ما لم يَقُلْهُ كافكا!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الله كرمون من باريس: تغري محاولة هيرانو كييشيرو الياباني في "التحول الأخير"، المترجمة هذا العام إلى الفرنسية من طرف كورين أتلون والمنشورة لدى فيليب بيكيي، بتتبع المناحي التي أغفل كافكا أن يثيرها في التحول؛ موضوع القصة التي اشتهر بها. فبطل هيرانو يجد نفسه واقعا تحت وطأة ضرورة تحولٍ ملح. بل يجد نفسه في الحال الذي قصم استمرار غريغور سامسا ضدا على انسيابه في خط حياة سليم لدى البطل الكافكاوي. ما الذي دفع إذن بهذا الياباني الشاب أن يقفو خطو كافكا كي يكتب عن ألمه الوجودي الخاص ويستغل فكرة "المسخ" (كما يحلو للكثيرين أن يترجموا
أو كيف انتبه بطل هيرانو إلى شروع حياته في تموضع متفسخ، في انزوائه لمدة في غرفته وفي تفكيره في الدواعي التي جعلته يصبح شخصا استثنائيا: "الهيكيكوماري" باليابانية أو شبيه غريغور سامسا لدى كافكا. يحاول أن يقارن حالته بحال غريغور وهل عرفا معا الدوافع التي هيأت التحولات الجذرية التي لحقت بهما؟ هل لمحا ما طرأ على مسارهما بشكل دقيق قبل أن يتجمد في نقطة اللاعودة؟
يتساءل البطل عن كونه هو ضحية "المسخ" لهذا العصر مادام غريغور هو الضحية التي اختارته، حسب ناقد المقدمة لكتاب كافكا، شوكةُ الأزمة الأخلاقية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. لو صح ذلك التقدير فإنه يتساءل لماذا يكون بنفسه هو المؤهل لذلك دون غيره مادام ليس يتوفر على ميزات مفارقة!
فكرة المعنى مطروحة بحدة في هذا الشأن، ذلك أن الأمر يتعلق هنا بمذكرات بطل هو قرين سامسا، لكن أليست مثلما كتب هو بالذات، من خوف استشعره، غير ذات معنى؟
يحيط في لحظات كثيرة من طفولته بكونه قد صار، لما لا، متقمصا لشخصية تاريخية عظمى، لكنه ليس يجد من يرافقه لدى رعاة العوالم الغيبية كي يؤكد له هبته الجديدة. أمر طفولي إذن يقربه من التداعيات التي وصل إليها أوان كتابة مذكراته. خاصة إذا علمنا أنه كان من أشد المداومين حينذاك على قراءة ذلك النوع من الكتب التي تشارف على ميقات اليوم الأخير أو ميتافيزيقا الساعة وغير ذلك!
يركز البطل بالتالي على موضوعة "الطبيعة الحقيقية" للشخص، ما يشكل محركه الحقيقي ودافعه الذي يجعله يتصرف خلال حياته حسب تلك "الأنا" التي قد تكون شخصا معتبرا، ذا إشعاع ما ومتميزا. ذلك أن هذا البطل الميئوس منه لم يكن قط على اتصال بعالم النساء، سواء البارات أو فضاءتهن الخاصة، من قبل أن ينخرط في عالم الشغل. فالمرأة التي استطاع أن يمارس معها الجنس كانت امرأة لا تهتم بالكلمات أو بالأحرى لا تعنيها اللغة البتة. عكس ذلك كانت اللواتي لاحظن فرادته وانجذبن إلى سيل أحاديثه الغريبة لم يحظ منهن بشيء جهة أغراض الجنس. الشيء الذي دفعه بالتالي ليفكر في حيل النساء وحبال اللغة، لكن، دون جدوى بخصوص طموحه في الفهم!
"الطبيعة الحقيقية" للشخص و"الطبيعة العميقة" و "المظهر" الوهمي الذي يغلف الشخصية الحقيقية هي الكلمات/المفتاح التي تتأرجح في نص هيرانو على أنها، بالنسبة إليه، أدوات عملية تسعى لفك "معضلة" الوقوع (وقوعه) في فخ "المسخ".
فإذا ركزت في الكتاب على المناحي التي تثير بعض ما لم يقله كافكا عن حالة سامسا فلأنني أرى في ذلك أهم ما دفعني إلى قراءته. فلدى كافكا يحدث أمر التحول إلى حشرة ذات صباح دون سابق إيذان وتظل أسئلة العمل والعائلة تطنطن في رأس سامسا الذي طفق لحظتها يستكمل تحوله النهائي إلى حشرة تضيع، لدى استكماله لمسخه، كل تفاصيل مشاغله تلك. أما لدى هيرانو فقد أعد البطل بنفسه كل ما يستلزمه وقوعه تحت طائلة ذلك "المسخ"، فقد أعلم سالفا رؤساءه في العمل بشأن غيابه وانتبه إلى كل الحيثيات الإدارية اللازمة لذلك، إلى درجة أنه طلب في بريدٍ له إقالته من الوظيفة مع أنه أبطل إتمام ملء الوثائق المطلوبة في تلك المهمة.
يصف هيرانو حال بطل الأزمة النفسية التي يخط تفاصيلها، خاصة
"لقد وقعت بتؤدة على أربع قوائم في غرفة الحمام. ساقاي نحيلتان ومعروقتان مثل ساقاي مريض. إن ذلك عادي، فحوالي شهر تقريبا لم أمش فيه تقريبا(...) في تلك الوضعية أحسست أنه في لحظة أو في أخرى قد تنبت لي قرنان في رأسي وتبدأن بالتحرك".
بطل هيرانو، خلاف ما حدث لسامسا، يتحكم في التطور الذي ينزعُه حثيثا سقوطُه، يصف ويعبر عن كيف يجد ما يحدث له، في الوقت الذي أخذ الراوي على عاتقه لدى كافكا أمر تتبع "التفسخ" الذي انتهى إليه السيد غريغور سامسا. مثلما كتب هيرانو ذلك فلدى كافكا لم يتم الحديث عن تفاصيل كثيرة ومهمة مثل الطريقة التي يتبرز ويتبول بها سامسا. ذلك بالتأكيد أمر غير سهل بالنسبة لشخص موصد. أمر آخر انتبه هيرانو أنه يحدث تماما أيضا لبطله؛ فقدانه للشهية مثل غريغور في أيامه الأخيرة. فيتساءل بالتالي هل تطارد الآخر نفس الأفكار مثله؟
لقد شرع منذ أيام في محاولة الربط بينه وبين حشرة المسخ. حاول بالتالي مرغما، آخذا على عاتقه كل المسئولية اللازمة، أن يتصرف طبقا لما يلزم أن تتصرف به كل حشرة. وليس لأنه يريد أن يقلد غريغور كما كتب.
لقد أعاد مرة أخرى قراءة نص كافكا، فقد فهم أكثر فحواه خلافا لما خرج به منها في آخر قراءة له. لقد عثر فيها على فكرة "الدور". إن ما يزعج كثيرا بطل هيرانو في نص كافكا هو ذلك التحول إلى حشرة! غير أن غرابة الفعل، كما كتب، تخفي أمرا واضحا للعيان ألا وهو كون غريغور قد تبدل وتحول ظاهريا غير أنه يحتفظ في العمق بطبيعته الخاصة نفسها، على الأقل في اللحظة التي يستيقظ فيها خارجا من أحلام مضطربة. الذي يتغير إذن هو شكل غريغور غير أن ما بداخله يبقى هو هو. أما أمر الحشرة فهيرانو يتساءل إن لم يكن سوى مجرد دور يضطلع به سامسا؟ إذ يرى أن الذي يحدث في الحقيقة هو كون دور الكائن الذي يتحول من شكل إلى آخر ويحتفظ بحقيقته الداخلية هو الذي يتغير فقط بالتأكيد.
يسعى هيرانو من خلال مقارنته بين حالة بطله وحال سامسا إلى العودة إلى نص فريد في الآداب العالمية محاولا تحليل نفسية بطله هذا مرورا بهوسه بالأنترنت وما يشكله التحول إلى حشرة بالنسبة إليه من فزع! أمر آخر فهيرانو لم يوفق تماما في نصه إذ لم يستطع أن يمضي في مبحثه بنفس القوة التي يستدعيها تناول فكرة جميلة إذ انبطح في الغالب كثيرا قدام تفاصيل جزئية وجدّ سطحية. يبقى مكر هيرانو منفوثا بشراسة مرة في آخر الكتاب: سوف تتسرب كل تلك الحشرات إلى بواطن الناس على شكل كلمات، وتظل تسمن في تلك الأتون السرية. أما "أنا" فأصير الحشرة التي تكون كابوس الإنسانية!