قراءة في جديد محمود ماضي: أُحاذيكِ فَرَسًا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محاذاة المرأة بالفرس: قراءة في جديد الشاعر الفلسطيني محمود ماضي: "أُحاذيكِ فَرَسًا"
نصر جميل شعث من غزة: لم أبالغْ يومًا، كما لمْ أستعنْ بمُجاملةٍ لا أحسنها، وأنا أضيء المشهد الشعريّ والأدبيّ الذي ينضج في هذه البقعة العزيزة من الوطن وبقية أجزائه بما فيها مدن الثمانية والأربعين. فالجديد الذي يَخصنّي، في
ونَموذجي الجديد، إذًا، هو هذه المجموعة الشعرية الجديدة الثانية: "أُحاذيكِ فَرَسًا"، للشاعر محمود ماضي الصادرة حديثًا عن "دار ميم" في الجزائر. بوعيها الشعريّ المتقدّم، وبصفحاتها الـ 103، وبغلافِها الذي تنطبع عليه أسلاك حديد صلبة ومقوّاة وشائكة، ولكنها مطواعة، على هيئةِ امتداديْنِ رأسيين، كأنهما متوازيان. حيث التشكيلاتُ والالتواءات وَسط هذين الامتدادين الرأسيين - أي في الاستهلال والتصعيد الحديدي- علامةُ مسطحّة للحصار والقيود. وفي ضوء هذه العلامة الصلبة والمطواعة، في آن، بإرادة الشعر واليدِ والغد؛ لن يَمنعنا هذا المظهر العسكريّ من التعمّق في تأويل وقراءة علامة السطح/ الغلاف: فوضع أصابع أو أشواك الأسلاك الشائكة الحادّة في الصورة، هو يقارب حركة اليد التي تعبّر وتشير لمعنى النصر، الشعريّ، على الأقلّ والأجمل. فالشعرُ يَرقص ويتلوّى فوقَ وفي كلّ علائم وأبعاد وجهاتِ الحديد!
وتؤشّر هذه المجموعة الجديدة، منذ الصورةِ الشعرية التي ارْتضاها الشاعر عنوانًا لعمله؛ تؤشّر إلى سباق وجموح الرغبة. وتقتضي المحاذاة التوازي بين غايتين: المرأة التي يجعلُ الرجلَ يَنشدّ إليها حنين ورغبة الجسد للجسد، والفرس الذي يَشدّ الرجلَ إليهِ حنينُ وقِيَمُ الفروسيّة: "أحاذيكِ فرسًا وأرسم قلبًا يَشدّ على يدِ امرئ القيس طويلاً". وإنْ كانَ محمود ماضي يُسمّي امرأ القيس في قصيدته؛ إلا أنَّ المتنبي، بدلالاتِ صوته وصهيله وحمحمته، يَحضر في هواء أو فضاء الشاعر؛ انطلاقـًا من هذه القراءة الفنية لبيت المتنبي: "أتوك يَجرّونَ الحديدَ كأنما :: سَرَوا بجيادٍ ما لهن قوائم".
وعلى الرغم من استنتاج أو رسم صورة السياق: أي السباق والجموح بالمعنى الشعري؛ إلا أننا نلاحظ الشاعرَ يُقيّد لغته ومفرداته. وهذا يُوحي بِعملٍ مقصود للحفاظ على اقتصاد العبارة؛ الذي يقف مقابلاً للإسراف العاطفي الذي يلجأ إليه الشعراء لالتهام المسافة والفضاء باللغة غير المحسوبة جماليّا. فيُحافظ الشاعر على الرغبة الواعية باقتصاد العبارة، مثلما يحتفظ بالرغبة الجامحة بمعناها الشعري والدلالي: "تحت الريح جواد ينهبُ فضاءَ الصحراء"، "أحاذيكِ فرسًا كي يَضيقَ الغيابُ". وتَظلّ البنيةُ الفنية تَصونُ اقتصادَ العبارة، على الرغم من إفراط الشروط الموضوعية في عشوائيتها، وإهدارها للمعنى الإنساني في حلقة الصراع بين الضيق والفضاء، حيث المعاني الذاتية والمعيشية الكثيرة في أرض الواقع.
وعلى طول القراءة في المجموعة، المحمول الكلّي تحمله وتتجمّل به إرادة حنينٍ قويّ الحضور في الشاعر؛ حنين لمكانِ المرأة البعيد والبعيدة لا كمجاز، بل كحقيقة موضوعية مثالية على الأرض في أبعاد وآفاق المكان والزمان: "صوتُ البعيدةِ يُزهرُ حيثَ يَحطّ صداه". وليس كمثالية موضوعية عُليا في السماء. وحنين ارتدادي للفروسية البعيدة، في الماضي، والمشاركة الآن، من باب الخيال الشعري، في تسابق الفَرَس أو ظلّ الفرس مع المرأة؛ في صورة التحاذي والتوازي، هذه، بين رغبتين لا تتحققان بالمعنى الذاتي، ولا بالمعنى الوطني. فالأثر، الصوت، يَسبق الوصولَ الجسديّ الفعليّ للغايات المرجوّة:" فوضاكَ تزاحمُ أغنيةَ فَمي/ لو كنتَ فارسًا لانحنَيْتَ قليلاً/ وأخذتَ حينَ تـُغادرُ فوضاكَ/ لو كنت..". ولكنّ الصوتَ، صوتَ الشاعر، يُزهر حيث يَحطّ صداه؛ حتى وإن كانَ في قصيدةٍ له بعنوان "موسيقى هشة1" يُحدثُ تقابلاً بين جسدِ جوادٍ وظلٍّ يُسمّيه ويَصفَه فَرَسًا: "تحت الريح جوادٌ يتعثّر بظلٍّ فَرَسٍ". وهكذا تَعثّر إنما يُكرّسُ معنى التقابل الذي يبنيه الشاعر من ـ وعلى ـ سُرعةِ الترادف اللغوي المتداول بين الجواد والفَرَس.
وثمة أفعال أخرى رائجة في القصائد، تُصاحبُ وتشارك فعل التعثّر، بالمعني الدلالي في المجموعة، مثل أفعال الارتباك، الارتجاج، والشدّ المضارعة: "ثلاثة وعشرون عامًا وأنا أركض فوق جسر العمر/ مرتبكـًا/ أشدّ الخيل إلى جهتى". وقد سمّى الشاعر القصيدة الأولى- التي سبقتها عتبةٌ عاطفيّة مقتصدة- "ارتباك". ومن ثمّ القصيدة الثانية التي حملَتْ عنوان المجموعة. وهناك عناوين لقصائد أخرى تدعم سياق الدلالة العامّة للمجموعة، مثل "ظلّ متوتّر"، و"ظلّي فوق ظهري"؛ بما يشير إلى أحمال الذات والموضوع الثقيلة في أجواء الرحيل والفقد، في قصائد الشاعر: "منذ عامين/ والطين يَرحل"، " لكنّ النهر يَحملُ جبَّـتَه ويَرحل"، " فوق يدِكِ حملْتِ الجمرَ"، " شئتِ أنْ.. أرسمَ ظلاً وأحمله فوق ظهري"... وهكذا: الخيل وبعض الحنين يلازمهما الرحيل والفقد: "صهيلٌ يَحملُ وجهي إليّ/ صَهيل يَحملُ روحي إليها/ صَهيل يَرقصُ/ فيما الخيولُ تَموت". فمرّة نقرأ الصهيل بوصفه دالة على الحنين بالمعنى المُجرّد، إذ يضرب أو يَسرق الشاعرُ "موعدًا" مع هذا النوع من الحنين الموجع: "سأسرق بعض الحنين لأهزّ به هزائمي ليلاً"، ذلك أنّ: "الحبّ يقدر أن ينثرَ الحنينَ في كلّ زوايا الهواء". ومرّة الصهيلُ دالة الرغبة الجسدية - "القبلة حصان حرّ" - المستعاض عنها بما تختزنه الذاكرة وتنسجه المخيلة من صور:" الذاكرة سكرانة/ تزفر صهيل يُؤجّج نارَكِ وخَشَبي". وأيضًا: "النهدُ ارتباك المسافة/ النهدُ اسم الأمس/ وأيقونةُ الغد" * " بعدَ مليون عام من الآن../ سأحملُ موميائي إلى البحر لأرقصَ معها/ سأعيدُ الحياةَ إلى جثتي بالرقص../ بالرقص فقط". وهكذا، في عموم المجموعة، الحضور المكثّف للغةِ الجسد كطاقة حركية تعبيرية أكثرها أفعال الرقص، الركض، وحمل الظلال والأشياء لأرقى تجسيدات الشعر بالعبارة.