ثقافات

مناجاة الليدي مكبث الثانية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الليدي مكبث في المشهد الخامس - الفصل الأول، إحدى شخصيّتيْن أساسيّتيْن. هي هنا "نموذج للمرأة المتسلطة الطموح".
المناجاة الأولى يقول جيْ. بي. Harrison:"يبدو شيكسبير في هذا المشهد وهو في أفضل مواهبه تأليفاً، حيث تمكّن من خلْق شخصيّتيْن مرةً واحدةً وعلى فمِ شخصٍ واحد، أثناء ما تكشف الليدي مكبث عن نفسها ساعة التعليق على زوجها:" رجل طافح تماماً بحليب الطيبة الإنسانية، طموح إلاّ أنه متردد، مستقيم لأنّه يخاف من العقاب، لا لأنّه يحب الخير".
بالمقابل، ظهر مكبث أمامها في المشاهد الأولى "كتلة من طينٍ نديّ بين يديّ آمراةٍ، ستشحن نفسها حتى الثمالة بقسوة صريحة عن طواعية وآبتهاج".
يعتقد هارسون كذلك أنّ مناجاة الليدي مكبث الثانية تعدل في جودتها جودة كلّ الصور الشيكسبيرية المعقّدة المروّعة الغامرة".
رأينا كيف آنقطعت مناجاة الليدي مكبث الأولى، بمجئ رسول الملك ليخبرها بقدوم الملك ومكبث. "بعد ذلك بخمسة وعشرين سطراً يدخل مكبث. آشتدّ أوار التوقعات، وآستمرّ خلال المناجاة الثانية التي تنحو منحى جدياً. الليدي مكبث تلتفت بعزم الآن إلى نفسها فقط.
يقول Wolfgang Clemens عن الآختلاف بين المناجاة الأولى والثانية:"تبدأ المناجاة الأولى برسالة نثرية، ثمّ تنتقل إلى شعر حرّ في الحوار مع شريكها الغائب مكبث. الشعر المرِن يحمل سمةَ ذهنية حادّة، وسمة تحوّلٍ عملي في الفكر، وهاتان السمتان تتحسّبان عاقبة الأمور، وتحلّلان الوضع بتروٍّ... في هذه المناجاة الثانية، عالم مختلف كلّ الآختلاف. عالم مشحون بصورٍ شعرية رمزية لفعل شيطاني باطني، وبكلمات وعبارات موحية لإثارة الخيال. تبدأ المناجاة الثانية وتنتهي بجوّ من ليل ورعب مشؤوميْن مع صرخات حيوانية وزعقات خوف".
ذكرنا أنّ المناجاة الأولى آنقطعتْ بمجئ رسول، ليخبر الليدي مكبث بمقدم الملك ومكبث، فيدور بينهما الحوار التالي:
الليدي مكبث: ما الأخبار التي جئتَ بها؟
الرسول: الملك يأتي إلى هنا الليلة
الليدي مكبث: أنتَ مجنون حتى تقولَ ذلك
أليس سيّدك مكبث معه؟ لو كان الأمر كما تقول
لأرسل لنا خبراً حتى نتهيّأ
الرسول: لا. عفوك، ما قلته صحيح: أميرنا قادم
أحد زملائي سبقه في الوصول شبهَ ميّت لآنقطاع نَفّسِهِ
الذي لم يبقَ منه سوى أنْ يُبلّغ رسالته.
الليدي مكبث: إرْعوْه
جاء بأنباء عظيمة (يخرج الرسول) الغراب نفسه أجشّ..."
هكذا ماثل شيكسبير بين شؤم ما نقله رسول الملك من أنباء، مع شؤم نعيب الغراب. كلاهما رسول. كلاهما نذير شؤم.
اللافت للنظر هنا، كلمة: أجشّ. لماذا أجشّ؟ هل هي صفة خلقية في صوت كلّ غراب، أم أنها صفة مؤقتة من كثرة ما نعب، وكأنه ينذر بإلحاح، ومرةً بعد مرةٍ عن وشوك وقوع كارثة؟
المفارقة أن إيذان حضور الملوك، عادةً ما يترافق مع موسيقى صادحة. عبقرية شيكسبير حوّلتْ البوق إلى حنجرة غراب مبحوحة.
تُقارن حنجرة الغراب الجشّاء هنا، بحنجرة الرسول. كلاهما منقطع النَّفَس، ومبحوح.
على الرغم من أنّ الليدي مكبث كانت عازمة على فعلة القتل الشنيعة، إلا أنّ العزم وحده لا يكفي. القتل أمر جلل، وقتْل الملوك عادة تجديف بالكامل. لا يقوى عليه إلاّ أعتى الرجال، فكيف بآمرأةٍ. راحت الليدي مكبث تستنجد بـ "الأرواح التي ترعى النوايا القاتلة"، أنْ تُخرجها من صورتها الآدمية، أن تستأصل منها "نسويّتها"، أنْ تُخثّر دمها حتى يتوقّف مجراه إلى موطن الرحمة، وأنْ تسدّ كلّ مسربٍ يصل إلى الضمير".
قد يكون من المفيد عند هذا الحدّ، أن نلتفت إلى Terence Hawkes في مقدمة كتابه العميم الفائدة: Twentieth century Interpretation Of Macbeth (وهو مجموعة منتقاة من مقالات نقدية بأقلام كبار المتخصصين الشيكسبيريين): قال في تلك المقدمة "في كلّ مجتمع ثمّة صلة معقّدة بين اللغة وطريقة العيش. يمكن لنا أن نلمس منشأ الغموض في مسرحية مكبث في ثنايا البنية الكلية للمجتمع الذي تنقلب فيه كلّ القيم. لذا حتى التمييز، وهو أساسي ومهم بين الرجال والنساء، تجعله الجريمة ومقترفوها غير واضح ومحرّفاً".
التمييز بين الذكر والأنثى في هذه المسرحية مغبّش ضبابي.
مرّ بنا أعلاه، كيف تمنّتْ الليدي مكبث، وباستماتةٍ وحرقة، أنْ تنسلخ عن طبيعتها البشرية، وبالتحديد من "نسويّتها"، وما همّ بعد ذلك أيّ مخلوق آخر ستكونه.
مرّ بنا كذلك، أنّ الساحرات الثلاث، في بداية المسرحية، يقفْنَ في طريق القائديْن العسكرييْن: مكبث وبانكو. آستغرب بانكو من منظرهنّ، فقال:
"...ما هؤلاء
ذاويات، وهزيلات تماماً بلباسهنّ
لا يشبهْنَ سكان الأرض
ومع ذلك فهنّ عليها. أأنتنّ بشر؟
... أصابعكنّ الخشنة المشقّقة
على شفاهكنّ المهزولة: فلا بدّ أنكنّ نساء
لكنْ تمنعني لحاكنّ من أنْ استنتج
أنّكنّ كذلك"
يزوّدنا Terence Hawkes هنا بمعلومات تأريخية طريفة، لا سيّما تلك التي تتعلّق بأجواء المسرحية وشخوصها في العصر الأليزابيثي. منها، أنّ النظّارة كانوا يعرفون - كعُرْفٍ ثابت - أنّ الأدوار النسائية، إنّما كان يؤديها صبيان صغار. ولكنّ هذا العرف سرعان ما ينقلب حينما يؤشّر هؤلاء الصبيان إلى أعضائهم، جاعلين "نسوية" الليدي مكبث ليس جزءاً مستوراً ومقبولاً، وإنّما كجزء فعّال"
يذكر Hawkes كذلك:"تتطلب المسرحية من الليدي مكبث أن تقوم بدورها كآمرأة، إلاّ أنّ نواياها الشريرة تفرض عليها أن تتخلّى عن دور الأنوثة، كأمّ، وتصبح رجلاً".
يقول Jan Kott:"لكلّ شخصية شيكسبيرية كبيرة عدّة وجوه لتأويلها. ففي هذا الرباط الزوجي بالذات (بين مكبث وزوجته) حيث ليس لديهم أطفال أو أنّهم ماتوا، فإنّ الليدي مكبث تقوم بدور الرجل. إنّها تطلب من مكبث أن يقوم بالقتل كبرهان على رجولته، وكأن ذلك فعلٌ جنسي":"من الآن/ سأعتبر حبّك كذلك.../ حينما كنتَ قادراً على تنفيذها، عندئذ كنتَ رجلاً..."

بينما كانت الليدي مكبث تسعى للتخليّ عن ماهيّتها الأنثوية، راح مكبث - في نظر الليدي مكبث - يتجرّد عن رجولته. قالتْ له:"تفتقر إلى الرجولة في الحمق". وفي مناسبة أخرى عيّرته برجولته، فأجابها:
"أعمل كلّ شئ يليق برجل
ومَنْ يجرُؤ على عمل شئ أكبر، لا وجودَ له"

كذا الرجولة في نظر الليدي مكبث، لا تتأكّد إلاّ بفعل القتل. يبدو أنّ مكبث نفسه شرع يؤمن بأن الليدي مكبث الآن تقمّصتْ شخصية رجلٍ فعلاً، ولا يليق بها إلاّ إنجاب الذكور:
"إحبلي بالذكور فقط!
لأنّ معدِنك الشجاع يجب ألاّ يركّب
إلاّ ذكوراً..."
ربّما في العقل الباطن، شرع مكبث يخلق عالماً عقيماً بلا إناث، يلتحم الرجال فيه كآلتحامهم في معركة بالسلاح الأبيض، لا يحصدون فيه إلاّ الموت، ولا يُسقوْن فيه إلاّ الدم المتنفّط.
نرى في نهاية المسرحية، أن الرجولة التي كان مكبث وزوجته ينشدانها، آستحالت إلى توحّش. تَوَحَّش مكبث فعلاً، وخاض في الدم. المعادلات الغريبة كل الغرابة في هذه المسرحية هي:
ألرجولة = التوحّش.
مكبث = حيوان وحشي
الطموح = نيّة القتل
القتل = عملية جنسية
مع ذلك، لا بدّ من القول إنّ قوى الشرّ، كما لاحظنا في حالة الليدي مكبث، لا تدخل الجسد البشري إلاّ بعد أن تتوحش الأفكار الشريرة أوّلاً. إذن كيف دخلتْ تلك القوى إلى جسد مكبث، وما هي الأفكار الشريرة التي مهّدت لها السبيل؟
يقول Walter Clyde Curry:"وُصِفَتْ تلك العناصر الشرّيرة الي توسّلتْ إليها الليدي مكبث بأنها عمياء... ولا يمكن لها أن تدخل الجسم البشري، إلاّ إذا مهّدت لها الأفكار الشريرة ."، وينقل عن Cassian قوله: "من الواضح أن تلك الأطياف القذرة لا يمكن أن تدخل إلى تلك الأجسام التي ستهيمن عليها، إلاّ إذا هيمنت أوّلاً على عقولها".
أدرك مكبث، ولكن بعد خراب البصرة، أنّ لغة الساحرات الثلاث المبطّنة، هي التي ضلّلته. كانت تلك الكلمات تحتمل معنييْن. لم يأخذْ منهما مكبث إلاّ المعنى الذي يناسبه. وما هذا المعنى إلا التعويذة التي زودْنَه بها وهي:" ما من إنسان ولدته أمّه بقادر على النيل من حياته".
سقطتْ هذه التعويذة مرّة واحدة، حينما تقاتل مكبث ومكدف، فأخبره الأخير بأنّه لم تلدْه آمرأة، وإنّما:"شُقّ خديجاً من بطن أمّه"، عندئذٍ يقول مكبث بخَوَر ويأس:
"اللعنة على ذلك اللسان الذي أخبرني بذلك
لقد أضعتُ الجانبَ الأفضل من رجولتي:
لتكنْ أولاء الجنيّات موضع شكّ بعد الآن
إنهنّ يبطّن كلامهنّ بمعنييْن"
(الفصل الخامس - المشهد الثامن)

مهما دار الأمر، لا يمكن لليدي مكبث أن تقوم هي بالقتل إلاإذا توفّرت لها ثلاثة أشياء. أوّلاً أن تتغيّر بَشَريّتها، فراحت تستغيث بـ "الأرواح التي ترعى النوايا القاتلة" متوسلة أن يستبدلْنَ حليبها بالمِرّة. يقول G.R. Elliott:" الحليب هنا، كما هي الحال في أعمال شيكسبير: كلمة غامضة. إنّه يرمز إما إلى الآغتذاء، أو الضعف، وفي مسرحية مكبث فإنّه يرمز إلى الضعف في المقام الأوّل".العنصر الثاني الذي يجب توفّره حتى تتمكن الليدي مكبث من القتل، هو الليل، على أن يكون ليلاً من نوع خاص:
"تعال أيها الليل البهيم
ولفّعْ نفسَكَ بأعتمِ دخان في الجحيم
حتى لا ترى سكينتي الحادّة الجرح الذي تصنع
أو تبرق روح السماء من خلال حجاب الظلام
لتصرخْ:"قفي قفي!"

بعد أن تقرّر Caroline F. E. Spurgeon بـ "أنّ النور يمثّل الحياة والفضيلة والآستقامة، بينما يمثّل الظلام الشرَّ والموت"، تنقل عن Dowden ما يلي:"إنّ الحركة في عموم المسرحية، يمكن أن توجز بالكلمات التالية: عناصر النهار النبيلة شرعت تقنط وتنعس، بينما عناصر الليل السوداء هبّتْ لفرائسها".
العنصر الثالث الذي يجب توفّره، هو الأداة التي تنفّذ بها الليدي مكبث القتل. لكنْ ما تلك السكينة الحادّة التي أشارت إليها؟ هل هي بيدها فعلاً؟ هل هي التي ستقوم بالقتل؟
لنتأمّلْ قول Cleanth Brook:"من الطبيعي أن نتصوّر أنّ السكينة الحادّة هنا كانت تمسكها الليدي مكبث بيدها...لكنّي أعتقد أن ثمّة مبرّراً معقولاً لآعتبار "سكينتها الحادّة" هو مكبث نفسه...الليل يحجب عملية القتل عن عين السماء فقط، حتى لا تأتي وتصرخ:"قفي قفي" قبل القتل. لكن لماذا هذا التوقيت الديني للخوف من "أن تبرق روح من السماء من خلال حجاب الظلام"؟ هل هذه بداية الوخزالذي شعرت به الليدي مكبث في ضميرها، على الرغم من يأسنا منه وفق ما عرفناه عنها لحدّ الآن؟. هل هذه بداية تصدّع قشرتها الخارجية الهشّة؟
على أية حال، آبتدأت المناجاة بصوت، هو صوت الغراب المشؤوم، وآنتهت بصرخة:"قفي قفي" وبين هذين الصوتيْن ألّف شيكسبير أغرب الصور الشعرية وأشرسها. تبدأ المناجاة بالنهار وتنتهي بأعتم دخان في الجحيم. يقول Wolfgang Clemens:"الأبيات الأخيرة في المناجاة تعبّر عن آستمرار أهمية الليل: كخلفية، كرمز، كعنصر فعّال". حتى آستدعاء الليل يشجع على عقد مقارنة مع ما يقوله مكبث:
"أيّتها النجوم إحجبي أنوارك
لا تجعلي النور يرى رغباتي السود والدفينة"
(الفصل الأوّل - المشهد الرابع)
ويقول كذلك:

تعال أيّها الليل المعمّى
وآعصبِ العين الحنون عن النهار الرؤوف"
(الفصل الثالث - المشهد الثاني)
يبدو أنّ مكبث والليدي مكبث أصبحا صوتاً وصدى يتبادلان الدورين. مرة يكون هو الصوت وتكون هي الصدى ومرة هي الصوت وهو صداها.
في الصور الشعرية الشيكسبيرية يكون الصدى في الغالب أقوى وأهمّ من الصوت.

المناجاة الثانية

ــ الليدي مكبث: إرعوه
جاء بأنباء عظيمة (يخرج الرسول) الغراب
نفسه أجشّ
ذاك الذي ينعق بالدخول المشؤوم لدنكنْ
تحت جدران قلعتي. تعالي أيتها الأرواح
التي ترعى النوايا القاتلة، خذي نسائيتي ههنا
واملأيني من الرأس إلى القدم بأفظع قسوة طافحة!
خثّري دمي، أوقفي مجراه إلى الرحمة،
سدّي كلّ مسرب يصل إلى الضمير
حتى لا تعرِّض مشاعرُ الرحمة
خططي الوحشية للخطر، أوتقيم
سلْماً بينهما. تعاليْ إلى ثدييْ نسائيتي،
واستبدلي حليبي بالمِرّة، أنتنّ يا معيلا ت الجريمة،
حيثما أنتنّ تلازمْنَ بأجسادكنّ المخيفة
كوارث العالم! تعالَ أيّها الليل البهيم
ولفّعْ نفسكَ بأعتمِ دخانٍ في الجحيم
حتى لا ترى سكّينتي الحادّة الجرحَ الذي تصنع
أو تبرق روح خيّرة من السماء من خلال حجاب الظلام
تصرخ: "قفي، قفي!"

التوقيت مرّة أخرى من أهمّ ميزات التأليف الشيكسبيري، فما أن تكون الليدي مكبث في آنتظار "معيلات الجريمة" حتى يدخل مكبث، وكأنهّ هو العنصر المعيل على الجريمة الذي كانت تنتظره . وبعد أن ترحّب به تقول:
"حملتني رسالتك إلى ما بعد
هذا الحاضر الساهي عن المستقبل
وأشعر الآن أنّ المستقبل هو في هذه اللحظة"
مما يؤكّد أن مكبث بات هو القاتل المنشود، قول الليدي مكبث:" أنّ المستقبل في هذه اللحظة" وكأنّ الجريمة قد نُفِّذتْ فعلاً، أو في طور التنفيذ.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف