قراءة لرواية حكاية من النجف لحمودي عبد محسن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"الثوية" أرض النجف، وحصا تربها دُرُّ النجف.
يقظة أمواج بحر"الني" الجاف
وليلاً تَوَسّدنا الثَـويَّةَ تحتَـهُ
كأنّ ثَراها عَنبرٌ في المَرافق
بلادٌ إذا زارَ الحسانُ بغيرها
حصا تُرِبهـا ثقبتهُ للمَخانقِ
أبو الطيّب المتنبي
د. توفيق آلتونجي: بحر "الني" الذي جف فأصبح مكان ليخفى فيها جسد أمير المؤمنين و قبلة يرتادها الملايين حيث يرقد فيه جسد الإمام علي عيه الصلاة والسلام ليشع بنوره الى العالم وليشفع عنهم خطاياهم ك فناره،دليل، يهدي الناس الى كلمة حق ويفتح عقول البشر وبصيرتهم. النجف مدينة المرجعية ومركز العلوم والدراسات الإسلامية ومرجعا أعلى للمسلمين في كل مكان.
كانت آخر زيارة لي للنجف أواخر الستينيات وكلما زرت تلك المدينة المقدسة دخل الرهبة الى قلبي حتى إني في إحدى زياراتي نمت ليلة في الصحن الكبير لنذر نذرته المرحومة والدتي رحمة الله عليها ورضوانه. كان والدي رحمة الله عليه يعرف العديد من التجار من أهل النجف حيث كنا نبيت عندهم عند زيارتنا للمدينة المقدسة.
-قالت يا بني هذه أعرافنا... لا تسال لماذا نفعل كذا وكذا.
لا تخف يا بني فانا معك وعند شيخ جليل وسوف لا يصيبك الا الخير.
رفع يده على راسي ووضع راح كفه في المكان الذي تم حلق الشعر منه وبعناية وبدا بترتيل بعض السور والأدعية ثم اخرج قامة صغيرة كخنجر صغير ذو حد براق أملس. أحسست بعدد لمسات متتالية وسريعة في قمة راسي بعدها سارعت النسوة بالصلوات على روح سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الكرام.
لم أحس بشي من الألم للحظات إلا أن سائلا حارا قد تدفق من راسي.
احمل تلك الهوية الى اللحد.
كان عيناه عالقة بتلك اللوحة المعلقة على الحائط والتي خط عليها خطاط اصفهاني بجميل خطه آيات من الذكر الحكيم وقد بدا قطرات الدموع الحارة تسيل من عينية.. صمت للحظة وبدا شاردا
ابو كاظم
ابو كاظم
كان عربة القطار المتوجه نحو تركيا والتي انطلقت توا من محطة القطار العالمية في بغداد في مساء يوم شتائي قارص تحمل بين المسافرين أرواح أناس تركت ذكرياتها ورائها متوجه نحو المجهول في الغرب الذي كان قد سيطر على أفئدتهم ليكتشفوا الجديد والغريب في عالم جديد. كنت احد الجالسين في إحدى تلك المقطورات. كانت تلك المقطورة بيتا لنا نحن المسافرين ولأيام عدة فجلسنا لنتحدث ونروى ما شاهدناه. وكان جليسي طالب فقه من ألبان كوسوفو في جمهورية يوغسلافيا السابقة اسمه "جمال بيرام " اجتمع فيه العديد من صفات المؤمن التقي والمتنور فلم ينقطع عن الحديث عن مدينة التي يدرس فيها "النجف" طوال تلك الرحلة الطويلة والشاقة فكان نديما لي وانا اترك العراق للدراسة ولاول مرة في بداية السبعينات. بينما كان الشاعر "عبد المنعم حمندي" اثناء ادائي للخدمة العسكرية لاحقا يتغنى بمدينته "النجف" حبا ونحن نجلس على مصاطب احد مطاعم معسكر الرشيد قبل اكثر من ثلاث عقود ونيف ليحدثني بشغف عن مدى حبه لتلك المدينة التي كتب الكثير في مدحها، هذا الشاعر، رجل دين ترك الساية و الجبة (الملابس التقليدية لرجال الدين) وتجول في مدن اوربا الشرقية ليغرق في أمواج الخمر ويتسلل خفية الى أحضان حورية الشعر وليكتب في مدح الطاغية وحزبه وربما عن غير قناعة ثم ليواصل الشرود كغريق الذي يلتمس الشفاعة في قشة لعلها تنقذه من الأمواج العاتية و ينجو ولكن هيهات. تذكرت كل ذلك مع أسماء قائمة ليس لها نهاية من الشعراء والعلماء والمبدعين والسياسيين من أهل النجف الكرام قدموا للتراث الأدبي والإبداعي العراقي إنتاجا قويما أدراج مكاتب الدنيا ناهيك عن تركيبة هؤلاء من حيث الانتماء العرقي واللغوي ألتعددي الذي صاغه بيئة المدينة مكونة بوتقة حضارية تعددية محورها الأساسي العلم والمعرفة والإبداع حيث استوطن المدينة وتراثا للإنسانية تزخر بها كافة مكتبات الدنيا.
حمودي عبد محسن يقدم اليوم لنا رواية إبداعية عن المدينة وأهلها ليس فقط نتيجة لعصارة تجربته الشخصية الإنسانية التي عايشها وعائلته. تلك العائلة التي ترجع أصولها الى الأزمان الغابرة و التي ينتمي أهلها الى هؤلاء الأوائل الذين التفوا حول مرقد جدهم الإمام علي بن ابي طالب صلوات الله عليه وسلم سنة 170 للهجرة كي تنمو حولها مدينة وتمتد الى الجهات الأربعة بعد ان كانت قرية صغيرة بجوار احد أقدم مدن العراق القديم بكنائسها ومعابدها التي فعل الدهر فعلتها بهم فباتت خرابا وآثار قوم. هذه المدينة التي تطورت على تل رملي مرتفع بعض الشيء يعتقد انها كانت على ضفاف بحر كبير "ني" الذي جف لاحقا وتصحر المنطقة بأكملها حيث الصحراء التي تمتد بآلاف الكيلومترات في عمق الجزيرة العربية. لكن وربما لوعد قطعه على نفسه لرد جميل ولو عن بعد قسري في منفى طال أمده ليصل الى عدده عقود من السنيين. ذلك الشوق الأبدي لملاعب الطفولة ومرتع الصبا والى أزقة الحارات وأصدقاء الأمس يعود في الذاكرة الإنسانية دوما في رومانسية عجيبة ذو طعم ومذاق غريبين.
ان الشاب الأسمر "سلام" الشخصية المحورية في الرواية يحمل خصائص نجفية - حويشية (حويش احدى احياء مدينة النجف يسكنها النجفيون الاصلاء) كثيرة واخرى عراقية يجمع في اسمه تاريخا سياسيا ودينيا طويلا حيث ان مجرد التسمية بمعناه الصوري والحقيقي يترجم فصولا من تاريخ العراق الحديث ولكل الذين يجنحون الى السلم وينبذون العنف. سلام شخصية عراقية عربية،كردية، تركمانية و كلدو اشورية يتكلم بلغاتهم يحس أحاسيسهم هناك في زاخو في فؤاد الشهيد صالح اليوسفي او في أرواح شهداء الاهوار وآلتون كوبري وحلبجة الذين كان أملهم ان يسود السلام ربوع الوطن هؤلاء شهداء كربلاء عبر العصور وحلبجة وعاصفة الصحراء والانتفاضة الشعبانية ويوم الانفال والدجيل والمفقودين وشهداء القبور الجماعية وكل من مات مظلوما على ارض السواد. هذه الشخصية المحورية الرمزية تتحول عند حمودي عبد محسن الى كتلة من الأحاسيس يترجم فيه الكاتب طموحاته وآماله ويشكي اليه قصوره وزلاته في تصوير بديع لمجمل التراث الفكري والأدبي من التراث الاسلامي وتراث حضارات ارض الرافدين من حكايات شعبية وملاحم بطولية وروايات جدتنا حول المنقلة بجمراتها الملتهبة في ليالي الشتاء القارصة وعند انسدال ستار الظلام في أماسي الصيف الطويلة والأعراف والعادات المتوارثة عن الأجداد الركام وفي تصوير حي لمجمل تلك التفاصيل النمنمية لحياة اهل النجف الكرام وحيث تلك البيئة الحارة ومدى أهمية السراديب في حياتهم وتلك النسمات التي تأتي بها "البادكير"، تلك الفتحات للتهوية السراديب، عند نوم القيلولة في الظهيرة ويكون السرداب عادة في الطابق السفلي من البيت في حين تعلوها عدد من الشبابيك الصغيرة وعلى مستوى سطح الأرض لدخول النور. ان استخدام الكاتب للمفردات المستخدمة في اللهجة المحلية النجفية ك: (بايه، دربونه، طارمه، جادر، حوش، بيتونه، خرزه، براني، دوشق، الرازونات، كراجي، طاس، خاكه، بيتونه) تعطي للنص مذاقا ونكهة متميزة وخاصة ان تلك المفردات هي نتيجة حتمية للتواصل والتداخل بين ابناء قوميات و ثقافات المتعددة التي تحملها اهل النجف فنرى كلمات هندية، افغانية، اندنوسية، تركية، اذري، فارسية واخرى كوردية تستخدم وربما للدلالة الى من قدم الى تلك البلاد واتى بالجديد فمثلا كلمة باد كير فارسية الأصل كما ان كلمة "باية "درجات السلم وتعني قدم واحد" تستخدم في الكوردية والتركية والفارسية.
"الإمام قادم" أم الإمام قد دفن عند تلك الدرة النجفية البيضاء الناصعة بعيدا عن عيون المتربصين والأعداء ليقي مرقده ويحمي المدينة وأهلها و يبقى مخفيا طيلة قرنين من الزمان يزوره مريده ومحبيه سرا عند جرف البحر الجاف الذي كانت شواطئه تحمل الخير لأرض السواد فتحولت رمالها الممزوجة بدماء الأئمة والأنبياء الى مكان أمن للأرواح عند مقبرة وادي السلام فباتت تتعانق في الأفق في عرس سماوي يتكرر كل يوم. كما نرى في الرواية العربية الحديثة ان بيئة المدينة او القرية تعتبر من المكونات الأساسية للسرد الروائي للحدث ومتكاملة مع شخوص الرواية. لم يكن المكان في القصص القديمة الرافدين الا مكملا تفصيلا للحدث فهي فقط مسمى"شوارع بغداد في العهد العباسي"، قصر الملك، مجلس الخليفة. اما السرد التفصيلي للمكان كمحرك للحوادث ضمن الرواية فقد عولج بزخم في الرواية المصرية والعراقية والسورية وأدب المغرب العربي. لذا نرى بان حمودي يأخذنا الى عالم المكان، المدينة، بكل تفاصيلها التراثية لتوثيق المكان والحدث ليندمجان مع شخصية سلام وفي أحلامه ويقظته وآماله. اذ نرى بان مرقد الإمام ليس فقط طرحا رمزيا للإمام الحاضر"المرقد" بل يتجاوزه الى الإمام الغائب القادم"المهدي" والمخلص للأهل المدينة ومن عذاباتهم.
الرواية تبدأ عندما يكتشف سلام وصية والده"مهدي رسول- اسم رمزي كذلك" التي تحوي كذلك مخطوطة خطها والد سلام بقلمه"ملائكة الرحمة" حيث يوصي بحق نشرها محصورا ب سلام الابن. تاخذنا فصول الرواية 12 الى عالم الأموات ورحلة في مقابر وادي السلم يتخللها وصف دقيق للمكان والكثير من النصوص الدينية التراثية وأشعار وأدعية وكما نعرف بان الرقم 12 رمزي والرقم بحد ذاته يعني فيما يعني الأئمة الاثناعشر والاثناعشرية كحركة دينية وفكرية انعكست على الحياة الاجتماعية والسياسية في العراق وايران خلال اكثر من دهر من الزمان تؤمن بأحقية الخلافة للإمام علي من بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام. نرى أهمية الماء في حياة اهل هذه المدينة المقدسة الذين كانوا يعانون الأمرين من عدم وجود المياه الصالحة للشرب الا في مسافة تبعد اكثر عشر كيلومترات من شاطئ نهر الفرات وحيث ان الأرض رملية مرتفعة تصل الى 70 مترا فوق مستوى سطح البحر فان جلب الماء من الفرات ياخذ موقعا مهما في تاريخ المدينة وتراثها. نرى كذلك اهمية الموروث الديني في سقاية العطاشا حيث شهداء كربلاء من آل البيت الكرام الذين ماتو عطشا. نرى ان سقي حجاج المرقد بماء السبيل يعتبر من واجبات المؤمن التقي خاصة في ايام عاشورا.
". نزلت سردابا، ثم آخر، ثم إلى سرداب السن، وكان القط يقف بقربي فتهادى إلي صوت وحشي ممتدا إلى قرون قديمة: - من أين قدمت؟
: - هذا شأني.
: - لا تريد أن تبوح بالسر.
: - أبدا.
: - أنت هبطت من الفردوس، ماذا وجدت فيه؟
: - الفضيلة hellip;نور الهدى hellip;
: - لماذا عدت إلى الأرض؟
: - هذا شأني hellip;
: - الاشتياق أعادك hellip;
: - أجلhellip;
: - الاشتياق إلى الأرض التي تمشي عليها الدواب.
: - أجل hellip;و الإنسان وكافة مخلوقات الله.
: - وماذا يريد الله في مقابل ذلك.
: - الخير، والعبادة، والتقوى.
: -وماذا أريد أنا في مقابل ذلك؟
: - الشر، والرذيلة hellip;
: - أصرت تتحدث دون خوف؟!
: - أجل hellip;
: - سأريك قدرتي، سأجعل مخلوق آدم في ضلالhellip;
: - اسجد لآدمhellip;
: - hellip;لاhellip;آدم من طين، وأنا من نار، والنار أولى من الطين.
: - هذه مشيئة اللهhellip;
: - وهذا خلافي مع الله منذ أن سجدت الملائكة لآدم، ولم أسجد أنا، هل أنت من جند اللهhellip;؟!
: - اجلhellip;
: - سأنتصر عليك في نهاية المطاف، وأقودك إلى الهاوية، وأنزل على ابنك الهلاك.
: - لا hellip;ملائكة الرحمة تحميه، الصبرhellip; الصبر، سينجو ولدي من بلائك أيها الشيطان الرجيم، إلى المبارزة يا عدو الله."
كتاب جدير بالقراءة والتمعن والتأمل يأخذنا في سفرة في الموروث الثقافي الديني التراثي لأبناء الرافدين المتجمعين في النجف الاشرف والقادمون من كل حد وصوب. لقد بذل الناشر جهدا استثنائيا يشكر اليه في الإخراج البديع للكتاب والأستاذ سهر العامري صاحب مؤسسة كلكامش ينشر كتب مبدين من كتاب العربية في المنفى في دار فيشون ميديا للطباعة والنشر في السويد. الكتاب في 147 صفحة من القطع المتوسط.
ط
السويد
اشارات:
موسوعة النجف الاشرف/جعفر الدجيلي/ ط1 1993 بيروت
ثورة النجف / حسن الاسدي/ط1/ 1975 بغداد
ماضي النجف وحاضرها ج1/ط1/ 1986
موسوعة العتبات المقدسة/قسم النجف/ج1/ط2، 1987 بيروت
- أصول مذهب الشيعة الإمامية ؛ للدكتور ناصر القفاري
المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة ـ المطبعة النموذجية بالقاهرة
مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري ـ طـ 1 ـ 1969
الشافعي، محمد أبو زهرة ـ دار الفكر العربي ـ مصر
تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة، د. عبد الله فياض ـ مطبعة أسعد ـ بغداد،1970
دراسات في الفِرَق، د. صابر طعيمة ـ مكتبة المعارف بالرياض ـ 1981
مختصر التحفة الاثنا عشرية، تحقيق محب الدين الخطيب ـ القاهرة ـ المطبعة السلفية
الملل والنحل، أبو الفتح الشهرستاني ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ ط 2 ـ1975
الشيعة والسنة، إحسان إلهي ظهير ـ إدارة ترجمان السنة ـ لاهور ـ الباكستان ـ1977
الشيعة والتشيع، إحسان إلهي ظهير ـ إدارة ترجمان السنة ـ لاهور ـ طـ 1 ـ1984
الشيعة وأهل البيت، إحسان إلهي ظهير ـ إدارة الترجمان السنة ـ ط 3 ـ1982
الفِصَل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم ـ جدة ـ طبعة 1982
الخطوط العريضة، محب الدين الخطيب ـ ط 5 ـ القاهرة ـ المطبعة السلفية
الصراع بين الشيعة والتشيع، الدكتور موسى الموسوي
عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في الإسلام، د. سليمان بن حمد العودة، الرياض
التقريب بين السنة والشيعة. د. ناصر بن عبد الله القفاري ط 4 ـ الرياض ـ دار طيبة.