ثقافات

ايرنست يونغر: الجندي الأزلي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

صالح كاظم من برلين: لتجنب الإلتباس أذكر في البداية بأن الكتابة عن أيرنست يونغر يمكن أن تكون مزلقا يضع المرء بلا سابق إنذار في مواجهة الأقلام اليسارية التي كانت ومازالت تسبغ على هذا الكاتب العبقري، أحد حاملي ذاكرة القرن العشرين، العديد من التهم، ربما كان لها مايبررها في كتاباته، أكثرها إنتشارا هي كونه قد مهد بأعماله التي يرى فيها البعض "تمجيدا" للحرب ولظهور النازية بنزعتها الإنتقامية التي فرضت هيمنتها على ألمانيا بعد سنة 1933، ذلك رغم ما عرف عنه طيلة حياته من رفض تام لأي تقارب مع الحزب النازي، رافضا ما عرض عليه من مغريات، متجاهلا الإعجاب الشديد الذي أبداه غوبلز، وهتلر لاحقا بعمله الأساسي حول الحرب العالمية الأولى "في رعود الفولاذ"، ذلك العمل الذي قال عنه الكاتب الفرنسي أندريه جيد: "لا شك بأن هذا أجمل ما كتب عن الحرب، فهو يمتلك مصداقية عالية، ويحتوي على وصف حقيقي وصريح لما جرى." بهذا يكون أندريه جيد من اوائل الكتاب الذين أكتشفوا الطاقة الجبارة لهذا العمل في الكشفعن الجانب المدمر للحرب، دون منطلقات إيديولوجية، وأنما من قلب الحدث، ربما بشيء من الإنبهار. وهذا بالذات هو ما يميز أعمال أيرنست يونغر عن الحرب عن شبيهاتها مثل "كل شيء هادئ في الجبهة الغربية" لأريش ماريا ريمارك (1898-1970)، حيث يؤثر الحس المأساوي للكاتب على مجرى الأحداث ليمس بذلك مشاعر القاريء، موجها إياها بشكل قصدي في إتجاه رفض الحروب من خلال إبراز الجوانب المدمرة فيها وتأطيرها إيديولوجيا، وينطبق هذا بشكل أو بآخر على أعمال أخرى كتبت عن الحرب العالمية الأولى من ضمنها "التربية أمام فيردون" لآرنولد زفايغ (1887-1968) و"النار" للكاتب الفرنسي هنري باربوس (1873-1935) مع إختلاف مضامينها وأدواتها الفنية في معالجة الموضوع. ولاشك بأن كل من هؤلاء الكتاب عاش ويلات الحرب وتمكن من وضع أصبعه على موقع الجرح، إلا أن أيرنست يونغر دخل الحرب مزودا بمِبضَع جراح وعيني صقر وفضول طفل لا يكتفي بما يراه على السطح ولا يكف عن طرح التساؤلات "كنت أعرف أن ما سيحدث لن يتكرر، لذا أتجهت نحوه بفضول كبير.". ولكونه لم يعتمد على الذاكرة في كتاباته، وإنما على مذكراته التي كان يدونها يوميا وسط نيران المعارك، تميزت كتاباته بمقدار عال من المصداقية وبموضوعية مذهلة، تضع القاريء في موقع المتفرج الذي يقف على حافة الهاوية بمواجهة جثث ممزقة وخراب شامل، شظايا قنابل ودماء تسيل وسط الأوساخ، محاولا الا يفقد توازنه. ومما يتفق عليه النقاد هو كون يونغر وليد المدرسة التعبيرية الألمانية التي تميزت بوضوح وحدة التعبير اللغوي والإبتعاد عن النزعات التجميلية بإتجاه موضعة اللا مألوف والقبح والمرض وتوظيفها شعريا وكتابيا، وكذلك في مجال الرسم. لذلك فأن ظاهرة الإنبهار بالحرب لم تقتصر على يونغر، بل شملت عددا كبيره من كتاب جيله، ممن وجدوا في الحرب فرصة لكسر الطوق الإجتماعي وخوض مغامرة المواجهة مع الموت في أكثر صوره جذرية "شدتنا الحرب اليها مثل مادة مخدرة". الأمر المميز لدى أيرنست يونغر هو كونه، على العكس من كتاب وفنانين آخرين، لم يتخل عن تحمسه للحرب، بل واصل الكتابة عنها لاحقا من منطلق إيديولوجي قومي، جعله يصبح قريبا من "القوميين البلاشفة" بقيادة إيرنست نيكش (1889-1967)- عاش لاحقا في المانيا وكان لحد سنة 1953 عضوا في المكتب السياسي للحزب الإشتراكي الألماني الموحد- الذين رفضوا نتائج إتفاقية فرساي، معبرين في الوقت نفسه عن إعجابهم بالنهج الثوري الإجتماعي للبلاشفة الروس. ونتيجة لهذا التقارب كتب يونغر كتابه الذي يمكن إعتباره بيانا فكريا حول شكل السلطة المقبلة في نظام طوباوي نخبوي "العامل. السلطة وتكوينها". وربما كان هذا الكتاب، الى جانب وضوحه في تصوير الآثار المدمرة للحرب، هو الذي جذب أنظار اليساريين إليه وجعلهم يسعون لجذبه إليهم، رغم معرفتهم لرفضه القاطع لجمهورية فايماروأعتزازه بـ "وسام التقدير"، الذي منحه إياه القيصر الألماني ولهلم الثاني، تقديرا لشجاعته أثناء الحرب التي أصيب خلالها 14 إصابة. في كل هذا، ووسط كافة التحولات التاريخية بعد الحرب الكونية الأولي، وفيما بعد بقي إيرنست يونغرمتماثلا مع نفسه، ممتنعا عن خيانتها من خلال تقديم التنازلات لهذا الطرف أو ذاك، رغبة في سلطة أو مال. وليس من المستبعد أن يكون هذا الموقف هو الذي أنقذه من الوقوع في براثن النازية، علما بأن هتلر كان قد أهداه نسخة من "كفاحي" مقابل نسخة من "في رعود الفولاذ". ومن المعروف أن حزب العمال الإشتراكي القومي الألماني NSDAPكان قد عرض على يونغر قبل وبعد إستلامه السلطة في ألمانيا الإلتحاق بكتلته البرلمانية في الرايخشتاغ، غير أن يونغر رفض ذلك. هذا يعني أن إنبهار يونغر بالعسكرتارية والحرب ورفضه لإتفاقية فرساي لم تؤد به الى التخلي عن قناعاته النخبوية ومنح صوته لهذا الحزب الذي أوصل المانيا الى الكارثة. وعلى العكس من غوتفريد بين (1886-1956) الذي أنجذب بدءا للدعاية النازية وكتب العديد من المقالات ترويجا لـ"النظام الجديد" ولـ"الثورة المحافظة" واصل يونغر نهجه السياسي دون أن يدخل في اللعبة السياسية المحيطة به، ولم يجرؤ النازيون من جهة أخرى على ملاحقته بشكل مباشر لإرتباط إسمه بالعديد من بطولات الحرب العالمية الأولى وعلاقاته بكادرها العسكري الذي دخل في تحالف مع الحزب النازي، إلا أن قناعاته بأهداف هذا الحزب بقيت مضعضة وأنتهت بمحاولة إغتيال هتلر من قبل كلاوس شينك غراف فون شتاوفنبرغ (1917- 1944) ورفاقه في 20 تموز 1944. ويمكن أن نجد في الرسائل المتبادلة بين شتاوفنبرغ ويونغر العديد من الإشارات الدالة على رفض النظام النازي والعمل على إيجاد بدائل عنه. ومن الجدير بالذكر أن يونغرتخلى منذ إستلام النازيين للسلطة في المانيا تدريجيا عن الكتابة في المجالات السياسية وأنصرف بشكل كلي للكتابة الإبداعية، وبشكل خاص بعد تفتيش بيته من قبل الشرطة السرية بسبب علاقاته مع الشيوعيين والبلاشفة القوميين. غير أن دلائل هذا التحول بدأت تتبلور في العام 1929، وذلك في مجموعة "القلب المغامر"، التي تبدو عليها بصمات السريالية. وربما كانت النصوص النثرية التي أحتواها هذا الكتاب تشكل مدخلا لحكايته التي صدرت في العام 1939 "فوق منحدرات المرمر" ، وهي حكاية أعتبرها الكثير من النقاد تتويجا واضحا لمعارضة يونغر للنظام الفاشي، إذ وجد فيها إدانة مبطنة لمعسكرات الإعتقال النازية وللممارسات الدموية لهذا النظام. كما أن هناك من أعتبرها ضمن أعمال المقاومة، ذلك رغم تأكيدات الكاتب بأنه لم يكتب هذا العمل لغرض سياسي، بل قال عنه "أنه حذاء يتناسب مع كل قدم"، متجاهلا ما ورد فيه من إشارات للواقع الألماني في تلك الفترة.
لا شك أن السلوك الأرستقراطي المتعالي ليونغر جعله موضع شك بالنسبة للحزب الحاكم، إلا أن أجهزة السلطة لم تجد ما يكفي من المبررات لمنعه من الإلتحاق مرة أخرى بالجيش الألماني بدرجة نقيب، و نقله الى فرنسا ضمن طاقم قيادة العمليات هناك. وما زالت مذكراته التي كتبت خلال هذه الفترة تعتبر من أهم الشهادات المكتوبة من وجهة نظر غير نازية عن الحرب العالمية الثانية. أثناء وجوده في فرنسا تخلى عن آخر ما كان يربطه بالتوجهات القومية الألمانية وهو العداء للسامية، فكتب في مذكراته ما يلي: "في الشارع الباريسي المعروف رويال رأيت لأول مرة في حياتي النجمة الصفراء (نجمة داوود، كانت توضع خلال الحكم النازي على صدور اليهود لتمييزهم عن غيرهم) تحملها ثلاث فتيات. بعد الظهر رأيت عددا كبيرا من الناس يحملون هذه النجمة. أعتقد أن هذه التجربة تشكل نقطة تحول هامة في حياة كل فرد. وآثار هذا المشهد تبقى في الذاكرة. أثناء ذلك شعرت بالخجل لكوني أرتدي بزة عسكرية." في العام 1944، وبعد تصفية قادة التمرد ضد هتلر، كتب يونغر رسالته الموجهة الى الشبيبة الأوربية تحت عنوان: "السلام"، يدعو فيها الى إقامة نظام أوربي قائم على مباديء التعاون السلمي بين بلدان القارة. على إثر ذلك تم تجريده من رتبته العسكرية، فعاد الى ألمانيا. بعد تحرير ألمانيا من الفاشية، وجد يونغر نفسه في القطاع البريطاني من مدينته، ونتيجة لإصراره على عدم ملء الإستمارات المتعلقة بـ"تصفية الذهنية الألمانية من الفكر النازي" منعته سلطات الإحتلال من النشر لمدة ثلاث سنوات. أن موقف يونغر هذا، جاء نتيجة لقناعاته النخبوية الأرستقراطية الراسخة من جهة، ولرفضه الإندراج في صفوف من يشك بإرتباطاتهم الفكرية مع النازيين من جهة أخرى، ذلك إضافة الى قناعاته القومية، المعادية للديمقراطية ذات الطابع الغيبي المعادي لفكر "التنوير" التي لم يكن قد تخلى عنها حتى ذلك الوقت.
في إطار هذا الخطاب مازال يونغر يشكل للكثير من الباحثين والنقاد لغزا يصعب الإلمام بكافة جوانب حياته وإبداعه الأدبي والفكري. وربما يمكن البحث عن مفتاح هذا اللغز في واحد من أعماله المنشورة بعد الحرب الكونية الأولى، ألا وهو "العاب أفريقية" -1936، الذي يعالج فيه مرحلة مهمة في تكوين وعي الكاتب، ألا وهي مرحلة شبابه، حيث كان يحلم كمراهق بكسر طوق العائلة والمدينة والبلد، متجاوزا كل الحدود،حالما بخوض مغامرة الحياة، بعيدا عن المخاوف الضيقة، في أفريقيا، التي ترسخت في ذاكرته من خلال قرائاته "اللا مدرسية" لما كتب عن هذه القارة الغريبة، وكذلك عن الشرق واجوائه الساحرة: تلك التي تعرف عليها في "الف ليلة وليلة" وكتابات المستشرقين الألمان. "ما أعجب هذا الحدث الذي يتجلى في إستيلاء الخيال، مثل حمى جاءت من بعيد على حياتنا لتعشش فيها وتزداد توقدا وعمقا. وفي النهاية يبدو لنا هذا الخيال هو الحقيقة، أما الحدث اليومي فيبدو مثل حلم، نتحرك فيه بلا رغبة، مثل ممثل لا يعي دوره. بعد هذا تأتي تلك اللحظة التي يهيمن فيها الملل المتزايد على العقل ويوجهه بإتجاه البحث عن مخرج."
مسلحا بهذا الحلم، يوجه التلميذ "بيرغر" كل جهده لـ "الهرب" الى قارة أخرى، قارة مشرقة، لا تغيب عنها الشمس. "ذات يوم أصبح واضحا بالنسبة لي أن الجنة المفقودة تقع في المنطقة التي يتقاطع فيها النيل مع نهر الكونغو." الخطوة الأولى للوصول الى هذه الجنة المفقودة هي أن يتجاوز المرء مخاوفه وشكوكه. وهذا ليس بالأمر السهل، إذ أن هناك في دواخل كل فرد عقبات، يجب تطويعها لبلوغ الهدف: "كنت أنا أشد أعدائي، إذ كنت شابا يحب الإنصرافا ساعات متواصلة الى الكتب، مراقبا تحرك أبطاله وسط مناطق خطيرة، بدل الهرب وسط الليل والضباب ليقلدهم في أفعالهم."
في هذا الصراع الداخلي أنتصر المغامر، ودفع الكاتب الى مغامرته الأولى، إذ ألتحق بعد رحلة شاقة بـ "الفرقة الأجنبية" التابعة للجيش الفرنسي في شمال أفريقياحيث راحت الأحلام تتهاوى واحدة بعد الأخرى، ولم يتبق من "الجنة المفقودة" سوى التدريب العسكري العنيف، وتعسف الضباط الفرنسيين بحق الوافدين، إضافة لتفشي المخدرات والخمر بين الجنود، هنا تعرف الكاتب للمرة الأولى على الأفيون، وخصص لهذه التجربة صفحات عديدة من هذا الكتاب الذي يقع في 165 صفحة. أما الحلم الأفريقي فقد راح يفقد معالمه وسط الهيمنة الإستعمارية وقذارة الواقع البعيد عن رومانسية الغابات و أساطير "الف ليلة وليلة". بعد محاولتين فاشلتين للإفلات من قبضة "الفرقة الأجنبية" جرى إيداعه السجن، ولم يطلق سراحه إلا بعد تدخل أبيه ودفعه رشوات مرتفعة لقيادة الفرقة المذكورة.
ويمكن إعتبار "العاب أفريقية" رحلة أدبية في سايكولوجية المغامر، تضيء القلق المحيط بهذا الكيان، وتشخص بلا مساومة كافة جوانبه الوجودية، بلغة ذات طاقة تعبيرية عالية، تشد القاريء، وتضعه في قلب الحدث. فوق هذا جاء هذا الكتاب، تكملة، بل تتويجا لما كتبه يونغر عن الحرب العالمية الأولى، ومحاولة منه لإختتام هذا الجانب من عمله الإبداعي، للخوض - كما سنرى- في مجالات إبداعية أخرى، جعلته يقترب من السريالية "القلب المغامر" من جهة، ومن الرمزية "فوق منحدرات المرمر" - 1939، والكثير من الأعمال التي كتبها بعد الحرب العالمية الثانية ومنها "هيليوبوليس" 1949 و"أويميسفيل" 1977. وحيث إنني لست في مجال معالجة كافة أعمال يونغر التي يزيد عددها عن 55 عمل، بينها الرواية والسيرة الشخصية والدراسة واليوميات إضافة الى مقالاته السياسية، سأتطرق هنا بشيء من التفصيل الى عملين يمكن إعتبارهما نموذجيين لكتابات يونغر، بعد نهاية الحرب العالمية، وهي " هليوبوليس" -مدينة الشمس- و "أويميسفيل"، بإعتبارهما يعكسان بقوة الطاقة الفكرية والإبداعية لإيرنست يونغر في أكثر صورها تجليا. فوق هذا يمكن إعتبار هاتين الروايتين من نمط "ادب الخيال العلمي"، إذ أن أحداثهما تدور في المستقبل.
في "هليوبوليس" يتحدث الكاتب عن مدينة تخلى عنها حاكمها، بعد أن وجد نفسه عاجزا عن "تطويع شعبها"، فأنتقل الى الفضاء الخارجي، ليراقب الأحداث من هناك، مراقبا من موقعه إحتدام النزاع على السلطة بين "نائب القنصل" الذي يسكن في البلاط محاطا بمجموعة من العلماء والقادة العسكريين والباحثين، وبين وكيل الإقطاعي المقيم في بناية "إدارة شؤون المدينة" بمساعدة موظفين وإداريين ذوي طموحات محدودة، وهو يسعى معهم لبناء نظام دكتاتوري، يخضع لهيمنته ويلاحق الأقليات، التي يمثلها هنا من يطلق عليهم الكاتب تسمية الـ "بارس". الشخصية المركزية في العمل هي الفارس لوتشيا دي غير، الذي يضع في البدء نفسه في خدمة "نائب القنصل"، ثم ينفصل عنه في مجرى الأحداث لعدم قناعته بأسلوب تعامل قائده العسكري مع تلاميذ "المدرسة العسكرية"، إضافة لعدم إنسجامه معه :"ما يرفضه هو كوني في الحقيقة أمتلك عواطف، لا يمكنه الحكم عليها". وبعد أن يعثر في أحدى معاهد المدينة على مختبر تجرى فيه تجارب على البشر ودلائل على السعي لإنتاج أسلحة كيمياوية وبيولوجية مدمرة، يجد موقعه بعيدا عن كلا طرفي النزاع، بل غريبا عن سكان هذه المدينة. وتحتوي الرواية كذلك على إستطرادات تعيدنا الى برلين في القرن العشرين من خلال حكاية تجري أحداثها في هذه المدينة، ترويها إحدى شخصيات الرواية. وسط هذا الجو المليء بالإستطرادات الفكرية والأخلاقية حول السلطة والفرد، ومأزقه في إطار مجتمع يتجه تدريجيا نحو الشمولية، نجد أنفسنا أمام العديد من التساؤلات المطروحة من قبل الكاتب حول ملامح العالم المعاصر، في لوحة بانورامية، بعيدة عن السرد التقليدي، يمكن أن نجد فيها تأثيرات رواية "ترسترام شاندي" للكاتب الإنجليزي لورنس شتيرن (1713-1768)، التي تركت، لكونها لا تخضع لقوانين الرواية التقليدية، آثارها على العديد من كتاب القرن الماضي ومن ضمنهم جويس وبروست.
أما "أويميسفيل" التي تدور أحداثها في المستقبل أيضا، فتعتبر أيضا من ضمن روايات الخيال العلمي، وهي أيضا كسابقتها تتجاوز حدود هذا النمط الأدبي بفعل الإستطرادات الفكرية والثقافية التي تميزها، وتدخلنا من الباب الخلفي الى موضوعات حيوية، تمس كافة جوانب الحياة في القرن العشرين من موقع مثير للنقاش، حيث أن الشخصية الأساسية لهذه الرواية، المؤرخ مارتين فيناتور الذي يهرب من أحضان عائلته اللبرالية، ليضع نفسه كنادل في خدمة دكتاتور يحكم ولاية صغيرة تسمى "أويميسفيل"، حيث يعتقد أن قناعاتها اللبرالية لم تعد تتناسب مع روح العصر. في هذه المدينة المقسمة الى قطاع "الأنفاق أو المقابر"، حيث يقيم العلماء من مختلف أنحاء العالم، والـ "غابة"، التي تستوطنها مخلوقات أسطورية غريبة، وتشكل موضوع صراع بين الـ "خان الأزرق" و "الخان الأصفر"، تتغير الأنظمة بين وقت وآخر، فتحل أنظمة ديمقراطية محل أنظمة قمعية وكذا.. في هذا العالم المليء بالمفاجآت يكشف لنا أيرنست يونغر بطريقة هادئة الكيمياء الداخلية للأنظمة القمعية، ويدخلنا في حوارات فكرية عميقة تتعلق بالطبيعة الإنسانية وبتطور التقنية الحديثة التي كانت هي السبب في إنهيار "النظام العالمي الموحد" ونشوء الدويلات والدول الصغيرة المتنافسة فيما بينها، في هذا الإطار وعن طريق جهاز يسمى اللومينار، وهو عبارة عن جهاز يذكرنا بـ "ماكنة الزمن" لـ دي. جي. ويلز (1866-1946)، يتمكن مارتين من الإتصال بالمفكر الفوضوي ماكس شترنر (1806-1856) الذي يشرح له نظريته حول "الفرد وملكيته" في واحدة من حانات برلين في القرن التاسع عشر. بهذا يضع يونغر الخطوط العامة لقناعاته اللاحقة بالفوضوية في جوهرها الفردي البعيد عن هموم السلطة والتغيير السياسي، كما عبر عنها في العديد من أعماله اللاحقة. الإتصالات في أويميسفيل تتم عن طريق ما يسمى الـ "فونوفور"، وهو عبارة عن جهاز يذكرنا بـ "الموبايل"، علما بأن الرواية كتبت قبل أن يتم إكتشاف الموبايل.
كما نرى فأن إيرنست يونغر كان في مغامراته الفكرية والحياتية في أقصى حدود الجذرية، رافضا تسليم رقبته الى أي نظام كان ومصرا على البحث في أعماق الوجود. لذا فأنه ليس من المستغرب أن تجاربه الحياتية لم تقتصر على الحرب، بل شملت كذلك المخدرات، فكان من أوائل من جربوا الـ "أل أس دي" مع البيرت هوفمان الذي أكتشف هذا المخدر، وقد كتب، إضافة الى ما ورد في أعماله الأدبية، بحثا مفصلا عن تأثير المخدرات عنوانه: "محاولات للكشف. مخدرات ونشوة"، صدر في العام 1970.

ملاحظة ختامية: كانت كتابات إيرنست يونغر ممنوعة في ألمانيا الشرقية، لذلك لم أتعرف على كتاباته من خلال دراستي للأدب الألماني في جامعة لايبزغ، بل عن طريق الشاعر والكاتب المسرحي الألماني هاينر ملر (1929-1995) الذي أهداني مجموعة من أعمال يونغر، إضافة الى عدد من كتابات غوتفريد بين. ومن الطرائف التي رواها لي ملر هو أنه كان من ضمن الضيوف الذين أستقبلهم يونغر بمناسبة عيد ميلاده المئوي، وفوجيء بأن "هذا الشيخ العجوز" كان يقف أمام ضيوفه مستقيما، لم ترف له طرفة عين،مع أنه تناول كميات كبيرة من الشمبانيا، بل بقي محافظا على وعيه، حتى بعد أن سيطرت الخمر على حواس الضيوف.

في الحلقة المقبلة: مختارات مترجمة من "القلب المغامر"

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف