحقق من تصور للواقع العربي المعاصر من تناقضاته واتجاهاته المتضاربة)، وعن تشبيه الرواية بالنخلة رمزا للأرض وغيرها من الرموز، وان الطيب صالح وضع هيكل الفلسفة التي بنيت عليها الرواية وما تلك الفلسفة الا موقف من الماضي، فاقول: أن هذا التحليل لا يستند على دليل، لكن الطيب صالح كتب عن بيئة احبها وعرف شخصياتها وصورها ورسمها بلغة عربية رائعة، ولم يكن له فلسفة أو موقف من الماضي فهو لا زال مقيما في الغرب يمارس نشاطه هناك، واما ما ذكر ان مصطفى سعيد مخلوق طورت مواصفاته في مختبر انكليزي حسب مواصفات خاصة، فهذا راي مخالف لما جاء في الرواية لان قتل مصطفى سعيد جين مورس وما شهد به زوج ايزابيلا سيمور في المحكمة يبين خطأ هذا الرأي وعدم صحته.
يرد في الملاحظات مقطع مقتبس من الرواية يعلق عليه: في المقطع مفاتيح لا تفتح للاسف أي باب من ابواب شخصية مصطفى سعيد، واود ان اسال اليس المجتمعات العربية مجتمعات ذكورية وان المرأة فيها ظل للرجل؟
وهل ننسى زوجة محمد عبد الجواد فيما كتبه الراحل نجيب محفوظ ؟، واما ما ذكر لو أن الرواية درست دراسة سياسية لكشفت عن ثراء عميق وانها رواية ذهنية، فاني اوضح هنا ان الرواية لم تكن رواية سياسية بالدرجة الاولى، لكنها رواية اجتماعية نفسية تحمل في طياتها لمحات سياسية، اما انها رواية ذهنية فاريد ان اذكر بما قام به استاذ عراقي تخرج في اكسفورد، ورجع الى العراق في اواخر السبعينات من هذا القرن بصحبة زوجته الانكليزية التي عينت مدرسة في كلية اللغات في بغداد حين قام بقتلها وحكم عليه بالسجن، واعتقد ان الكثير من العراقيين يعرفون ذلك. اما ان الرواية لا تاتي بهذه الموهبة لو كان مؤلفها احادي اللغة والثقافة، فاقول ان كتبة الرواية العربية المميزة امثال نجيب محفوظ، عبد الرحمن منيف، جبرا ابراهيم جبرا، حليم بركات، الياس خوري، حنا مينا، الطاهر وطار، سهيل ادريس، رشيد بو جدرة، صنع الله ابراهيم، فضيلة الفاروق وغيرهم كانوا يتقنون لغة ثانية ومطلعون على ثقافات اخرى، لكن لا بد لي ان اذكر ما قاله الروائي الجزائري رشيد بوجدرةفي مقابلة اجريت معه ان للقران الكريم وألف ليلة وليلة اثرا كبيرا في كتابة رواياته إضافة الى الثقافات الاخرى.
وعن المقابسات الاجنبية حول حاسة السمع فاقول: ان العرب اشتهروا منذ القدم بحفظ الشعر والأنساب وتدريب الاصوات على الغناء، ولا اريد ان استشهد بكتب التراث العربي لكني أقول ان تحفيظ القران وتعليم التلاوة واصول التجويد كان يتم عن طريق السماع ولا زال يتم لمكفوفي البصر، كما أن حفظ المقام العراقي وانتقاله من جيل إلى جيل حتى وصل إلينا كان عن طريق السماع، وقصة الشاعر أبو العلاء المعري وحفظه ما قاله من جاء يسال عن جاره بالفارسية وإبلاغ جاره لما قاله السائل معروفة، ولا اريد أن استشهد بشواهد اخرى لكن لا بد لي من ذكر ما قاله الشاعر بشار ابن برد وهو مكفوف البصر لإعطاء صورة واضحة:
يا قوم اذني لبعض الحي عاشقة والاذن تعشق قبل العين احيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم الاذن كالعين تعطي القلب ما كانا
كما ان عرب الصحراء يميزون اصوات الحيوانات المختلفة ويعرفونها ويعرفون القادم من وقع خطاه، كذلك أهل القرى يعرفون اصوات الطيور وصوت الريح وحفيف الشجر وصوت الماء في وقت الفيضان وخرير الماء في السواقي واصوات الحيوانات المختلفة واصوات الرجال والنساء ويميزونهم عند سماعها قبل رؤية أصحابها. أما عن حاسة الشم فان العرب على معرفة تامة بها منذ القدم وما قاله حسان ابن ثابت مادحا إلا تأكيدا لذلك:
بيض الوجوه كريمة انسابهم شم الانوف من الطراز الاول وقول بن الملوح
تنسم من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار
كما ان الزوج يعرف رائحة زوجته ورائحة ملابسها، ويقال ان الدراسات الحديثة وجدت ان ما يشد الطفل الى أمه بعد الولادة رائحتها، وان التزاوج بين الحيوانات المختلفة يتم عن طريق الشم خاصة الكلاب، وان للأشجار روائح تختلف عن بعضها البعض كما هي في الأزهار، وللحقل رائحة مميزة حين يسقى بالماء وللارض رائحة خاصة عند سقوط المطر. اما ان تنوب حاسة الذوق في الأدب العربي عن حاسة الشم، من قبل (( تذوقون العذاب))فان الذوق هنا لا يعني حاسة الذوق بل يعني حاسة اللمس لقوله تعالى في سورة النساء ((ان الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ان الله كان عزيزا حكيما)).
اما عن لوحات الطيب صالح ورسم صوره بالكلمات فهي معروفة ومألوفة لمن عاش في الريف وسلك طريقا في الصحراء مسافرا ليلا او نهارا، واني لا انفي ان الطيب صالح استفاد من التكنلوجيا الحدثة في السينما تصويرا واخراجا وتقطيعا في كتابة روايته، لكن عبقرية الطيب صالح تبرز في استعمال اللغة وتطويعها بنقل ما يراه ويشمه ويسمعه وما يحس به بدقة، واختم مقالي بما قاله الراحل جبرا ابراهيم جبرا في مقابلة اجريت معه ومع الراحل الدكتور عبد الرحمن منيف حول مستقبل الرواية العربية نشرت في العدد السابع من مجلة آفاق عربية في آذار 1977 حين قال ماجد السامرائي الذي اجرى المقابلة بعد اجابة الاستاذ جبرا (هنا نستطيع القول ان الرواية هي بمثابة خبرة كاتبها في الحياة وفي الثقافة)، فاجاب الاستاذ جبرا (لا الرواية ليست خلاصة خبرة كاتبها فحسب... وانما هي خبرة من خبر الحياة اولا، لكنه ايضا اوتي موهبة هائلة، فاذا لم تكن هنا ك موهبة لن يكون ثمة فن، مهما اشتدت خبرة الكاتب في الحياة وفي الثقافة).