كيف نظر محمد مهدي البصير إلى إشكالية النَّهضة والإصلاح؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كان الحديث عن "الإصلاح" قد أخذ يظهرُ في الخطاب الثقافي العراقي وفي وعي النُّخب المثقَّفة بالعراق على نحو تدريجي في بدايات القرن العشرين حتى صار مدار اهتمام العين التي أرَّخت للأحداث المصيرية التي جرت رحاها بالعراق في تلك البدايات، خصوصاً والأحداث الساخنة كان لها تأثيرها في الحراك العام بالعراق كالغزو البريطاني للعراق وما تبعه من ثورات عراقية جزئية رائعة تكلَّلت بثورة العشرين الباسلة، وبالتالي احتلال العراق وجعله تحت الوصاية البريطانية.
في تلك الأجواء، ظهرت، محاولات تشتغل في مجال ما بعد النَّص الإصلاحي ليس من قبيل الحديث عن الحاجة إلى الإصلاح، ولا من قبيل تقديم مشروعات إصلاحية فحسب، إنما من قبيل الحديث عن الإصلاح بوصفه حدثاً وقد حصل Real Accident، ومن قبيل الإصلاح بوصفه واقعة وقد حصلت Fact Accident، والإصلاح بوصفه سلوكاً Behavior وقد وجد مفاعيله في المجتمع العراقي.
لا نستطيع أن نجزم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، بأنَّ نصَّ البصير هذا هو أقدم نص تحدَّث عن الإصلاح أو عن الخطاب الإصلاحي، لكننا يمكن أن نعتبرهُ من النَّصوص الرِّيادية المهمة في هذا المجال، كما إنه كان مبكِّراً في ميدانه، وهو يعبِّر عما توصَّل إليه العقل العراقي الحديث، في الربع الأول من القرن العشرين، من وعيٍّ نقديٍّ بأهمية الإصلاح وبضروراته المنطقية والقيمية والميدانية في مجتمع مشرقي للتوِّ كان قد خرج من دوامة الغزو الاستعماري وانتهى من حمل مشاعل الثورات الشَّعبية المسلحة، وللتوِّ أخذ يتلمَّس طريق الاستقرار السياسي، ساعياً إلى بناء مرافق الدولة والمجتمع بناء جديداً. أما عن دلالاته المرتبطة بفضاء ما بعد النَّص الإصلاحي، فإن البصير توافر فيها على مجموعة من المفهومات المركزية التي تمثل جزء من بنية الخطاب الإصلاحي؛ فهو جاء بمفهوم "النَّهضة الصادقة"، وهو مفهوم مركزي يتعلَّق بالخطاب النَّهضوي والتحديثي الذي كان مأمولاً لدى النُّخب المثقَّفة في منطقة الشرق العربي والإسلامي في خلال تلك المرحلة. والبصير هنا افترض ضمناً وجود "نهضة زائفة"، ربما قصد بها ما مرَّ على العراق من سبات حضاري وثقافي امتد لألف عام أو ما مارسته الدولة العثمانية طيلة احتلالها الطويل للعراق، أو جملة الحركات الإصلاحية التي تدَّعي أنها نهضوية في حين أنها زائفة. ومعيارياً جعل البصير أمام تحقيق هذه النَّهضة مجموعة من العناصر الأساسية، هي: الإصلاح الحقيقي، والإخلاص، والعمل الدؤوب أو المتواصل.
أما مفهوم "الإصلاح الحقيقي"، فهو يمثل جزء من "النَّهضة الصادقة" التي كانت مطمح النَّهضويين في العراق. وهذا الإصلاح الحقيقي يفترض ضمناً أيضاً وبالتقابل وجود إصلاح مزيَّف وشكلي أو صوري لا ينتج سوى خداعه وهو يُصرِّف معطيات خطابه في الأمة وفي المجتمع، وهي المعطيات الفاسدة التي سعى النَّهضويون العراقيون إلى التخلُّص من سلطتها. كما أن الإصلاح الحقيقي، في منظور البصير، لا بدَّ وأن يكون شاملاً ليطال كل جوانب الحياة الثقافية والزراعية والصناعية والاقتصادية لكي يكتسب الإصلاح مصداقيتهُ في المجتمع.
الأهم في ذلك، كما دعا البصير إليه، هو بثّ المعارف الخاصة بالإصلاح أو ما هو متعارف عليه اليوم ببثِّ "ثقافة الإصلاح" في المجتمع. وفي أي حال، وضعنا البصير في مجال ما بعد النَّص الإصلاحي عندما تحدَّث عن مشروع مدحت باشا الإصلاحي في العراق، وعندما كشف عن غياب الإصلاح في العراق على مدى ألف عام مضت حتى تاريخ تدوين رؤيته الخاصة بالإصلاح، وهي الرؤية التي تعكس فلسفته الإصلاح.
ولما كان الإصلاح جزء من منظومة "النَّهضة الصادقة"، في رؤية البصير الفكرية في الربع الأول من القرن العشرين، فإن البصير نفسه كتب بين عام 1923 حتى عام 1946 الكثير عن تاريخ العراق من الناحية الفكرية والثقافية والأدبية، وقد أصدر، في هذا السياق، كتابه "نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر" (محمَّد مهدي البصير: نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر، بغداد 1946). والذي تحدَّث فيه عن "الإصلاح" ضمناً عبر حديثه عن "النَّهضة" وعن النَّهضويين العراقيين من الأدباء والمثقَّفين والشُّعراء وغير ذلك من النُّخب العراقية المتنوِّرة بالمعارف في القرن التاسع عشر. وفي خمسينيات القرن التاسع عشر، أخذت بعض الأدبيات والدراسات المعنية بشئون الإصلاح تأخذ طريقها في الظهور، ومن ذلك كتاب مكِّي الجَّميل "مباحث في الإصلاح، مطبعة العاني، بغداد 1955"، وكتاب محمَّد رضا الموسوي "الثورة والإصلاح الاجتماعي: حول السياسة والتاريخ والاجتماع، مطبعة النُّعمان، النَّجف 1958"، إلى غير ذلك من البحوث والدراسات التي كشفت عن تحوُّلات الإصلاح والتحديث في المجتمع العراقي خلال النَّصف الأول من القرن العشرين.
كاتب عراقي
rasmad@maktoob.com
عن "الاتحاد" الاماراتية