التعقيد والتعبيرية في العمارة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ثمانينية المدفعي: (2-2)
ثمانينية قحطان المدفعي.. التعقيد والتعبيرية في العمارة (1-2)
د. خالد السلطاني: شهدت نهاية فترة الخمسينات وبداية الستينات تكريس ممارسة تصميمة اقترنت ظهورها بمنجز قحطان المدفعي لوحده مقارنة بزملائه المعماريين العراقيين، واعني بها ممارسة تصميم الفضاءات الحضرية المفتوحة أو ما يسمى " بتصميم الحدائق " Landscape. لقد وجدت فعالية (تصميم الحدائق) في شخص المدفعي مفسراً كفوءاً لها؛ بمقدوره أن يجعل من تلك الممارسة التصميمية غير المألوفة، ليس فقط ممارسة مستحدثة وطريّة في المشهد التصميمي المحلي، وإنما يرتقي بها لتكون ناتجا معماريا، يشي باحترافيه مهنية عالية، ومؤثرة في آن.تظهر احدى بواكير أعمال قحطان المدفعي الحدائقية وهي
بانتقالنا زمنيا الى عقد الستينات سنلحظ كثيراً من بوادر النضوج المهني لدى المعمار وسنتلمس مقدرته المتمكنة في استخدام عناصر التكوين الممزوجة بالخبرة العالية لطبيعة المواد الانشائية التى يستخدمها مع نظم التراكيب التى يوظفها. لكن هاجس التعبيرية المتسمة على تعقيد كتلوي التى وسمت عمارة المدفعي بسمة خاصة ستكون حاضرة ايضا في هذه العقد المزدحم بالمشاريع المتنوعة التى طالما تطلع المعمار من خلالها ليكون " سولو Solo " المنجز المعماري العراقي، صوتا معماريا منفرداً ومميزاً " كما اشرنا، مرة، في دراسة عنه سابقة. بالطبع ليس في نيتنا ان نجعل من هذه الدراسة سجلاً" لمؤلفات المعمار الكاملة " ؛ لكننا بالتأكيد سنتعرف على مشاريع محددة نرى فيها تمثيلا لتلك المقاربات التصميمية التى ارتبطت به، والتى عبرها توصل الى بلوغ اهدافه في خلق منجز معماري ينضح، ولا بأس من تكرارها، يناعة وحداثة، ومتسم على تعبيرية مكثفة قائمة على حرية التجريب ومعطى تفعيل المخيلة. على اننا هنا لسنا فقط بصدد تأشير ايجابيات التصاميم " القحطانية " ؛ وانما ايضا الى استنطاقها ومسائلتها ضمن المعايير النقدية التى ذكرنا بعضا ً منها في مطلع هذه الدراسة. وبمقدور مثل هذا الطرح النقدي، كما نرى، ان يؤسس خطاباً ثقافيا ومعرفياً تكون مهمته اخضاع ما تم انجازه معماريا للتقييم وما يمكن ان يتمخض عنه من دلالات قيمية قادرة للاقلاع نحو آفاق مستقبلية.
في بعض (في كثير؟!) مباني قحطان المدفعي تتعايش في تكويناتها قرارات تصميمية تبدو لنا متضادة ومتناقضة، ان كانت لجهة دلالاتها ام لناحية اسلوب توظيفاتها. وقد يكون تجاور هذه القرارات المتباينة في التكوين هو الذي يمنح الاخير تلك القوة الآسرة من الحيوية والتشويق الذي يصل حد الغرابة. بيد ان الالحاح على هذا الجانب والتركيز عليه فقط، احيانا، يفقده في رأينا، كثير من المصداقية التصميمة ويجعل منه حالة يصعب تبريرها او الاقتناع بجدواها. معلوم اننا ندرك اهمية الانزياحات المفاهيمية التى طرأت على آليات النقد الحداثي والتى تسوغ ما لم يكن تسويغه ؛ بل ونذهب بعيدا في تقبل ما يسميه " جاك دريدا " باطروحة " تدنيس العمارة "، بمعنى " فك ارتباط "
في الخمسينات، وتحديدا في عام 1957، منح عاهل العراق السابق قطعة ارض في منطقة المنصور لتكون مقرا لجمعية الفنانيين العراقيين، احدى جمعيات المجتمع المدني النادرة ايام الحكم الملكي. وظلت الارض شاغرة مذاك لحين الاتفاق مع مؤسسة كولبنكيان في سنة 1964 لتأمين مبالغ كلف انشائها لتكون مقراً ادراياً للجمعية مع تضمينها فضاءات عرض خاصة. تم تكليف قحطان المدفعي باعداد تصاميم الجمعية وبالفعل فقد انهى المعمار مهمته وافتتح المبنى مساء يوم 12 تشرين الثاني 1967.
يثير القرار التصميمي للمبنى حالة من الدهشة جراء التناقض الكبيرالحاصل بين بساطة المخطط وتعقيدات التسقيف، حالة يمكن ان يذكرنا " تناصها " الجليّ مع مناخات مبنى " اوبرا سدني " في اوستراليا (1957-73) " المعمار يورن اوتزن ". فـ " تجاور المتناقضات" سيدّ " اللعبة " التكوينية في كلا المبنيين. ثمة شكل هندسي منتظم في هيئة مستطيل، هو " فورم " المخطط الافقي لمبنى الجمعية بالمنصور، المتضمن احياز لوظائف متواضعة مقتصرة على فضاء واسع مخصص للعرض الفني، وآخر مفصول عنه بحيز بهو المبنى يشتمل على فراغات لغرف ادارية بجانب مطبخ يخدم اساسا رواد فضاء المبنى المفتوح المتمثل بحدائق الجمعية. واذ لاحظ المعمار نشوء انطباع تبسيطي غاية في الصرامة ناتج عن سطوح الحيطان الصلدة الخالية من الفتحات عدا فتحتي البوابة الامامية والخلفية، فانه لجأ الى توظيف قطع " البلوك " الخرسانية المبنية بها تلك الحيطان للخروج من مأزق التبسيط الصارم، عاملا فيها افاريز لاشكال هندسية منتظمة كالمثلث والمربع والدائرة والمعين، مستحضرا هذة المرة، اسلوب معالجة جدران " البنك المركزي العراقي " (1959) بالرشيد، المنقوشة فيها افاريز اشكال العملات العراقية في نسختها الجمهورية.
لكن ما يثير في عمارة المبنى ليس هذا، فليس ثمة اثارة تذكر في امتداد سطوح جدران مشغولة بـ " بلوكات " خرسانية فاتحة اللون منقوش عليها اشكال هندسية. ما يثير هو الخطوة التالية في حالة اذا رفعنا بصرنا شاقولياً، عندها ستصطدمنا اشكال لافتة لاقبية خرسانية معتمة مختلفة المقاسات ومتباينة في المقاطع، ترتكز على ذلك العنصرالانشائي الفاتح. وحينذاك ندرك بواعث التعاطي مع الجدار بالصيغة المتقشفة اياها. اذ ان سكونية الاخير وحياده التام يهيئان المتلقي لفعل الحدث الدراماتيكي القادم المفاجئ والمترع بالتعبيرية الذي يولده ايقاع الاقبية الخرسانية المقطوعة بشكل مائل زيادة في ديناميكيتها. ويبدو ظاهرياً ان الهدف الاساس الذي وضعه المعمار لنفسه قد تحقق، هدف التفرد الشكلي الممزوج بالحس النحتي. لكن السؤال ماانفك مطروحا، هل ياترى ان المعمار اكتفى بما تحقق، " نافضاً " يديه من تبعات اصطفاء مثل هذا النوع من التسقيفات؟ واذا كان هذا صحيحاً، فان المشكلة والاشكالية اللتين اوجدهما المعمار مابرحت، اذن، قائمة. ذلك لان الحيز الداخلي للمبنى ينوء تحت وطأة فائض الحرارة العالية المنتقلة بسهولة نحو الداخل عبر الاقبية المكشوفة ذات السماكة القليلة، غير المسلحة باي نوع من انواع العزل الحراري المفترض توفره هنا. وفي النتيجة فنحن ازاء صنيع قد تبدو هيئته التسقيفية مشحونة بالحس الفني، لكن ما ترتب على توظيف تلك الهيئة كان خليقاً بالمعمار ان يجد حلا ملائما له. حلاً يحافظ على جراءة الفورم المبتدع، في الوقت الذي يُعنى بتأثيراته الجانبية. واذ نذكرّ بان مفهوم الوظيفة الان بالعمارة يحمل تفسيرات عديدة تصل حد اسقاطها من الفعالية المعمارية، لكن ذلك لا يمنعنا من ان نتساءل فيما اذا كانت العمارة قادرة بالاحتفاظ على بُنيتها المفاهمية رغم ذلك المسعى؟ او في الاقل، طرح تساؤل فيما اذا كان مهام العمارة مقتصرا فقط على مثل ما اجترحه المصمم في مبنى جمعية الفناننين العراقيين؟ كما اننا هنا وللاختصار، لا نثير طبيعة الحركة الداخلية واتجاهاتها في فضاء العرض واسلوب تنظيم الانارة فيه، اللتين تعتبران من الاحداث التصميمة ذات الاهمية العالية في الحل التصميمي لقاعات العرض الفني واللتين لم يوليهما المعمار اهتماما كبيرا. ومع ذلك فان عمارة مبنى الجمعية مازالت تعتبر من الاحداث الهامة في المشهد المعماري المحلي والاقليمي على السواء، لنظارة المقاربة التصميمية وتمظهراتها بهيئة متفردة مفعمة بحضور الحس التعبيري والنحتى معا ً، فضلا على اكتنازها لدلالات تشي الى ثقافة المكان. ونرى ان خصوصية موقعها في ارض منزوية وبالقرب من محطة تعبئة وقود، عمل سلبا لجهة تيسير وسهولة مشاهدة عمارتها وقلل بالتالي من امكانية قوة تأثيراتها التصميمة على المنتج المعماري العراقي.
يمكن اعتبار مشروع " مبنى متحف التاريخ الطبيعي " (1971 - 1976) في منطقة الوزيرية
يوظف المصمم شعار المتحف الطبيعي و " ايقونته "، الذي اصرّ رب العمل على ان يكون شكله حاضرا في الحل التصميمي، لتأكيد منطقة المدخل التى سقفت باحته بدوائر خرسانية تمثيلا لتلك الايقونة. ان شكلها غير العادي وطريقة اخراجها بالاضافة الى نحتية " الواجهة الخامسة " لسقف المتحف تشيان الى رغبة المعمار العارمة لان يكون مبناه حدثا استثنائيا وجديدا ضمن شواهد البيئة المبنية التى اغتنى موقعها باضافات مهمة من انجاز معماريين عراقيين كثر كمبنى " مصلحة التبوغ " للمعمار رفعة الجادرجي الواقع غير بعيد عن موقع المتحف ومبنى كلية التربية لمحمد مكية القريب منه وكذلك مبنى القسم الداخلي للبنات للمعمار قحطان عوني فضلا على مبنى كلية الصيدلة للمعمار هشام منير. وجميعها متقاربة فيمـا بينها ولا تبعـد كثيرا عن مبنى المنحف.
ثمة مشروع آخر صممه قحطان المدفعي حظى باهتمام اوساط شعبية واسعة، نظرا لخصوصية موضوعه وموقعه المتميز في وسط العاصمة ولضخامة ابعاده نسبياً وهو مجمع " جامع بنيّه " (1965-75) في منطقة " علاوي الحلة " بكرخ بغداد. وقد شغلت عمارته في اعتقادنا حيزا مؤثرا في مسار منجزه الابداعي، كما انها ايضا تشير الى تبدلاته الاسلوبية. يتألف المجمع من عدد محدد من مبانٍ متباينة ان في مفرداتها او في كتلها، فكتلة المسجد الضخمة والمهيمنة هي الوحيدة من بين حجوم صغيرة اخرى يتشكل منها المجمع كقاعة المناسبات والضريح والمدخل والسور المحيط ودكاكينه، التى وجدنا ان المعمار لم يوليها اهتماما تصميما مميزا، عدا مبنى الضريح، الذي اعتبره من " اجمل " مفردات المجمع واكثرها تعبيرية. لكن ما يهمنا في هذه الدراسة هو عمارة المسجد الجامع، ففيه، كما اشرنا، ثمة رسالة خاصة يبعثها المصمم لنا كمتلقين لعمارته ومستخدميها معا ؛ كما اننا نجد فيها تداعيات لتمثيل منعطف آخر من منعطفات مسار المعمار الابداعي.
ثمة قبة بيضوية الشكل تحيط بها من الاسفل مجموعة من اضلاع خرسانية متفرقة ترتكز على " طبلة " تنهض من كتلة مكعبة تحصر فضاء حرم المسجد، وبجانب القبة يرتفع عنصر فرتكالي طويل مضلع المقطع كناية عن مأذنة الجامع. ويحيط بكتلة الحرم اروقة خارجية باقواس مدببة العقد. وقد تم اكساء بعض سطوح الجامع بالاجرالملون ذي البريق المعدني المسمى محليا " بالكربلائي ". هل ثمة شئ اخر مميز في عمارة المبنى؟ كلا، مع الاسف، ونقولها بحسرة، نظرا لما نراه من تمادي المعمار في سعيه وراء حل تصميمي مشوب برغبة قوية " لارضاء الجمهور " من خلال ترسيخ العناصر " الشعبوية " في تصميمه المقترح، بدلا من قيامه باداء واجبه المنتظر منه والخاص في الانهماك بقضايا رفع المستوى الفني وتغيير الذائقة الجمالية السائدة. فالتكوين اجمالاً يكرر صيغة حل تصميمي، تُستحضر فيه مفردات الصورة المتخيلة التى حفظتها الذاكرة الشعبية في تصوراتها عن مبنى (المسجد). كما وتتبدى في هذه الصيغة ايضاً رغبة المصمم غير المفهومة في الحفاظ على تراتبية مألوفة وشائعة لتعاقب توقيعات تلك المفردات في الحل التكويني من دون تغيير هام يذكر. وتثير مقاربة المعمار هذه سؤالا جوهريا فيما اذا كانت الحداثة، واقصد بها الحداثة المعمارية هي محض نزوة طارئة في تطبيقات المشهد المعماري المحلي، بمقدور المعمار اي معمار التنصل منها بسهولة، والتغاضي عن انجازاتها بمثل هذه السرعة؟ ام انها ظاهرة لممارسة مهنية اكتسبت شرعية حضورها من منجز تصميمي واقعي، اجتهد، وحتى ناضل، كثر من المعماريين العراقيين، بضمنهم قحطان المدفعي ذاته، في تكريسه وتوطينة في البيئة المبنية منذ عقود؟. فالرسالة التى يرغب المعمار ايصالها لنا مربكة وغامضة الفحوى والمعنى. فهل يريدنا ان نصدق بان اشكال مفردات الحل التكوينى وتراتبيتها المكررة تاريخياً والمعادة بنائيا ً لا يمكن تغييرها او اختراق منظومتها الجاهزة؟ هل نفهم بان مصداقية التعاطي مع موضوعة معمارية محددة وخصوصا تلك التى تهتم بتلبية الحاجات الروحانية والدينية تتمظهر فقط من ترديدها وتمثيلها " لنموذج" حل معماري معين: سابق وتقليدي وشائع.. واوحد؟ هل فعلا " ليس بالامكان احسن مما كان "؟!.
من ناحيتنا لا نرى قطعا، ذلك ؛ كما لا نتلمسه في سياق الممارسة التصميمية العالمية والاقليمية وحتى المحلية ايضاً. لنتذكر " رونشان " - " كرة الثلج " التى
وعلى العموم فان رسالة عمارة " جامع بنيّه " الغارقة في " شعبويتها " تظل ملتبسة، تعكس الاضطراب الدلالي الذي تعاني منه فئات اجتماعية متنوعة. ان قبول عمارته والترحيب بها من قبل اوساط شعبية واسعة، لا يعفي المعمار، في نظرنا، من مسوؤليته المهنية للطريقة التى " يتحدث " بها الى جمهور عريض عندما يواجه بعضا من قضايا ذلك الجمهور الثقافية اويصطدم مع ذائقته الجمالية الراسخة.
في عام 1978 ينهي قحطان المدفعي تصاميمه لمبنى " وزارة المالية " في منطقة الوزيرية ببغداد والذي نفذ في وقت لاحق. يتكون المبنى من برجين مزدوجين بارتفاع 14 طابقا، يتصلان مع بعضهما بجسور خرسانية معلقة وموقعة على ارتفاعات مختلفة. ويشابه القرار التصميمي الخاص في معالجة الواجهة الامامبة (الخارجية) للبرج الواحد مثيله الآخر فيما تتشابه ايضا طريقة معالجة الواجهتين الخلفيتين (الداخليتين). واذ جاءت معالجة الاخيرتين وكأنها تحصيل حاصل لمنظومة ترتيب الفراغات الداخلية، المتشكلة من سطح مستوٍ بفتحات ذات ايقاع متماثل لنوافذ الفضاءات المكتبية، اتى اسلوب معالجة الواجهتين الامامتين على قدر كبير من الرهافة التعبيرية المتسم على تغييرات دائمة ناجمة عن تنوع حركة التشكل الواجهاتي. ومنبع هذه الحركة هو الاسلوب المتفرد لتشكيلات وضعية القطع الخرسانية الثابتة لمنظومة كاسرات الشمس " اللوفرات " Louvers والمغطية لكل سطوح الواجهة. لكن المعمار ومن اجل خلق مشاهد بصرية متنوعة، لجأ الى تغيير متعاقب ومتدرج لفورم المسقط الافقي لجميع طوابق المبنى. وهذا التغيير يتحقق جراء تثبيت نقطة بارزة في منتصف واجهة الطابق هي في الواقع رأس مثلث، يمتد منها ضلعان يقل طولهما كلما ارتفعنا الى الاعلى. ويعمل الفرق في طول الضلعين على انشاء منطقة بسطح مستوي في اطراف الواجهة تزداد مساحتها كلما ارتفعنا نحو الاعلى ؛ اي كلما قصر الضلعين المنطلقين من النقطة البارزة الوسطية لرأس المثلث.
وفي النتيجة فان وضع اعمدة " الكاسرات " بارتفاع طابق واحد في سطوح الواجهة وبزويا مختلفة خلق تغييرات متنوعة لتلك الواجهة التى يمكن رصد تشكيلاتها المتعددة كلما رفعنا بصرنا نحوها او كلما تحركنا حول المبنى. وبهذه المعالجة الفريدة فان المعمار ينضم الى قلة من المصممين الذي حاولوا كسر حدة الهيئة العادية للمبنى المتعددالطوابق، المتجسد " بصفيحة " هندسية منتظمة متوازية الاضلاع والتى ابتدعها يوما ما لوكوربوزيه، وحظي نموذجها التصميمي على تكرارات متعددة، اوصل هندسيتها الصافية، لاحقا lsquo; " ميس فان ير رو ّ " الى منتهاها في مبناه " سيغرام بيلدينغ " بنيويورك (1958). من هنا، من النأي بعيدا عن جاهزية الشكل المعماري يتعين تقييم محاولة قحطان المدفعي التصميمية المميزة هذه في مبنى وزارة المالية، كاحدى المحاولات الجادة في الاشتغال على ثيمة الابتعاد عن الشكل الصفائحي الملازم للمبنى المتعدد الطوابق. انها، في اعتقادنا، تتساوق باهميتها في هذا المقام مع اجواء مداخلة " جيو بونتي " التصميمة بمبناه " بيرلي تاور " (1956) في ميلانو وعمل " فالتر غروبيوس " في " بان امريكان " (1963) بنيويورك، وكثير من اعمال " لويس كان " الاخيرة المتعاطية مع تلك الموضوعة، وكلها محاولات جريئة تتطلع الى ابتداع تصورات جديدة عن " فورم " المبنى المتعدد الطوابق الذي اضحت هيئته عادية وجاهزة ومكررة.
ان الحديث عن عمارة قحطان المدفعي لا يمكن له ان ينتهي من دون الاشارة الى مشروعين ضخمين نوعا ما، يفصلهما اكثر من عقد. كلاهما لم ينفذا، وكلاهما يدلان عن مدى الفضاء الواسع الذي يتحرك به هذا المعمار ذوي المرجعبات المتنوعة. احداهما مبنى " سكريتارية الطاقة الذرية " ببغداد (1976)، والمشروع الاخر " دار ضيافة " (1989). الاول مثير لجهة تعبيريته وغرابة لغته التصميمية غير المألوفة، والثاني مثقل بتماثلية صارمة تشي الى نـَفَس كلاسيكي لم نشهد له حضورا مماثلا من قبل في مسارالمعمار الابداعي. واذ نقدر تنوع الآفاق الابداعية المتجددة التى يمكن لمبنى السكريتارية ان يخلقها في حالة تنفيذه، نحسّ بان عمارة " دار الضيافة " سوف لن تضيف شيئا كثيرا الى رموز المشهد المعماري المحلي المبنية.
من الصعب اختزال مسار ابداعي طويل وغنيّ ومتجدد، كما هو الحال في مسار قحطان المدفعي المعماري في دراسة واحدة ؛ هو الذي اخترق سقف الفضاء الابداعي بموهبة معمارية متوهجة وبطاقة تعبيرية كانت دوما محتدمة وفي احيان..مستفزة. ان تعدد مواضيع مشاريعه وتنوع مقارباتها التصميمية، تجعل منه حالة عصية على " النمذجة " او التصنيف. لكن الامر الاكيد بان عمارة المدفعي شكلت ولا زالت تشكل حدثا مميزا في الخطاب المعماري العراقي والاقليمي، حدثا يستمد اهميتة الكبيرة من تجاوزه لسابقيه، وتميزه عن اقرانه، وتأثيره الحاسم على لاحقيه: من خلال خلق فضاءات معمارية تجديدية وحداثية ظل المعمار دوما مسكوناً بها. ولئن اشرنا في دراستنا هذه، وهي المكرسة لثمانينته، الى انجازه المعماري فقط، فاننا نعرف تماما بان المدفعي " متورط " بالحداثة، كمبدع له حضوره المميز في نتاج اجناس ابداعية اخرى غير المعمارية، فهو رسام جيد، وشاعر غير عادي، ومثقف رفيع الثقافة، واكاديمي كفء، ومحدث لبق، ودائم الدأب في الحصول على المعرفة (وليس من دون مغزى انهماكه في الدراسة مجددا ومن ثم نيله لشهادة الدكتوراه بالعمارة سنة 1984 بعد 32 عاما من تأهيله المهني الاول!!).
واخيرا، قد تثير آرائنا النقدية الواردة في متن نصنا، جدلاً حول مصداقية الاسس المعتمدة في تقييماتها، فهي قد تحظى بالقبول مثلما، نعترف بانها قد تكون عرضة لغير ذلك. بيد ان الامر الاكثر اهمية من كل هذا، وهو الذي حفزّنا لاعداد هذه الدراسة، هو الرغبة لابداء شعورالاحترام لصاحب الاحتفالية، وتوظيف مناسبتها لارسال تحية..الى ثمانينيته!
عمراً مديداً لك، ايها المعمار المجدّد،... والمتجدد!. □□
*عنوان الدراسة مستوحى من عنوان كتاب روبرت فنتوري: " التعقيد والتناقض في العمارة ".
* * ادخلنا في هذه الدراسة بعض مقولاتنا من دراسة سابقة عن المعمار.
د. خالد السلطاني: مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون/ كوبنهاغن، ايلول 2007