غربال الذاكرة: بدر شاكر السياب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في ليلة عيد الميلاد من عام 1964 توفي في الكويت الشاعر العراقي البصراوي بدر شاكر السياب عن 38 سنة (ولد عام 1926 في قرية جيكور من ضواحي البصرة) ومثل الكثير من العباقرة في التاريخ الذين عاشوا عمرا قصيرا ترك السياب اثرا رياديا في الشعر العربي الحديث، تأثر وسيتأثر به الكثيرون.. وكتب وسيكتب عنه الكثيرون، ولن اضيف شيئا لذوي الاختصاص لو كتبت في النقد الشعري والبنية اللغوية والنظمية او تحليل الاساليب والمعاني، او التركيب المعماري لشعر السياب، ولكنني - وكما اعتدت في غربال الذاكرة - ارغب ان اتذكر لحظات شخصية علقت في الذاكرة عمن اكتب عنهم، ربما تساعد على تجسيد صورة عن قرب لبعض من صفاتهم وخصائصهم او لحظات حياتية لا يكتب عنها الانادرا!!
كانت مكتبتنا المفضلة هي الاولى على يمين القادم من الاعظمية، وكان صاحب المكتبة يهودي عراقي اسمه سميع، يحب الشعر والادب، ويسمح لنا ان نقف طويلا امام مكتبته (التي هي في الواقع كشك كبير) نتصفح المجلات والجرائد ونطلع على اصدارت الكتب الجديدة. وكان السياب قارئا مثابرا فقد قرأ الكثير في الادب العالمي والثقافة العالمية، كما انه قرأ لكبار الشعراء المعاصرين قراءة اصيلة عن طريق اللغة الانكليزية التي كان يجيدها. وكان يقرأ الكتب الدينية كما يقرأ الكتب اليسارية!!
كانت ساحة باب المعظم - الملتصقة بالسجن المركزي المقابل لوزارة الخارجية- تمتاز بحيوية رائعة تتعدى كونها ملتقى خطوط الباص، فقد كانت تعج بالطلبة والاساتذة، الذين يملاْون المقاهي المنتشرة حولها وذلك لقربها من جامعة بغداد وخصوصا كلية الاداب ودار المعلمين العالية حيث كان يدرس بدر شاكر السياب ليصبح معلما!!
كان سميع نادرا ما يتذمر من ازدياد عددنا ونحن نتجمهر امام مكتبته، نقرأ مجانا، ونسد عليه باب رزقه!! بل كان يفرح لوجودنا وينشغل عن البيع بالحوار الثقافي وحتى السياسي.. وعندما يقول له احدنا (كأنك لست يهوديا) يقول باصرار (انا عراقي)..
كان السياب احد المدمنين على الوقوف امام مكتبة (كشك) سميع حيث تتحول وقفاتنا تلك الى نقاش وجدل بصورة عفوية، يشترك فيها من يحضر فيقف دقائق قصيرة او طويلة، وكنت اصغر الحاضرين سنا، واقلهم كلاما، وكذلك السياب على ما اذكر لم يكن كثير الكلام، ولكنه كان يفتخر انه من البصرة المدينة التي انجبت الاخفش وبشار بن برد والجاحظ وسيبويه والفرزدق وابن المقفع...والفراهيدي واضع عروض الشعر!!
وكان يقول انه كالمتنبي ربته جدته لامه، بعد وفاة امه كريمة بنت مرزوق وهو في السادسة من عمره، واتم دراسته الابتدائية في البصرة، وانهى الثانوية عام 1942، وفي السنة نفسها توفيت جدته وبفقدانها فقد السياب صدرا حنونا فقرر ترك البصرة الى بغداد، كما فعل المتنبي قبل الف سنة عندما ترك الكوفة وتوجه الى بغداد بحثا عن افاق جديدة!!
في السنوات التي كنت التقي فيها بالسياب امام مكتبة باب المعظم كان السياب قد تغلب على غربته في بغداد الى حد كبير ووجد اصدقاء بين المثقفين والشعراء الذين اهتموا بعطائه الشعري مع اول قصائده التي نشرها في جريدة الاتحاد وهو مازال طالبا في دار المعلمين التي فصل منها عام 1946 لمشاركته في المظاهرات ضد السياسة البريطانية في فلسطين! ولكنه عاد لاكمال دراسته وتخرج معلما ليعين مدرسا في ثانوية الرمادي!! ثم منع من التدريس لمواقفه السياسية، وسجن لفترة، وتنقل باعمال مختلفة متناقضة مع جسده الضئيل ونحافته الشديدة التي كانت احيانا مادة للتندر بين اصحابه... وعندما جرحت يده مرة وسال دمه قال احد
تخيلوا بدر شاكر السياب في الوظائف التي شغلها في تلك الفترة: مأمور مخزن في شركة لتعبيد الطرق، عامل في شركة التمور العراقية - و مستخدم في شركة نفط البصرة!!
اهتم السياب بما كنت اكتبه وانا ما زلت طالبا في الثانوي، واغتبط عندما علم انني نشرت اول قصة لي وانا في الصف السادس ابتدائي!وقال انه ايضا بدأ كتابة الشعر وهو طالب في الابتدائية!! وعندما نشرت موضوعا بعنوان (من انا) في جريدة الراية الموصلية قرأه ثم نظر الي طويلا وقال (هذا اكبر من عمرك..)
واهداني نسخة من ديوانه (أزهار ذابلة) وقد سحرني كونه رومانسيا غارقا في الرومانسية، كان يعيش في عالم خيالي مليء بالضباب ويعبر عن حزن عميق غامض مليء بالخيالات والاوهام والهروب من الواقع، وهذا ينسجم مع مشاعرنا في تلك المرحلة حيث تغلب الروح الرومانسية الحزينة الغامضة ونحلم بعالم افضل.
وشجعني السياب على قراءة الكتب السياسة وخاصة الماركسية والتقدمية قائلا انها تفسر لك العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وبدون ادراك ذلك يكون تفكيرنا قاصرا!!
(من المعروف ان السياب ارتبط بالماركسيين عدة سنوات، ثم انفصل عنهم وارتبط بالاتجاهات السياسية القومية. وكتب سلسلة من المقالات في بداية الستينات من القرن الماضي بعنوان(كنت شيوعيا)، وقد تبنته بعض الحركات القومية او المناهضة للشيوعية، مع انه لم يكن منتميا الى أي حزب من الاحزاب القومية.)
في عام 1952 حينما اضطربت الاوضاع السياسية في العراق بعد الانتفاضة اختفى السياب عن مسامراتنا الواقفة امام مكتبة سميع في باب المعظم، وعلمنا انه هرب متخفيا الى ايران ومنها الى الكويت حيث حصل على وظيفة متواضعة في شركة الكهرباء! وسافرت انا لاكمال دراستي في فيينا!!
وفي عام 1954 وصلتنا مجلة الاداب وفيها قصيدته الرائعة والفريدة (انشودة المطر)
ومنذ ان كنا صغارا كانت السماء
تغيم في الشتاء
مطر
مطر
مطر
في تلك الفترة حدثت ثورة 14 تموز، وكان السياب متحمسا لها، وشاءت الصدف ان التقيه يوم 17 تموز هو والشاعر المبدع حسين مردان (1927- 1972) امام مطعم وفندق النهرين قرب ساحة حافظ القاضي، وطلبا مني ان ادعوهما الى وجبة قوزي او تشريب!!
وبينما نحن نتناول غداءنا، سمعنا ضجة في الشارع صارت تتزايد، مما دفعنا الى الخروج نستطلع الامر، فعلمنا بان الناس قد امسكوا بنوري السعيد، وشاهدنا المنظر البشع لجثته يسحبها الهائجون بالحبال!! وبينما وقف حسين مردان يراقب المنظر بصمت وكأنه لا يصدق ما يرى، سحبني السياب الى داخل المطعم معبرا عن رفضه وادانته للاعمال الغوغائية التي اعتبرها مسيئة للثورة!
**********
في عام 1961 بدأ ت صحة السياب تتدهور حيث بدأ يشعر بثقل في حركة واخذ الالم يزداد في اسفل ظهره بعد ذلك ظهرت حالة الضمور في جسده وقدميه
انا قد اموت غدا فان الداء يقرض غير وان
حبلا يشد الى الحياة حطام جسم مثل دار
نخرت جوانبها الرياح وسقفها سيل القطار
وظل يتنقل بين بغداد وبيروت وباريس ولندن للعلاج دون فائدة اخيرا توجه الى الكويت للعلاج فتوفي بالمستشفى هناك في 24 كانون الاول عام 1964 عن 38 عاما ونقل جثمانه الى البصرة حيث دفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير..
وكعادة هند كامل عند استعدادها لاداء دور في فيلم او مسلسل تلفزيوني قامت بتحضير نفسها للعمل الجديد، خاصة وانه يدور حول شخصية حقيقية واقعية لا افتراضية،وكانت اصلا من المعجبين بشعر السياب، فاخرجت من مكتبتنا المنزلية الكتب التي لها علاقة بالسياب، واقتنينا كتبا جديدة، وصار السياب وحياته وشعره شغلها الشاغل لبضعة اشهر وكثيرا ما يصبح الحديث عنه جزء من جلسات السمر مع الاصدقاء، وفي تلك الفترة، ومن خلال قراءة هند لسيرة السياب - وهي تحضر لدورها في المسلسل عن حياته - ازدادت معرفتنا بالسياب كشاعر كبير بكل معنى الكلمة، شاعر ترك وراءه رغم انه مات في الثامنة والثلاثين من عمره ثروة من الشعر الغزير الخصب الذي جعل منه احد اعظم شعراء العربية المعاصرين في تنوع انتاجه وغزارته وشموله لكثير من القضايا والتجارب الانسانية، وبالرغم من شهرته عاش فقيرا طيلة حياته ونكب بمحنة المرض وهو في قمة شبابه، ورحل بعد ان تألم كما لم يتألم أحد، لقد كان يعاني آلام المرض العنيف الذي سكن جسده ولم يبرحه ولكنه مع ذلك كان يحس بالامل وكان يحتمل في صبر كل جراحه وكان يحلم ان يعود من المستشفيات الى قريته (جيكور) فيخاطب ربه قائلا:
لانه منك حاو عندي المرض
حاشا، فلست على ما شئت اعترض
والمال؟ رزق سيأتي منك موفور
هيهات ان يذكر الموتى وقد نهضوا
من رقدة الموت كم مص الدماء بها دود
ومد بساط الثلج ديجور
اني سأشفى، سأنسى كل ما جرح قلبي
وعرى عظامي فهي راعشة والليل مقرور
وسوف أمشي الى جيكور ذات ضحى
وكان السياب يشبه نفسه بايوب حيث ابتلته الاقدار بمرض قاس أليم كما ابتلت أيوب، وكان عليه ان يصبر ويتحمل كما صبر أيوب. ففي قصيدته (سفر أيوب) تعبير عن هذه المحنة التي جعلت منه
يا رب أيوب قد اعيا به الداء
في غربة دونما مال ولا سكن
يدعوك في الدجن
يدعوك في ظلموت الموت أعباء
ناء الفؤاد بها فارحمه ان هتفا
اعدني الى داري الى وطني
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الالم
لك الحمد ان الرزايا عطاء
وان المصيبات بعض الكرم
فهل تشكر الارض قطر المطر؟
وتغضب ان لم تجدها الغمام؟
شهور طوال وهذى الجراح
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح الليل اوجاعه بالردى
ولكن أيوب ان صاح صاح:
" لك الحمد، ان الرزايا ندى
وان الجراح هدايا الحبيب
اضم الى الصدر باقاتها،
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة. هاتها"
التعليقات
مازال هناك الكثير
محمد الجوراني -غربال ذاكرة الياسري اثار من تحت المعروف للمهتم خط اثارة لمعرفة تمتد مابين القصيدة و التاريخ لحياة واحد من أهم المبدعين العراقيين في القرن العشرين..و أقول للسيد فيصل الياسري مازال هناك الكثير ليقدم على الشاشة في زمن الصخب.. أتمنى أن يكون هنالك مشروع للياسري عن السياب و هو الذي يعرف كيف ينتقي الاستثنائي من بين ثنايا العادي..jurany5@yahoo.caأتمنى أن أسمع منك يا سيدي، مع حبي و صادق أمنياتي بعام جديد و أما جديد..محمد الجوراني
شاعر النخيل
علي عبداللة امريكا -رحم اللة شاعرنا الكبير السياب وهو صرح من صروح العراق بلد الانبياء والرسل العراق بلد الحظارة الف شكر لسيد فيصل الياسري الذي سلط الضوء على شاعرنا الكبير السياب في بلد تهان فيةالقيم والاخلاق ومع الاسف الشديد تذبح العقول العراقية على ايدي الدخلاء الذين لا يريدون ان يبقى العراق منارا للمعرفة هذا البلد الذي علم الانسانية كيف تخط بالقلم
الكل يتباكى عليه
دكتور خليل الزبيدي -كمقاسى في حياته بيد انه بعد رحيله عن عالمنا خرجالاف الحناجر ترثيه والاقلام تبكيه وهذا دائما قدر المفكرين والشعراء في عالمنا العربي الاسلامي. فما الفائدة في بكائنا على قبور الماضين ولم ننصفهم في حياتهم؟ولا نظلم امتنا اذا قلنا اننا اعتدنا الطلم ثم الندم والتأسف على ضحاينا.
Thank you Mr. Faisal
Karim Alkuraty -شكرا جزيلا لااستاذنا الفاضل فيصل الياسري.انك بطلتك علينا تعطينا بعض الامل بان العراق سيتعافا من هذا الوضع المعتم..باستمراريتكم ونشاطكم المتعدد الجوانب وامثالكم من المثقفين (وليس من خريجي سوق مريدي) سيتعافى العراق.بارك الله فيكم واطال بعمركم.
السياب اليوم
سالم حسون -ما اشد حلكة ايام السياب إن كان يعيش هذه الأيام في عراق مقتدى الصدر وجيش المهدي ، وعمائم الحكيم واحزاب الفضيلة والرذيلة وفيلق بدر وهلمجرا من أولئك الذين يسوقون ثقافة الموت والتطبير على أنها تعبير عن الحياة ، بدل ثقافة الشعر والفن والمسرح والأدب ، وما أدراك ماحل بالبويب وجيكور التي استباحهتها قطعان المعدان من الحواسم بجواميسها في منظر وحشي منقطع النظير .
تصحيح
فيصل الياسري -وصلتني ملاحظات كثيرة من قراء مهتمين بما اكتب في غربال الذاكرة ..فاشكرهم / واجد نفسي هنا مدين لقراء ايلاف بتصحيحين : الاول ان احد الاخوان لفت انتباهي الى ان مقتل نوري السعيد كان يوم 15 تموز وليس 17 تموز 1958 - والثاني قال احد المتابهين ان صاحب المكتبة التي كان السياب وغيره يقف امامها في باب المعظم هو حسن مراد وليس سميع اليهودي واقول ان حسن مراد قد يكون صاحب تلك المكتبة ولكن من كنا نتعامل معه هو البائع سميع وهو يهودي عراقي بكى عندما اجبر على مغادرة العراق الى اسرائيل !!والامر الثالث حول قولي ان وزارة الخارجية العراقية كانت جوار باب المعظم - وهذا كان فعلا في الحمسينات واعتقد ان المبنى ذا الطراز الشرقي ما زال قائما وفيه دائرة حكومية وهو مقابل وزارة الصحة حاليا التي اقيمت على موقع السجن المركزي السابق !!!!
رائع كما عرفاك
ظافر جلود -صديقي واستاذنا الفنان الرائع فيصل الياسري ، كلما اقرا ما تكتب يهزني الشوق اليك والى تلك المرابع الجميلة التي تقابل دجلة في الصالحية حينما كنا نتمسك بالحياة على الرغم من مخاطر وخوف المجهول الذي كان يترصدنا، وقلت لي باخلاص اهرب الى بلاد الله الواسعة ،اقرا فيما تكتب واشعر انك امامي بهذا الطموح والرغبة في اعادة الناس المنسين الى الذاكرة ، هذه ملامح رجل عشق العراق واحبه ، اعمل ياسيدي بكل ذلك العنفوان الذي عرفتك به إشحذ في ذاكرة الاخرين اننا مازلنا ننبض باسم الوطن بالرغم من ابتعادنا عنه قسرا، تحية من اعماقي اليكم ياصدقاءالوفاء ..
الباشا !
علي الغرباوي -يجب اعادة الاعتبار الى الباشا نوري السعيد كونه احد اهم مؤسسي الدولة العراقية الحديثة و لكونه ايضا مهندس السياسة العراقية و اتمنى ان اشهد اليوم الذي يعرض فيه عمل فني يتناول تاريخ العراق الحديث من خلال حياة نوري باشا أسوة بمسلسل الملك فاروق . تحياتي للياسري .
تحية حب
عادل الربيعي -السياب ذلك الطائر الجنوبي يبقى شامخا كنخلة خصيبية ابت الا ان تورق ثمر كي تطعم الجياع-فتحية لغربال هذه الذاكرة التي طمست معالمها في زمن لا يرحم--ورحم الله ابا غيلان وهو ينشد-- الشمس اجمل في بلادي من سواها والظلام--حتى الظلام هناك اجمل فهو يحتضن العراق---- فلوا راْيت العراق الان لبكيت بدل الدمع دما يا شاعرنا المعذب وها هي كلماتك التي تنباْت بها-مامر عام والعراق ليس فيه جوع--انك من توج الكلمات بسرمدية صعب على سواك ان يمنحها ذلك الرسوخ الجمالي المتاْلق--فرحم الله شاعرنا المبدع وتحية للاستاذ فيصل الياسري--------