المسألة العربية سردا

كنت قد تخيلت قصة في ليلة أمس ذلك قبل الاستغراق في النوم. قصة طويلة لا إزدهار فيها ولا شخصيات أو أحداث. أذكر منها الآن بصيصا لا كلمات فيه. فقط صورا قليلة مبعثرة، احداها مثلا عن "أمل دنقل"، كنت قد أطلقت عليه اسم "صاحب لا تصالح". وصورة اخرى فيها ينزل "الاخوان" من الدبابة في العرض العسكري ويتوجهون نحو المنصة ويطلقون الاناشيد مع الرصاص وكنت أظن أن نزولهم مسرحية لا أكثر، لكن حركة الكاميرا نحو الأسفل وتعثر المصور وخوفه أكد أنها حقيقية تحدث في أحد شوارع القاهرة.
سأمر فيه بعد خمسة وعشرين عاما، وستقول من ستمررنني فيه "هنا انضرب الريس" تشير بيدها البضة النحاسية وهي تقول للسيارة أن تذهب نحو اليمين والشمال كي تقلد مشي الدبابة.
وهناك أثر في الصورة فوقف أحدهم بعد انتهاء الحدث والكراسي مقلوبة والصورة بالأسود والأبيض وكان الذهول النازل وهو يثبت العمرة العسكرية فوق رأسه ويتساءل "الريس فين" فقلت: من هذا؟
أريد أن أتذكر كيف حضر صاحب لا تصالح. فلا أتذكر، كان كما القصيدة إن لم تمسكها من الأول فستتبخر. هي رياح تجري.. تدفعها السماء.
كان حاضرا بين الكراسي المقلوبة. أربعة فقط نزلوا، أو ثلاثة من الدبابة ومالت قليلا عن الخط كي تؤدي التحية عن قرب.
مالت ثم مشت.
لقد أضعت الصورة الأساسية، أحسست أنها صعدت إلى مكان ما. فهي صورة لا تحب أن تبقى عالقة في الفضاء في مكان واحد، هي حرة تحط هنا ثم تحط هناك.
صورة أخرى عن بيروت، لا أدري ماهو الرابط بين بيروت والقاهرة، كلا المدينتين تشرفان على نفس البحر، ويرى الناس فيهما كيف يتغير ويهيج ويبدل وجهه. لكن الناس في بيروت يختلفون عن الناس في القاهرة. لماذا؟
هناك سبب، وهو اللهجة واللحن والموسيقى. فالموسيقيون اللبنانيون يحملون السلاح بدلا من القيثارة، ويطلقون الزغاريد حين تمر دبابة، أما المصريون فغير ذلك، كيف؟ لا أعلم.
هناك اختلاف، اختلاف قادم من الفراعنة ومن الكنعانيين والساحليين الذين استوطنوا منذ فجر التاريخ أرض البحر.
كان هناك أحدهم حاضرا ويدفع بيروت كي تتغلغل في اليابسة وتبتعد عن البحر، ذلك كي تصير على مشارف دمشق. كأنه أطلس الذي تخلى عن حمل العالم وقرر دفع المدن. يدفع بيديه المتينتين الناس والبيوت. المدينة تتأرجح. الحدث بالنسبة للعالم كان عاديا.
من الناحية العملية، دفع مدينة كاملة، عاصمة، سيخلق فيها تشوها جميلا، عذبا، فالبيوت والحديد والصخر والجبال كلها ستعيد التفكير مرة أخرى في طرائق خلقها وتكوينها.
والناس في بيروت بين عذابين، عذاب أن يكونوا عربا وعذاب أن يكونوا نازحين..مهاجرين نحو باريس. فقرر أن يعيد الحساب كي يرضي الناس ويبدل الدفع. لماذا أدفع المدينة نحو دمشق؟ يفكر. فهذه المرة يريد أن يشد بدلا من أن يدفع. سوف يشد بيروت نحو البحر كي تسبح وتقطع الماراتون نحو يابسة جديدة حيث كما يعلم جميع البحارة أن باريس في الجانب الآخر من البحر، ليست على نفس البحر وليست على نفس اليابسة.
مرة قال أجدادنا، إن باريس مربط خيلنا.
فذهب يدفع المدينة نحو مرابط الخيل. وكان في الساحة خيول وكل ماخلق الله من سباق.
القرار أن بيروت رحلت او حين استيقظنا لم نجدها، اين بيروت، نسأل، يقول أحدهم يحمل نعاسه معه اينما حل: كانت هنا ثم عندما استيقظنا ذهبت. هي مدينة من حلم، ينتهي الحلم. انتهت.
والقاهرة - هنا القاهرة- كان صوت المذيع يتردد، صوته صوت الكنائس، كالصدى الذي يخلق الجبال.
أما دمشق، لا تسألوا عن دمشق لأنها تريد وتريد وهي مرة في ساحة المرجة ومرة على تلال قاسيون فحين يمر السائحون يوجهون نظرهم إلى السماء. دمشق مدينة المدن، المدينة التي بللها المطر وأنزل عذابه عليها المطر حين ينزل على مدينة بيوتها على سفح قاسيون بيوت تنك وصفيح تتقارب كثيرا مع القاهرة التي قررت بسبب الازدحام أن تتصالح مع مقابرها. فلا فرق بين ميت وحي. الكل أموات. ومن لا يصدق لينزل نحو ههناك، إلى مقابر الشرق كي يرى.
في القصة كانت هناك ثلاث مدن، أما بغداد فقد كانت غائبة والسبب هو السجن التي دخلت فيه. لم نعد نراها خارج الأسوار. فهي صاغرة للتمثيل بها.
هنا انتهت القصة. إلا أن هناك وجودا غائبا. أين هو؟
البحث عن العالم العربي هو أشبه بالبحث عن بعير في صحراء الربع الخالي. ففي مثل هذا العام منذ مائة عام مضت كان الشريف حسين يفكر.
يفكر ويحس، والعالم عنده يومض ببارقة برق بصواعق صغيرة بغيوم تحمل ندف الثلج والمطر- كنا وقتها لسنا هناك بل فوق. لم يكن أحد ممن يمشون الآن على هذه الأرض هناك، لأن الأرض تبدل وجهها كل مائة عام. الأرض التي غنى فيها الموسيقي الأعمى: الأرض بتتكلم عربي.
كان يا ماكان في قديم الزمان، في القرن العشرين والواحد والعشرين، مطربانات الخل على الأرصفة وفي الصحف وفي صحائف القصائد وبينما كان صاحب لا تصالح يدور حول عمود الكهرباء بجنون الضوء والفراشات كان العالم ساكنا.
لدي ورقة صغيرة كتبت عليها "على كتـَفـْي طلعة حرب" الذي له قاموس في وسط المدينة. لا ادري لماذا ميتافيزيقا طلعة حرب حضرت.
إن كان هناك قارئ يستطيع أن يجد الرباط بين الأشياء التي حضرت هنا ويشدها فوق ظهري فإنني سأكون بخير، بين طلعة حرب والشريف حسين وصاحب لا تصالح والدبابة والأربعة الذين نزلوا ودمشق وبيروت ومربط الخيل.
لكن كل هذا الخليط الغازي سيولد الفوران. مثل كوكا كولا أو السنيالكو حين نخضها للشرب فنشرب نخب الزمان الموحل الذي أغلق علينا أبوابه وجعلنا كائنات فضائية تفكر بالفضاء أكثر مما تفكر بالأرض.
تهتز قليلا الشاشة: الريس فين.
بالطبع، بعد "الريس فين" مصر صامتة مثل أبي الهول. تستلقي على سريرها تأكل كي تسمن وتأكل مرة أخرى كي تسمن حتى يمسى وزنها " 700 كيلوجرام" ولن يستطيع احد إخرجها من غرفتها.
في موسوعة السمنة الزائدة ينصحون عادة بإزالة أحد جدران الغرفة، ذلك عن طريق هدمه كي يخرجوا منها الجثة النائمة في سريرها.
حينما يكون الباب ضيقا.
تمسي الغرفة بثلاثة جدران.
الجدار الرابع الذي يجب أن يزال هو مسألة عربية.

hsolaiman@hotmail.com