حسين مردان ثانية: كنتَ أنصفته، فسجّلتَ له وفاءً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كانت مقالةُعبدالقادر الجنابي عن الراحل حسين مردان وثيقة َعرفان وشهادة َوفاء لإنصافه وتكريم ذكراه في ذاكرتنا الكابية. ذلك أن من ديدننا نسيانَ أيّ عزيز علينا بعد وقت قصير من غيابه، حتى يعلوه الصدأ والطين. على الرغم من أنه أشعل حرائقه في كهنوت العتمات، وقدّم إبداعاً تنويرياً بلوره وكرّسه لمائدة المنجز الحداثي. بعد حين من الدهر نتذكر بعضهم لسببٍ ما. فلمَ لا نتذكر بلند الحيدري، وعبد المجيد لطفي وطه باقر وأدمون صبري، وعبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان ويوسف حداد البصري..؟ وآخرين لا تسعفني ذاكرتي الآفلة الآن على تذكرهم.
إذاً كانت إلتفاتة الأستاذ الجنابي وخزة لإيقاظ ضمائرنا من الغفلة والتصدع والعقوق، فقد أحسن صنعاً حين بدأ ب(حسين مردان) لا لكونه أحد موتى الإبداع وحسب، بل لأنه انتقى شخصية شعرية لم ينصفه الزمن ولا مجايلوه، وكان أن نُسج حوله إشاعاتٌ وتأويلات لم تخلُ من الغيرة والتجني والسخرية، فمردان كان إستثناءً طليعياً حداثوياً بكل ما ينطوي عليه المصطلح الحداثي من دلالات، إن أيّ مبدع يتخطى المفاهيم السائدة والجاهزة ليُرمى بالشطط والبوهيمية والجنون، وأحياناً بالإلحاد، فيّقمع صوته، ويُقطع دابره. فلمَ لا نذكر سوءات منْ كان يفقد صحوته ويصعد على مائدة الشراب في حانات ابي نواس ويفعلُ الأفاعيل ممّا لم يُنزلْ به من سلطان، ومنهم منْ كان يبلّلُ سرواله عندما يغشاه السكرُ،ويوزع الشتائم يميناً ويساراً وذاكرة نادي أتحاد الأدباء متخمة بمثل هذه الصور، كان المجتمع الثقافي، أيامئذٍ،يُغمض عينيه عن أُولئك، وحسين مردان كان في نظرهم أخرقَ عبثيّاً لا ضابط يكبحه، وأيامنا الماضيات لشاهدة على أن كلّ مبدع يشقّ طريقه بإمتياز وجدارة، ويتمرّد على اليومي المعتاد وما تواضعت عليه الذائقة العادية هو ملعون ينبغي له أن يُرجم ويُقصى ويُصفى. وتأريخ الإبداغ ملغوم بقصص فاجعة أُهدرَ فيه دم المبدع المستقبلي الإيقاع، وتأريخنا العربي أسوأ من سواه، وليس ببعيد عن أذهاننا مصير إبن المقفع وبشار بن برد والحلاج، على سبيل المثال، ومحاولة تلطيخ سيرة طرفة بن العبد وابي نواس وأبي تمام. فهؤلاء تجاوزوا ما هو سائد ومألوف في زمانهم. واستشرفوا المستقبل بما ينطوي عليه من رؤى حداثوية. ومثلُ ما حدث لهؤلاء ابتلى به مبدعو الغرب مثل: بودلير ورامبو ولوتريامون، ومايكوفسكي وباسترناك.. في الغرب طوّعتِ الحرية، التي حظي بها الغربيون بعد كفاح دموي مديد، هذا الخلل وأسكتت صوتَ الرقيب وأهل السلف، فيما ظلتِ الحال عندنا موغلة في القمع والإقصاء، وعمّقتِ السلطةُ السياسية مناخاً خصباً لقطع الطريق على الحداثة وروّادها. فالمبدع الطليعي غير معنيٍ بموائد السلطة وإغراءاتها المبهرجة. إنه خارج زمنه، منفصل عن ماديته، يُحلقُ على علوٍ رؤيوي حلمي، يلامس الذراري، بل يتنفس نبض المجرات. وحين يعود، يجيُْ بخزين إبداعي من الدهشة لا قبلَ لنا به. لذلك يُرمون من لدن منْ لايفهمونهم بالجنون والشطط، الشاعر المجنح بطاقة العبقرية غير آبهٍ بمغريات الحياة، لذلك لا يُعنى بمظهره وملبسه وطعامه، وبقيم ِ ِ زمانه، من هذا المنطلق يتعرض لرجم الألسنة والهمز واللمز والشتم والإهانة،أيحقُ لنا أن نرجم الشاعر الطليعي باللعنة، أمْ نرفع قبعاتنا وننحني له تجلة، اليس من حقنا أن نحييَ (حسين مردان) ونتذكره حين يقول: وعلى ضوء هلال أخضر سيأتي صوتُ قدميها/ إن جبيني يلمسُ ارجل الوعل/ فوق المصباح الشاحب يقفُ العصفور الأسود/إن البحر وراء الشارع/ هكذا شربنا السروال في كازينو بلقيس/."هذه الفقرات مستلة من مقالة الأستاذ الجنابي".
أتذكر أن مثقفين من اليمين واليسار كانوا يتندرون في مجالسهم بشعره وينسجون حوله النكت والطرائف غير المبرأة من الوغر والحسد، كان اليسار يريد من الشاعر أدباً ملتزماً أشبه بالمنشور الحزبي، واليمين يطالبه بنص يؤكد على القيم والمباديْ التي تتماشى مع مناهجها، أذكر أننا كنا، في درس النقد أيام التلمذة الجامعية، ندرس الفن للفن، والفن للجماهير، فسألتُ أُستاذي : إذا كنتم تريدون حقاً ادباً جماهيرياً فلمَ تدرّسوننا الأدب الجاهلي وعمر بن أبي ربيعة ؟. ينبغي أن يُلغى عمر أبو ريشه وبشارة الخوري وجبران من المناهج الدراسية؟. ضحك أستاذي وردّ ببسمته المعهودة، نحن ملتزمون بالمنهج وحسب. وأذكر، أيضاً، أن مدرّس العربية طلب منا في الخامس الأعدادي أن نحفظ مقطعاً لشاعر نختاره، أيّ شاعر، فقرأ زملائي قصائد لمنْ وقع عليه إختيارهم، وحين جاء دوري بدأتُ اقرأ له قصيدة الفيتوري، وقد نشرت ْأيامئذٍ في إحدى المجلات الأدبية: أيّها السائقُ رفقاً بالخيول المتعبة، قف ْ، فقد أضنى حديدُ السرج الرقبة/ آملاً أن يكون ما بقي في واعيتي صحيحاً، فأوقفني المدرّس عن القراءة ودفعني بعيداً، فقال هذه من الترهات وليس شعراً. قلتُ في نفسي : إذا لم يكن شعراً فلمَ نشرته هذه المجلة الأدبية العريقة ؟؛.
لم تقتصر عدوانية السلطة والتقليديين على حسين مردان وحدَه بل تعدته الى كوكبة من مبدعي العراق شعراء وقصاصين وتشكيليين وموسيقيين، ومسرحيين. ممن تجاوزوا الخطوط الحمراء وما تعوّدت عليه ذائقة الناس. وليس خافياً على أحد ماتعرض له من ضغوط نفسية وقمعية مبدعون أمثال: سركون بولص والجنابي وفاضل العزاوي وغائب طعمة فرمان وصلاح نيازي وجليل القيسي وغيرهم. وجرت محاولات ٌلإقصائهم سراً وإعلاناً، كان هؤلاء أقوياء، لم تفت تلك المحاولات من شكيمتم، آثر أغلبهم الهجرة، بعضهم وجدوا في المنافي آفاقاً رحبة أضاءت لهم سبلاً للإبداع والتفوّق، فذاع صيتهم وانتشر إبداعهم، بل بزّوا مبدعي الغرب في كتاباتهم،وترجمت أعمالهم الى لغات عالمية عدة. وبعض مبدعينا ظلوا في الوطن على الرغم مما حاق بهم من عسف ومضايقة،فلم تسعفهم الظروف على الهجرة لأسباب عائلية واقتصادية وغيرها. لكنهم ظلوا أقوياء مخلصين لفنهم، كما لا يمكن أن ننسى قوافل الهجرة أواخر السبعينيات ومبتدأ الثمانينيات من القرن الماضي. بعضُ هؤلاء حظوا بدعم الأحزاب التي كانوا ينتمون اليها، بدءاً توقفوا في محطات مثل كردستان وسوريا ولبنان واليمن الجنوبي والمغرب والجزائر، ثم انتقلوا الى بلدان أوروبية.
ان محاربة المبدع لا تقتصر على بلد كالعراق وحده، بل القمع يلاحق كل المبدعين في أرجاء الوطن العربي، ولمّا يزالوا مضطهدين حتى هذه اللحظة، ولا سيما في البلدان التي تدعي الإنفتاح على جميع الأطياف، وما قصة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي ببعيدة عنا. حيث كان موقف السلطة متسماً باللامبالاة والميوعة. لا أدري لمَ يخاف حكامنا من النقد، الا يأخذون العبر من رؤساء الحكومات في الغرب؟. فلم يستطع نقد أو شتم أو تظاهرة من إسقاط أيّّ حاكم، سوى استثناءات قليلة حين يتحدى أحدهم الأعراف والتقاليد الديمقراطية مثلما حدث ل(بلير) في بريطانيا. إن الذين يتصدون لأيّ مبدعٍ طليعي يائسون ومحبطون مثلُهم كمثل من ْيحاول إلإمساك بوميض الصاعقة، فقد تغيّر الزمنُ، فلا يُشبه يومُنا أمسَنا المنقضي، ألم يكن الرسل ُ والمصلحون حداثويين طليعيين،انتصروا في إحداث التغيير، مع شديد المعذرة للمقارنة، فغيّروا مناهج الحياة إقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعلى صعيد الإيمان بالخالق ووحدانيته، لكن الفنَ يتوخى تغييرَالقيم الجمالية و الذاتية والنظر الى الحياة من زاوية المخيلة والحلم. وهذا ما يصبو إليه الشاعر والكاتب والفيلسوف والرسام والموسيقي، بعض هؤلاء دفعوا حياتهم من أجل ترسيخ مواقفهم ورؤاهم التنويرية، وآخرون جُوّعوا وشردوا، مع ذلك يبقى حسين مردان بصمة ًلامعة في مسيرة الشعر العراقي لم يقوّم ْشعره بحياد وموضوعية بعدُ، فله إيقاعه، ونبرته التي قد لا ترضي فريقاً من الناس، لكنه سيظل قريباً من النفس الشعري الحداثوي، الذي رمى شباكه فيه وحظيَ ببعض غنيمته، ورائداً من روّاد قصيدة النثر. آملاً أن ينبري معاصروه لإنصافه،وإنصاف غيره ممن غيّبهم النقد الذي كان ولا يزال يلهث ًوراء السراب والريح، ويحرث في اليباب. فنحنُ في حاجة الى تبيان الحقيقة، وتقويم المبدعين، من أية شريحة كانوا ومن أي معين إغترفوا، برؤية موضوعية مقرونة بالمحبة والتسامح والحق.حسبُهم أنهم عراقيون، ولا أحدَ منهم سلم من بطش السلطة و أخطاء قيادات الأطياف السياسية بلا إستثناء، على مديات القرن الماضي بعهديه الملكي والجمهوري.
شكراً لعبد القادر الجنابي الذي يُرسي بذائقتنا على ضفاف المستور والمنسي، فيُسمعُ منْ به صممٌ، ويذكّرنا بغفلتنا ونحن نتعثر ونتخبط في تقويم موتانا المبدعين في هذا الزمن الذي ليس فيه أبخس من الإنسان، ومن دمه الذي يُهرق ويُحرقُ إصباحاً وإمساء، في وطن ٍ أزهر على تِربه ِزهوُنا الحضاري، وبات الآن مقبرة تبتلع كلّ منجزٍ طليعي أينع على حواشي دجلة والفرات وما بينهما من سهل وجبل.