ثقافات

امتصاص الثلج او هكذا الحياة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

عبد الامير الخطيب من هلسنكي فنلندا: بعد أن أججتني الوان الخريف الشمالية، بعد أن أنذرني لون الثلج القادم قريبا لا محال أثرت على نفسي أن أقيم هذا الحوار مع الفنان العراقي عادل عابدين مواليد بغداد 1973، والمقيم في فنلندا منذ 2001، ارتأيت ان لا يكون الحوار تقليديا و أن لا يكون على أطر من الصداقة الجامدة لأنّي أعرف عادل منذ أن إتصل بي تلفونينا للمرة الأولى ذات العام. كان عادل ولا يزال يحفر في الصخر في هذا البلد الذي احتضن الكثير من الآم وأحلاممعظم المغتربين. جاء عادل محملا بهوس الفنّ بالحلم الكبير أن يستمر بعالم الفن الذي اختاره منذ نعومة أظفاره. اتصل بي عادل وقدم نفسه لي كفنان وهكذا وجدته: لأنه هو من أذكى الفنانين المغتربين الذين عرفتهم.

معرضه الشخصي الأول الذي دعانيإلى حضورهعام 2002 كان من بين المعارض المميزة التي شهدتها هلسنكي. فكتبت عنه كبرى الصحف ونال من الإعجاب ما يكفي أن يكون سفيرا عراقيا فوق العادة. وهكذا لم يغادر الهوس روح عادلولم يحك مع الآخرين غير حكاية الفن ولم يتنفس غير هم دخوله أكاديمية الفنون في هلسنكي للحصول على شهادة الماجستير، لم تكن الشهادة همه أبدا بل كان كل همه ان يبقى قريبا من عالم الفن الذي فتح له الآفاق وعرّفه على معنى مغاير تماما لما نطلق عليه الفن في عالمنا العربي.

أصبح عادل كالصوفي المتوحد بذات الفن، يهيم في أصقاع الكالريهات يبحث في طيات الجمعيات والمؤسسات عن ما يمكن ان يسدّ رمقه وما يشبع كاهله المثقل أبدا بالحلم نحو عمل يوتيبي عملي يمكنه أن ينفذ من خلاله ويمكّنه ان يقول: اني هنا اعمل واعيش مثلكم تماما.

معرضه الأول الذي شاهدته احتوى على رسوم و منحوتات بارزة و تجارب كانت في طريقها الى أن تختفي و الى الأبد و أن يعتبرها عادل فيما بعد تأريخا شخصيا ليس إلا. كان عادل لا يغيب عن عرض، لا يتأخر عن كاليري أو صالة. كان عدم غيابه مرئيا وواضحا أنّه يسبح في فضاء مابعد الحداثة، قلتها لأكثر من صديق، هذا الفنان باحث عن شئ، انه صوفي متصومع فيصلب الفن. إنه يريد أن يقول أشياء نعجزنحن أن نقولها أو ربّما ليس بامكاننا ان نقولها. هذا الرجل خارج ومتمرد على المحافظة. وهو مولع بالمتاحف الحديثة، ألاعمال المعاصرة للفنانين المعاصرين، لا يعير أهمية للفن الكلاسيكي رغم تمكنه الهائل من الكلاسيك.

و مرت السنوات و كان حدسي في محله.. خرج عادل من قمقمهمفاجئا الجميع ليقول ومن خلال عمله الذي قدمه كأطروحة الماجستير في متحف مدينة هلسنكي، انه موجود وانه العراقي الأصيل الذي أصبح بلده سوق هرج انه العراقي الذي يحيا الأيام المجنونه( ) فشاهدنا له عمل فديو انستليشن وكان فاتحة خير له على عالم (الميديا ارت) الذي وجد نفسه من خلاله ونال احترام و تقدير الأوساط الأكاديمية الفنية في فنلندا و رفع الى أكبر بينالي عالمي على الاطلاق و هو بينالي فينيسيا هذا العام.

كما بقي وفيا الى نفسه مؤمنا بامكاناته الفنيه صادقا الى حد كبير مع ما ينتج وما يدور في ذهنه، حصل على جائزة الميديا آرت لهذا العام في فنلندا، وهو الفنان المغترب الوحيد الذي حصل عليها منذ أن تأسست هذه الجائزة، كيف لا و انه متناغم الى حد بعيد مع ذاته يركز كالكيميائي في تفاعلاته الفنية في مختبر صنعه بنفسه في أكبر مجمع ثقافي شعبي في هلسنكي الا وهو المجمع الثقافي المسمى بمعمل الكابيلات

حواري كما أسلفت لم يكن بالتقليدي أبدا مع عادل لأن عادل شخص يختزل كل الاشياء حتى النظر، يختزل النظر لانه يريد ان يطيل الاحساس بالاشياء هكذا كان يلح طيلة الحوار " الاحساس هو الأعظم على الاطلاق في حياة الفنان" و كان محقا فيما يقول لانه يعني أشياءه بدقة و بقصد عفوي يمارسها ويمارسها بالتخاطر أحيانا مع كل الأشياء و الآخرين

دار الحوار بيننا على أشياء كثيرة الا انه حمل هموما كثيرة كان من أبرزها المعاصرة والوضع الراهن للعراق. هنا ارغب أن أسلط الضوء على موضوع المعاصرة وأمور الفن فقط، لأننا إتفقنا أو شبه إتفقنا على إننا لا نستطيع أن نغني أو نساعد الوضع العراقي في حديثنا أبدا.

سؤالى عما إذا كان عادل راضيا عن المنجز التشكيلي العالمي اليوم لعموم المشهد التشكيلي العالمي، قادنا الى الحديث عن أمور كثيرة. والحق أنني أكتشفت فهما عميقا للحاضر عند هذا الفنان المتجذر في حياته هنا، لم يتفق على العموم لأنه يعتبر الفن كأي نشاط حياتي آخر كالرياضة و التجارة والسوق. وعلى ذكر السوق يقف ليعلق" ان الفن معرّض كأي نشاط للموضة نعم هناك موضة (صيحة) في الفن و المنجز التشكيلي العالمي يدخل في هذه الموضه، فترى المتاحف في أغلب بلدان الغرب تعرض صيحات على شاكلة، فن من الصين أو تعرض فن معاصر من الهند أو ما الى ذالك" و لكن عادل يرتكن الى أن هناك أعمال قليلة تكسب رضاه.

"الجدية هي ان تتاكد من عطائك، والمتلقي ليس غبيا أبدا، ربّما تكون خمسة أعمال جيدة و جادة من بين مئة عمل معروض في منتاحف اليوم، و هذه ليست مشكلة أبدا لأن حياتنا المعاصرة معرضة و قابلة لكل الأشياء، العلاقات الشخصية، الوصول بالمال، وغير ذالك من الأمور التي تتحكم حياتنا المعاصرة، هنا أتكلم كمتلقي، لأني أشاهد الكثير من الأعمال التي لا تستحق أبدا"

في عالم الفن اليوم هناك ظاهرة واضحة لكل المتلقين، الفنانين، المقتنين وحتى المشرفين على عالم الفن، هذه الظاهرة هي التنميط، أو وضع الأعمال الفنية في خانة معينة، هناك أعمال سياسية و أخرى إجتماعية و ثالثة جمالية، هذا قد يضعف و ينمط من العملية الفنية لفن ما بعد الحداثة، لأننا جميعا نعرف إن فن ما بعد الحداثة أخرج الفن من التابوات و المحرمات التي بقيت لزمن طويل حبيسة النخبة، و التنميط يرجع الفن الى خانة معينة، هذا ما يفعله النقاد او يحاول فعله. دار بيننا الحديث على هذه الامور وكان عادل متفق الى حد كبير بأن فن ما بعد الحداثة هو فن للجميع انتفض على فن الحداثة لان فن الحداثة لم يفعل او لم يستطع ان يكون فن في متناول الجميع و حاجة الجميع.

عادل شخص معاصر بكل ما تعني الكلمة، انه من بين القلائل من الناس من يميز بين الأخلاق و الأعراف، ومن بين القلائل الذين يدركون ماهي الحدود بين الاخلاق والأعراف، فمن العرف ان هناك معايير لقراءة العمل الفني كما نقول، لكن عادل يرفض هذا ليقول "ليس هناك معايير لقراءة العمل الفني المعاصر، أولا يجب أن نعرف ما معنى المعاصرة، فلو أتيت بصورة زيتية عمرها مئة سنة و عرضتها في كاليري، هل تصبح معاصرة؟ نعم ان العمل هنا الان، يعاصرنا، أما أن نقرأه نقديا فهذا ليس من شأني، و إذا قصدت بالمعاصر، المابعد حداثتي، فقد أتفق على هذا المصطلح"

كتبت مرة لتقديم معرض من معارضنا الجماعية سنة 1998 بأن الفن لعبة جادة، و على ما يبدوا فان الفنان عادل عابدين يتفق معي في هذا، حيث يقول " هناك لعبة في الفن المعاصرو قوانين اللعبة أن تقصد اشيائك بعفوية، تسلط الضوء على ما تحسه في المكونات او الكائنات من حولك، القانون الاساسي في اللعبة الفنية المعاصرة هي أن الميديوم ياتي بعد الفكرة الفكرة هي التي تقود الميديوم وليس العكس، وهكذا انت تقود مشاهديك الى ما تريد، لذا اقتضى علينا جميعا ان ندرك بان الفن المعاصر او فن ما بعد الحداثة لا يعتمد معيارا معيينا او مدرسة او ظاهرة محدده. فن ما بعد الحداثة قد يستخدم اكثر من اتجاه او ظاهرة او مدرسة في عمل فني واحد، لقد ذهب زمن الامساك بالخط الواحد، بمعنى ان ترسم تجريد واحد في لوحة واحدة قد تحتوي اللوحة الواحدة على تجريد وتعبير وكلاسيك والى غير ذلك.

ينتفض عادل على كل ما تعلمه او كل الخطأ الذي ادخل في ذهنة قسرا ايام الدراسة لففي دراسته كانت تابوهات و ثوابت لا يمكن تجاوزها، عادل ليس من دعاة التبسيطية بل يدعو باستمرار بان الفن مثل أي شئ اخر بسيط و ليس من الصح ان نعقّدة و نجعل منه طلاسم و تابوهات، و هو يعتقد بان الفن اخذ مكانه الطبيعي الصحيح في زمن ما بعد الحداثة، و الفنان ليس خالق او أي تسمية من شانها ان تصنع صورة ذهنية سرابية هلامية مشوهة مبهمة عن الفنان، الفنان انسان اعتيادي يركز على احساسه و الذي يعنيه من هذه الدنيا ان يقول احساسه بصدق و بحرية. " حين تستثير الفنان حالة او شئ و أي مسالة معينة يسلط عليها افكارة بكل حرية و يذهب الى ابعد الحدود لكي يعبر عنها، أداته الوحيدة هي الفكر.

حصل عادل على الكثير من الإهتمام بين الأوساط الفنية، و الحق ان عادل رجل نشط يعمل بجدية كي يصل ألى الذي يريد، و لكن تبقى حدود ما حصل علية معينة في تقديري لان عادل لم يحصل على اهتمام النقاد و الأكاديميين، لذا كانت آرائه عن النقد و النقاد في فنلندا محددة بتجربتة الشخصية مع النقاد، "ليس هناك نقاد في فنلندا، هناك من يكتب تقرير، أو يصف الأعمال الفنية باحسن الاحوال" و عودة الى ان الفن لغة كونية و ان ما نوقش في الندوات و المؤتمرات حول الفن و حركة الفن المعاصر خصوصا الفنانين المغتربين و تقيم النقاد الغربيون لحركته أتذكر ان مؤتمرا عقد في هلسنكي حول هذه الامور سنة 2001 حضرة متخصصين كثيرين من الاجانب و العاملين في حقول الفن و الثقافة الاوربين.

المؤتمر ناقش ثلاثة نقاط اساسية، من شانها ان تؤثر على حركة النقد في أوربا، وكانت النقاط الثلاثة الى حد ما واقعية معبرة عن الحالة الاوربية حينها و باعتقادي لحد الان، السوق، الثقافة المختلفة و اختلاف الخطاب البصري.، لكن عادل له رأي مخالف او رابع، وهو ان الفنلندين على سبيل المثال ناس بطبيعتهم اليوميه غير ناقدين.

الشخص الفنلندي متلقي و عامل جيد، و له مهارة في تنفيذ الأشياء، و لكنّه غير ناقد، ربّما يكون محلل، وهذه المسألة تختلف عن الاخرى، هكذا يفهم عادل الناس في فنلندا او لنقل هكذا يرى عادل سبب عدم مقدرة النقاد تناول الفن المغترب، و باعتقاده ان المسألة ليست متعلقة بالمغترب أو أبن البلد، و السبب يوعزه عادل الى ان النظام في فنلندا جعل من الانسان كائن متلقى أكثر منه ناقد " الاشياء هنا مرتبة بشكل تام/ النظام الصحي و الاجتماعي و حتى الامنى مرتب بشكل لا تشوبه شائبة، وهذا هو السبب في عدم مقدرة الفنلندي على النقد"

و كان لنا مداخلة ساخنة مع عادل حول الفلسفة المنتشرة الان و الفكر الذي يقود حركة الحياة في عالمنا المعاصر، فالبرجماتية الآن هي دين الحياة وظفر الموت، و أن حركات مابعد الحداثة هي نتاج طبيعي للفكر العالمي البراجماتي "العملي العلمي" والحق انه جاء و لحد الان من الولايات المتحدة الامريكية، فهل ان المعارصرة تعني الأمركة، أو هل أن الأمركة تعني المعاصرة، يعتقد عادل ان الاثنان شيئان مختلفان،فالمعاصرة في تقدير عادل هي ان تحيا كل متناقضات و افكار العصر و ان تكون الراصد و المعبر عنها كفنان، و ما البراجماتية الا وجه من اوجة الفكر المعاصر.

الحق ان هذه الاشكالية اكبر من ان نناقشها في جوارنا الان، لان هذه اشكالية فكرية عصرية لا نستطيع نحن في هذا ان نخرج منها بنتيجة لذا قررنا ان نؤجل او نورجئ هذا الموضوع الى اشعار اخر.

حب العراق يسكن هذا الرجل، و أذكر ان أحد العراقيين المقيمين هنا ممن يعرف عادل قال لي مرة، عادل شخص عراقي حد النخاع، تصور انه ارسل لي مسج على تلفوني المحمول لحظة فوز الفريق العراقي في دورة آسيا الأخيرة، ربّما لا يدري عادل ما فعله بي لكنّه الوحيد الذي أرسل لى الرساله وكانت عبارته مفعمة بحب العراق وبالفرح العارم لفوز الفريق العراقي.

حديث العراق كان من المواضيع التي طالت بيننا، و عن تكريس أعماله الأخير، أعني في السنين الثلاثة الأخيرة لهذ الموضوع، حتى عمله الذي شارك به في بينالى إيطاليا كان حول العراق وإحتلال العراق وتحويل العراق الى جهنم معاصرة، والحديث أوصلنا كما يوصل كل العراقيين الان الى التأوه والصراخ والسب وما الى ذالك، لان ليس في أيدينا عمل شئ غير هذا.

موضوع الفن في العالم العربي شغل حيزا لا باس به من حوارنا، ويعتقد عادل ان الفن في العالم العربي لم يمت بل ان هناك مشاركات مميزة في كا من مصر و لبنان في صنع صورة الفن المعاصر. و لكن هذه المشاركات فردية لا تدعمها الدول لان الثيمة الرئيسية التي يعمل الحكام العرب عليها منذ ان وعينا على الحياة هي انينغلق العالم العربي على نفسه وان لا ينفتح على الاخرين ابدا وهذا بحد ذاته العائق الرئيسي في عدم تمكن الفنانين العرب المعاصرين من المشاركة الفعلية في صنع الصورة الكلية للفن التشكياي المعاصر.

"مشكلة الفن العربي المعاصر هي الانعزال، ربما بسبب اللغة، و كذلك كسل المثقفين، لان المثقف يدعوا باستمرار للحفاظ على اللغة مثلا و ان هناك تعابير معاصرة كثيرة لا يمكن ترجمتها او ادخالها المجمع اللغوي العربي، انا لا ارى اية ضرورة، لندع المصطلح يأخذ مجراه، اعني كما حدث في التاريخ الاسلامي، الشعوب التي اعتنقت الاسلام لحد الان تستخدم الكثير من المصطلحات العربية، ما المشكلة، و شئ اخر هو تبعية المثقفين المطلقة للحكام الذين هم على شاكلتين لا ثالث لهما، اما متخلف او متطرف، و كلا الحالتين تحكم العالم العربي الان.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف