مقدمة في الفلسفة البابلية (الحلقة الثانية)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مقدمة في الفلسفة البابلية د. حسين الهنداوي: "بابل العظيمة ام الزواني ورجاسات الارض" يقول (العهد الجديد) من "الكتاب المقدس" لدى المسيحيين في تقييم الثقافة البابلية كما جاء في "رؤيا يوحنا"(17-5) التي امتلكت لديهم على الدوام اهمية لاهوتية كبرى بين مجمل نصوصه.
للوهلة الاولى قد يصدمنا هذا التقييم من جهة طابعه التنكيلي في الاقل بثقافة عظيمة كالثقافة البابلية لا سيما وانه ليس توليفة فنية لشاعر هائم في البراري او قولة لسياسي متعنت او خطيب عنف، انما يتعلق، وهنا تكمن معضلته الاستثنائية، بعقيدة روحية وقيمة اخلاقية تقدسها عوالم مسيحية باكملها وعلى تعاقب امبراطورياتها وحضاراتها اللامعة، والكونية غالبا، نظرا لانها مؤمنة بها كجزء من كتاب تعتبره صادرا عن الهام الهي ويأخذه اتباعه كمقدس أي مطلق الصدق والعدل والابدية.
بيد ان الصدمة تتلاشى رويدا رويدا حالما نسعى الى استكناه سر هذه الشحنة المدهشة من الغضب التي ينطوي عليها هذا النص والتي تعلن عن نفسها بنفسها فيه. ففي الواقع، ودفعة واحدة تقريبا، نجد انفسنا وجها لوجه امام تضاد داخلي عميق وعنيف يتوحد في هذا النص اصلا ليمنحه سطوته الاخلاقية الصارخة النابعة من يقينه الراسخ بان بابل لم يكن لها ان تستحق كل هذه اللعنة "الالهية" والكونية والابدية لو لم تكن هي نفسها، او هي وحدها، "بابل العظيمة"، كما لو ان "المقدس" يأنف ان يلعن وبهذه القسوة الحسودة، الا عظيما فعلا ومقدسا هو الآخر. وها من عظيم ومقدس يستحق الحسد العظيم والمقدس غير الثقافة العقلانية البابلية؟
والحال، ان "أم الزواني ورجاسات الارض" بابل هذه ليست الا العقل البشري، لا سيما وان القديس يوحنا يعلم بداهة بإعتراف "العهد القديم" بوجود الحكمة والحكماء في بابل (دانيال 2: 8- 9). فالعقلانية تحديدا هو ما تلعنه "رؤيا يوحنا" تلك برأينا كما لو ان العقلانية البابلية وحدها من كان ينبغي ان يدفع تلك الضريبة الكونية القاسية دفاعا عن العقل بالمعنى الكوني. "فلقد كانت بابل معطِلة لظهور مجد الله وملكه" بنظر اللاهوتيين المسيحيين الرسميين الذين توجوا هذه التفسير بايمانهم بأن بابل تباد دينياً كحضارة روحية اولا (أصحاح 17) ثم كوجود عمراني ثانيا (أصحاح 18) بل اعتقدوا ان اسلافهم سمعوا من السماء تهليلا عظيما ومكررا من الرب تأكيدا على أن أحكامه بتدمير بابل، هي احكام حق وعدل.
هكذا اذن، فمكسورة عسكريا على يد قوة همجية ساسانية مندفعة لحظتئذ كالطوفان في نشر الخرائب والظلام، ومحكوم عليها اخلاقيا باللعنة والرجم من قبل رموز روحانية تنكيلية غيورة الى درجة الضغينة والحسد لشدة هوسها باحتكار السمو الى حد اسقاط أي رادع يمنعها من انزال الاتهام بالزنى والرجاسة منزلة القيمة الاخلاقية المطلقة، لم يكن امام الثقافة البابلية من خيار سوى اللجوء الى عالم باطني كانت قد ابتدعته بنفسها من قبل لتحمي به وقت الشدائد والنكبات آلهتها المخذولة لكن النابضة بالخصب والخير والجمال والعدل والعقل كتموز وأيا واينانا وننسون.
وكما لو انه محض قدر ميتافيزيقي كتب عليها، تعرضت الثقافة العقلية البابلية الى الف سبي وسبي وتنكرت لها ولعنتها ايما لعنة ثقافات خرجت من رحمها اصلا واخذت منها كل شيء تقريبا، بل كل شيء في الواقع.
فطوال قرون لم تعد تحصى نجح لاهوتيون يهود ومسيحيون إثرهم ان يفرضوا كـ "علم مطلق" فكرة ان لحظة "الخروج" على أور ومن اور مسقط رأس النبي ابراهيم خليل الله هي تحديدا نقطة النور الاولى في الوعي الكوني، البشري وغيره، بينما حتى "العهد القديم" لم يفتأ يؤكد ان ابراهيم النبي كان عراقيا ومن اور تحديدا التي لا تقع الا على مسافة فراسخ معدودة من وريثتها بابل. كما لم تفتأ تؤكد انه لم يخرج من مسقط رأسه العراقي فتى او جاهليا انما على العكس كان في لحظة الخروج تلك ذاتها شيخا جليلا و"ابْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً" (تكوين 12:1-8)، وموحدا بلغ لحظته العليا من الحكمة والرفعة والانسانية والتشبع بثقافة بلاده الاولى وبمياه الفرات نهرها المقدس، اللذين ظل احفاده واحفاد احفاده وكل الوعي الابراهيمي اطلاقا كما يبدو يتشوق اليهما هائما مسحورا الى درجة صار هذا التشوق بذاته لحظة جوهرية من كينونته الميتافيزيقية بلا شك لكن والسياسية ايضا احيانا.
وبفضل قسرية ذلك "العلم المطلق"، استطاع ورثة اولئك اللاهويتيين في فترة لاحقة ان يطوروا، لا سيما في الغرب المسيحي الوسيط، وعيا انتقائيا شبه راسخ مؤسس هذه المرة على بدعة ان نص "العهد القديم" هو وحده ما يمثل ادب "العالم القديم" وفي الشرق خاصة.
ثم تفاقمت الخرائب التي احدثها هذا الوعي الثقافي الذاتي عندما جاء المؤرخون والمفكرون ايضا ليرثوا عن تعصب اللاهويتين الاسماء والتواريخ والوقائع والتقييمات التوراتية كما لو كانت حقائق ازلية الصدق ومطلقة، بل ان بابل وثقافتها وعظمتها ازيلت كلها من الذاكرة ولم تعد تستحضر الا كرمز لعالم ملعون وغير عقلاني برغم انها لعنت كرمز للعقل في البدء.
وكان من الممكن ان يمكث الحال هكذا لولا ذلك التضاد الاصلي الذي ظلت نطفته كامنة في جذور ذلك الوعي ذاته او لا وعيه في الاقل سواء حملناه مضمونا سيكولوجيا كما فعل سغموند فرويد (في مؤلفه "موسى والتوحيد" مثلا) او اقتصرنا على مضمونه العقلي المباشر والمحض كما فعل هيغل في مفهومه الذي يماهي بين الوعي اليهودي والوعي السلبي او الشقي.
وبرأينا، فإن ذلك الوعي حاول دائما، في لحظاته المنظمة او التلقائية على حد سواء، الاستجابة والتآلف مع ذلك الاحساس الغامض والخفي الذي ظل يراوده كالكابوس عبر نمط من الشعور بالتنكر للاصل ثم الذنب احيانا حيال عظمة العقل البابلي الذي يقول له كل ما هو مقدس وعظيم وعبقري فيه هو نفسه بانه منبعه الاول والجميل. وهنا ينبغي البحث عن مصدر هذا التناقض القديم الجديد في تقييم بابل لديه. فهي "ام الزواني ورجاسات الارض" في وجه و"العظيمة" في وجه آخر. وهي جنائن داعرة من جهة واعظم بل أوحد عجائب الدنيا السبع من جهة.
تناقض صارخ اذن لكن ليس خاصا بذاك الوعي وحده انما بكل الوعي المتفرع عنه، قديما وحديثا، الذي وبمجانية وقسرية غالبا، ترك نفسه يقع فيه من غير سبب عندما قبل ان يذهب نفس المذهب ايضا.
بلاشك، ان الروحانيين اليهود هم، حسب المصادر المتوفرة، المبادر الى اعلان اللعنة والتنكر وتاليا القطعية مع الثقافة البابلية على اساس انها مشركة لاهوتيا برغم ثبوت وجود عقيدة التوحيد في بابل وقبلها في اور مع النبي ابراهيم خاصة بل على الارجح قبله. الا ان الروحانيين المسيحيين ورثوا هذه القطعية بشكل كامل بل واكثر ظلما وحماسا ما داموا هم من سيمنحها قدسية مطلقة في بعدها العالمي والغربي المعروف. اما الوعي الاسلامي، فرغم انه لم يشتم الثقافة العقلية البابلية ابدا بل رفض السحر والسحرة في بابل، لم نجد بالمقابل احدا من رموزه فعل شيئا لانصافها. وفي الواقع، ان اللامبالاة الثابتة التي اختارها الوعي هذا لنفسه، حيال الثقافة البابلية، تثير الدهشة بشكل مضاعف نظرا لانه، بمعنى ما وريث بابل المباشر وربما الوحيد ما دام الوعي المسيحي سارع وحال افتراقه عن اليهودية الى التطابق مع العالم الغربي وثقافته الاغريقية ومع هذا الاخير وحده تقريبا.
وهنا ايضا كان ينبغي انتظار المؤرخ الكبير ابن خلدون ليطلق السؤال الكبير "أين هي علوم اهل بابل؟" ويقصد علومهم الفلسفية وعلم التاريخ خاصة كما لو انه وجد، هو كذلك، ان من الغريب واللامعقول ان لا يكون البابليون اشتغلوا في هذا الحقل ايضاً. وبرغم استحالة الجواب المناسب انذاك، لم يشأ صاحب "المقدمة" الا ان يؤكد يقينه الافتراضي بالعبقرية العقلية للبابليين عندما كتب: "لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل الينا". هذا هو الاستنتاج الذي توصل اليه هذا المفكر الخالد، قبل ان يؤكد يقينه الافتراضي بوجود الفلسفة كما يوحي بذلك هذا القول نفسه، محاولا تعليل النفس بالجواب الوحيد الحاضر لكن العقيم ايضا: "العلوم كثيرة والحكماء في اهل النوع الانساني متعددون، ومالم يصل الينا في العلوم اكثر مما وصل".
وهذه هي محاولة الجواب الاخصب في الواقع التي نجدها لدى المفكرين العرب والمسلمين طوال قرون ثقافتنا الكلاسيكية الراحلة، ويكمن حصرها اساساً في بعدها المتريث والمنفتح. ذلك لأن أي تقييم موضوعي للفكر العقلاني البابلي، الشهير جداً لكن المجهول كلياً في نفس الوقت حينذاك، كان عصياً بسبب غياب او انعدام امكانية الاطلاع عليه، مما جعل ان من الاسلم، بالنسبة للمفكر والمؤرخ الرصين كإبن خلدون، ان يترك الجواب همّاً مؤجلاً مستقبلياً لاسيما وان من التأليف والاثار الفكرية للبابليين، "لم يترجم لنا من كتبهم إلا القليل مثل (الفلاحة) لابن وحشية من اوضاع اهل بابل، فأخذ الناس من هذا العلم وتفننوا به" كما كتب في "المقدم".
والمعروف ان العالم والفيلسوف العراقي أحمد بن علي المعروف بإبن وحشية النبطي الكلداني، الذي عاش في نهاية القرن الثالث الهجري والمتوفي في 914 ميلادية وضع مجموعة مؤلفات عن العلوم البابلية اشهرها كتاب "الفلاحة النبطية" الذي اعتمد فيه على نصوص الكتب البابلية القديمة في العلوم الزراعية والفلكية.
ولئن سيطول انتظار ابن خلدون، فان لاهوتيا مسيحيا من الغرب هو اول من سيؤلف دراسة حول الفكر البابلي بعد الفي عام على التنكر الغريب لهذا الفكر. فمن الثابت لدينا ان اللاهوتي الهولندي اوتون فان هيرن Othon Van Heurn (1577-1648) هو اول مؤلف في العصر الحديث سعى الى اثبات ان هناك فلسفة بابلية في كتاب باللاتينية حول "الفلسفات الاولى" صدرت طبعته الاولى في 1600 في ليدو بعنوان "الفلسفات الاجنبية" القديمة " Antiquitatam Philoghiae Barbaricae Libri Due" Leydo - 1600)" والذي، وهذا يستحق الانتباه بحد ذاته، سيحمل عنوانا آخرا واكثر دقة في طبعته الثانية الصادرة عام 1619 هو "الفلسفات الاولى البابلية والهندية و المصرية" (Babylonica، Indica، Sythica، Aegypliaca philosophoca primordia ibid، 1619.
بداهة ان اهمية هذه المؤلفات تقتصر الآن على بعدها التاريخي وحسب بفعل محدودية مادتها المعرفية. لكن الغريب ان الدراسات حول الفلسفة البابلية لا زالت في الغرب (وفي الشرق ايضا) بعد اربعة قرون على كتاب هيرن اسيرة تلك العقدة اللاهوتية التي تعيق المؤرخ او المفكر لحد الأن، بإستثناءات نادرة، عن الاعتراف الصريح والنهائي بان بابل الاصل في الفلسفة ايضا، وذلك خاصة، ودائما، بسبب ضغط ذلك الموروث اللاهوتي ذاته الذي تحول الى منهج ثابت في اوربا والغرب عموما منذ اقترانه بمفهوم تلفيقي آخر سموه "المعجزة الاغريقية" في الفلسفة فيما الفلسفة هي النقيض المطلق لمفهوم "المعجزة" جملة وتفصيلا، ومن هنا دعوتنا الى لزوم التخلص من مفهوم هجين وملفق في الثقافة العربية يطلق عليه اسم "الفكر الاسطوري" مقتبس بشكل مشوه واعتباطي من نفس تلك الثقافة المعادية لبابل.
دعونا الآن نطرح الموضوع بمنهجية اخرى لتوضيح هذا المفهوم:
كان فيثاغورس اليوناني اول من ابتكر مصطلح "فيلوسوفيا" اي "حب الحكمة" وذلك في حوالي العام 530 قبل الميلاد اذا صدقنا ديوجينيس اللايرتي (Diogenes Laertius) الذي يخبرنا في كتابه "حياة الفلاسفة"، العائد الى القرن الثالث قبل الميلاد، ان فيثاغورس هو اول من وظف هذا المصطلح في تعريف ذلك الضرب من النشاط الذهني الانساني الذي يعني جوهريا لديه: النظر في نظام واحكام الموجودات (COSMSO) مشترطا ان يكون هذا النظر هدفا بذاته، بمعنى ان لا يستهدف تحقيق كسب ما او التمتع بلذة ما بل يستهدف المعرفة النظرية المجردة Episteme بذاتها.
واقول اذا صدقنا ديوجينيس اللايرتي، لان الرجل الف كتابه المذكور في حوالي القرن الثالث بعد الميلاد، اي بعد نحو ثمانية قرون من الزمن على الاقل من وفاة فيثاغورس علاوة على ان الكتاب بإجماع المتخصصين في هذا المجال، ينطوي على الكثير من المعلومات العشوائية والانتقائية ويعتمد اساسا على مصادر يونانية متأخرة او مفقودة لا تمتلك الكثير من الاهمية والثقة.
وفي كل الاحوال يتعلق الامر هنا بولادة مصطلح جديد في اللغة اليونانية وليس بولادة ظاهرة ldquo;حب الحكمة" كنشاط خاص لا شك انه موجود قبل ولادة اللغة اليونانية نفسها وثقافتها بالاف السنين.
من جهته، كان ارسطو اليوناني اول من افترض بان طاليس الملطي (560 قبل الميلاد) هو مؤسس الفلسفة وذلك في كتاب ارسطو "ما بعد الطبيعة" حيث وبعد ان يشير الى ان الفلاسفة الاوائل اهتموا اساسا بمعرفة وتحديد المبدأ الاول لأنبثاق الاشياء، يعلن ارسطو عن اعتقاده بان طاليس، بقوله ان ذلك المبدأ الاول هو الماء، يمكن ان يعتبر بحق مؤسس الفلسفة. بيد ان ارسطو لا ينصب طاليس الا كمؤسس للفكر الفلسفي اليوناني وحده من جانب والا كمؤسس للفلسفة الطبيعية من جانب آخر مؤكدا في الحالتين انه "ليس متيقنا" من ذلك.
وهذان المقترحان العرضيان في الاصل والعتيقان منهجيا، مقترح فيثاغورس في منح الفلسفة كنشاط ذهني متميز اسما يونانيا ومقترح ارسطو في منحها مؤسسا يونانيا ايضا، مكثا لردح طويل من الزمن دون مترتبات حاسمة على الخاصية الكونية لهذا النشاط بالقدر الذي كانت فيه روحية الثقافات السائدة على التوالي في ذلك العالم القديم كونية في الجوهر على صعيدي الانتماء والتطلع سواء الاغريقية - الرومانية منها او المسيحية والاسلامية.
وكان ينبغي بالفعل انتظار حلول القرن السابع عشر وانبثاق النزعات القومية فيه لنشهد نزوع مؤرخي الفلسفة الغربيين الى التقاط المقترحين اعلاه لاستعمالها كـ "اساس متين" لنظرية ايديولوجية في التعامل مع ظاهرة الفلسفة، كما مع غيرها من الظواهر الثقافية والسياسية الاخرى، تنطوي على مضمون عرقي او جغرافي هذه المرة بعد ان كان لاهوتيا من قبل. فطوال الفترة ما بين قيام الدولة الرومانية وبين انبثاق عصر النهضة الاوروبية، دخل الفلاسفة الاغريق عالم النسيان تماما في الغرب بما فيهم فيثاغورس وارسطو نفسيهما ولم يعد يذكرهم، وهذه مفارقة بحد ذاتها، الا الشرقيين والمسلمين خاصة الذين عن طريقهم فقط استعادت اوربا، بما فيها بلاد الاغريق، اكتشاف الفلاسفة الاغريق من جديد.
اما اكتشاف مقترحي فيثاغورس وارسطو اعلاه، اللذين يمنحان الفلسفة اسما ومؤسسا يونانيين، فلم يتم ايضا الا عبر مؤلفين مسلمين ذكروا ذلك من بينهم ابن النديم في "الفهرست" والمقدسي في "عيون الانباء" وابن القفطي في "تاريخ الحكماء" وآخرون غيرهم. بيد ان هذا القول لا يعني ان الامر يتعلق بمجرد اعادة اكتشاف وحسب غير مرتبطة برغبة ذاتية. اذ ينبغي ان نلاحظ من الان ان الولادة الاولى لفكرة "المعجزة الاغريقية"، والمقصود الاوروبية في الواقع، في انجاب الفلسفة تعود لدوافع ايديولوجية كما ذكرنا مرتبطة بتلك الفترة الاوروبية من القرن السابع عشر تحديدا. فقد ظهرت اول ما ظهرت كمجرد عنصر من عناصر السجال الكثيرة التي ابتكرتها العقلانية النهضوية الاوربية الصاعدة آنذاك لاستخدامها في صراعها ضد المؤسسة اللاهوتية الكاثوليكية، وتحديدا كتوليفة مضادة لمبدأ "معجزة" المسيحية او المسيح ذاتها.
بيد ان هذا الاستخدام سيتطور لاحقا، مع بقائه ايديولوجيا في الاصل والجوهر، ليوجه ضد الشرق اجمالا وذلك منذ ان تحولت العلاقة بين العقلانية الاوروبية وبين المؤسسة اللاهوتية الكاثوليكية من طابع التمرد والصراع الى نوع من المساومة التاريخية والتحالف الموضوعي لاسيما بعد الهزيمة السياسية للثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر. وهذا الاستنتاج توحي بصدقة كافة الوثائق التي بين ايدينا الان حول هذا الموضوع.
وعلى اية حال، ان قضية العلاقة بين ولادة الفلسفة والشرقيين كانت موضع صراع عنيف في الاوساط الفلسفية الغربية قبل الثورة الفرنسية تحديدا حيث انقسمت تلك الاوساط بهذا الصدد الى تيارين رئيسين يمثل الاول منهما احسن تمثيل برأينا مؤرخ الفلسفة الاشهر في اوروبا آنذاك جاكوب بروكر الذي كان كتابه ذو المجلدات الخمسة "التاريخ النقدي للفلسفة" المدون باللغة اللاتينية بعنوان "Historia Critica Philosophiae" والمنشور بين 1742 و 1744 في لايبزغ، الكتاب الاكثر تداولا واحتراما في مجاله لدى الاوساط الفكرية والاكاديمية الاوربية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وعلى الاخص لدى الموسوعيين الفرنسيين.
ويتبنى هذا التيار، اذا شئنا الاختصار الشديد، تصورا تقليديا مسيحيا للتطور التاريخي للفلسفة كان القديس اوغسطين اول من اسسه في كتابه "مدينة الله" يقوم على القول بان الفلسفة الحقة الهية المصدر بالضرورة وانها بدأت وجودها، لدى العالم، في الشرق اولا ومنذ آدم وبالتالي يكذب من يقول بان الاغريق هم مؤسسو الفلسفة ذلك لانهم اقتبسوا نظرياتهم الفلسفية من الشرقيين بعد ان كانت انتقلت من الانبياء اليهود الاوائل الى البابليين والكلدانيين والمصريين والاحباش والهنود وحتى الى الجرمانيين قبل ان تصل الى الاغريق الذي يمثلون لدى هذا التيار مرحلة انحطاط الفلسفة وتشرذها الى نحل اورفية ومأثورات حكمية ساذجة احيانا.
ويقيناً فان التقليد الاوغسطيني ينطلق من اعتبار الفلسفة هي من تلك الحكمة الإلهية المقترنة بالشجاعة الأدبية لتطبيق المعرفة حيث يقول "العهد القديم" أن الله أعطى دانيال وأصحابه "معرفة وعقلاً في كل كتابة وحكمة" (دانيال 1:17).
ولنلاحظ هنا ان هذا التيار لم يكن يهتم ادنى اهتمام في الواقع بمنح الفلسفة البابلية اي اعتبار برغم اعتراف "العهد القديم" كما اشرنا الى وجود الحكمة والحكماء في بابل، لان ما يهمه بالدرجة الاولى هو الدفاع عن مفهوم مسيحي ذاتي ودوغمائي تقليدي عن تاريخ الفلسفة لا يرفض الاعتراف بالفلسفة اليونانية الا لانها خارج اطار اللاهوت المسيحي الذي يتموضع اوغسطين داخله مانحا اياه مصداقية مطلقة كفكر عقلاني وحيد وفي كل المجالات بما فيها السياسية.
وضد هذه الدوغمائية الشمولية وفي الصراع معها ولد ذلك التيار النهضوي الذي سيعرف بـ "فلسفة الانوار" الذي اتخذ لنفسه مسارا معاكسا تماما للدوغمائية اللاهوتية تلك وعلى كافة الاصعدة.
وتتمثل فلسفة الانوار جوهريا في تيار فكري جديد ومتمرد، تملكته كليا نزعة عقلية نقدية كونية انسانية اخذت لديه صفة معيار مطلق الصدق ووحيد ايضا. الامر الذي قاده الى اعلان تبنيه الجريء لموضوعة ان الفكر ينبغي ان يكون حرا مهما كانت النتائج. ومن هنا ولدت حتمية تصادمه العنيف احيانا مع يقائن الكنيسة في ميدان المعرفة والاخلاق وموقفه ضد استبداد تحالف النبلاء - الاقطاع في مجال السياسة والحقوق.
لقد شغفت حركة الانوار بمغامرة احلال قطيعة جذرية داخل الفكر الاوروبي بين "القديم" و"الحديث" على صعيد القيم المعرفية كافة. لكن فلسفات الانوار مثلت عبر رغبتها باحلال العقل والاستفهام محل الوحي والايمان، واحلال الحرية والتسامح محل العبودية والتعصب، ثورة كبرى ضد مفاهيم الحق المقدس الالهي والوضعي في تجاوز سيادة العقل مما ادى الى تطور الموقف الغربي من الثقافات الانسانية غير المسيحية جميعا ولا سيما من الثقافة الاغريقية القديمة. فقد نالت هذه الثقافة حظوة شاملة وعاطفية في آن واحد.
بيد ان هذا الموقف الجديد من الثقافة الاغريقية لم ينصف الثقافة البابلية عمليا برغم ان "الكتاب المقدس" يؤكد اسرافها في العقلانية ملحا على بعدها الدنيوي الذي كان يفترض ان يجعلها مقبولة جدا من قبل فلاسفة الانوار. هذا الحال قاد بدوره الى دوغمائية شمولية جديدة اوربية القلب والتعصب هذه المرة. وبعد فترة وجيزة من برود الحماس الانسانوي لديهم اقصيت كل الثقافات الانسانية غير الاوربية مجددا من اهتمام المفكر الاوربي الذي وجد مناسبا له استبدال المفهوم اللاهوتي الاوغسطيني القائل بانحطاط الفلسفة مع مرور العصور بمفهوم تطوري يقول بتقدم الفلسفة مع مرور العصور لكن هذا التقدم لا يتم عمليا الا في الغرب وحده مما يمنح هذا المفهوم سمة ايديولوجية جلية وصارخة ومنذ خطوته الاولى.
ولعل الفرنسي كوندرسيه هو الذي اعطى هذا المفهوم دفعة الولادة الناضجة. فعلى اساس انه من الآن فصاعدا لا يمكن القول الا بالحقائق التي يقوم البرهان عليها، يقرر كوندرسيه في كتاب نشره في عام 1794 بعنوان "مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري" ان العبقرية الفعلية الاغريقية هي رائدة النوع البشري التي "فتحت له ابواب الحقيقة كلها" لاول مرة. وعليه لم تعد الفلسفة الاغريقية انحطاطا للعقل كما عند بروكر انما على العكس غدت البداية الحقيقية للفلسفة.
هكذا ببساطة الغيت صفحة الفلسفات الشرقية من تاريخ الفلسفة دفعة واحدة مرة اخرى. بيد ان قرار كوندرسيه لم يكن ابتكارا منه في الواقع. فقبله بعقود كان هيرمين الالماني قد سبق المفكرين الفرنسيين في هذا المجال. ويذكر مؤرخ الفلسفة الالماني جان غوتلب بوهل((BUHLE، JEAN-GOTTLIEB في كتابه المعنون "تاريخ الفلسفة الحديثة منذ عصر النهضة حتى كانت" المنشور في 1805 (
HISTOIRE DE LA PHILOSOPHIE MODERNE DEPUIS LA RENAISSANCE DES LETTRES JUSQU' KANT PRECEDEE D'UN ABREGE DE LA PHILOSOPHIE ANCIENNE DEPUIS THALES JUSQU'AU XIVE SIECLE، Gouml;ttingen، 1800-1805، 6 tomes en 7 volumes
ان هيرين كان زعيم المدافعين عن موضوعية العبقرية الاعجازية الغربية في انجاب الفلسفة رافضا الاعتراف للشرقيين باي دور مهما صغر في الابداع الفلسفي، وذلك في كتاب اصدره هيرين بالالمانية بعنوان "تاريخ دراسة الادب الكلاسيكي" ونشره في حوالي منتصف القرن الثامن عشر. وهو ما يؤكده كذلك مؤرخ فلسفة الماني آخر شهير في ذلك الوقت ايضا وهو تنمان الذي يضيف في كتابه الضخم "تاريخ الفلسفة، (11 جزءا لايبزغ 1798 - 1819) ان قضية نفي علاقة الشرقيين بولادة الفلسفة حسمها هيرين في كتابه المذكور.
Histoire de l'eacute;tude de la litteacute;rature classique que Heeren
وسواء كان كوندرسيه او هيرين هو من اسس مبدأ الغاء دور البابليين في الابداع الفلسفي فان هذا المفهوم لم يكف عن التطور منذ ذلك الحين وبشكل اكثر فاكثر ذاتية وحدة كما نجده لدى عدد لم يعد يحصى من المفكرين الاوربيين ليس آخرهم برتراند رسل في كتابه "حكمة الغرب" الذي يقول فيه ان مصر القديمة وبابل عجزت عن الوصول الى ابداع العلوم والفلسفة وبالتالي فان العلم والفلسفة لديه هما على حد قوله "اختراعان يونانيان".
وهذا هو في الواقع التيار الرئيسي السائد حاليا في الغرب حول هذا الموضوع والذي ساهمت في تكريسه موجة اثر اخرى من المفكرين ومؤرخي الفلسفة المسكونين بلوثة الذاتية الغربية بدءا بهيرن او كوندرسيه ومرورا بفكتور كوزان وارنست رينان ثم في القرن العشرين ببرنيت وغومبرز ورسل والعشرات غيرهم لعل آخرهم مؤرخ الفلسفة الامريكي الكاثوليكي المعاصر كوبلستون الذي يقول في مستهل الفصل الاول من موسوعته الفلسفية "ان البحث في ما اذا كانت الافكار الفلسفية لهذا الشعب الشرقي او ذلك قد نقلت الى الاغريق وكيف، هو مضعية للوقت" مستنتجا بنشوة ساذجة "ان الاغريق هم مفكرو وعلماء اوروبا الاصليون بلا منازع".
يتبع..
التعليقات
ملبلب
البابلي -مقالة مفيدة عن البابليين وما تركوه ورائهم من تراث إستفادت منه حضارة وادي الرافدين على شكل تماثيل وأصحاح يوحنا "أبو العرق البابلي" وفعلا نسب أسمه للسلالة البابلية، وكذاك في منطقة أور الأثرية لحضارة سومر كان هناك مواطن يسمى " جوحي السومري ابو الفستق" . المهم ما علينا الحضارات غنية ولكن الحاضر أغنانا غناءً بابلياً، بحيث أخنا نغني كما البلابل.
موضوع قيم ومقال مهم
أمجد ياسين -مقال جميل ويؤسس لنهضة فكرية اذا ما دعم اكادميا من جهة وبأدلة مادية من جهة اخرى،فليس من المعقول ان تكون اقدم الحضارات والتي استنسخت الهتها حضارات اخرى ،لاتحوي على فكر فلسفي وفلاسفة عظام.شكرا للكاتب
بابليات الاحتلال
مؤرخ الاضطهاد -اولا تحية للكاتب المحترم وبعد لقد قرات الاسفار عشرات المرات وفي سياق الاصحاح 18يوحي للقاريء ان البابليون سوف يبتعدون عن الحكمة وكما موجود-بل اعتقدوا ان اسلافهم سمعوا من السماء تهليلا عظيما ومكررا من الرب على انحكمه بتدمير بابل هي حق وعدل للبابليين التاركين العقل والعقلانية فسيكون التدمير لانها مهبط الحكمة ويكون الدليل الخراب وعلامته الغبار الذي خيم على بغداد عشية الاحتلال والضلام حبث يعيش العراق في الضلام لحد الان
بابليات الاحتلال
مؤرخ الاضطهاد -ان اية قوة عالمية كونية تدمر بابل مصيرها الانكساروالخزي الثقافي والعار الاخلاقي الابدي وهي لم تقدم علي تدمير بابل الا لانها فقدت التوازن الاخلاقي كماذكر في التوراة الاصحاح 18 \القوة المدمرة لبابل محكوم عليهابالعار والعنة لشدة هوسها باحتكار السمو الى حداسقاط القيم الاخلاقية- وهذامايحدث الان في امريكا والعالم حيث انتشارقيم الدعارة والشواذ
بابليات الاحتلال
مؤرخ الاضطهاد -والخلاصة اقول من حق اي بلد في العالم ان يركب راسه ويجافي العقلانية اذاماتعرض الى خطر كالخطر الخميني اوتعرض الى ظلم كويتي باغراق السوق النفطية بالنفط الرخيص نكاية بالعراق ولكن لايحق للعراق ان يجافي العقلانية مطلقا والا ستكون مشكلة كونية وتاتي القوة المحكوم عليها بالتدمير الاخلاقي لتدمر بابل وهذا ماحدث لكل ببابل فعلا وصدقت التوراة والحمد لله رب العامين
بابليات الاحتلال
مؤرخ الاضطهاد -والخلاصة اقول من حق اي بلد في العالم ان يركب راسه ويجافي العقلانية اذاماتعرض الى خطر كالخطر الخميني اوتعرض الى ظلم كويتي باغراق السوق النفطية بالنفط الرخيص نكاية بالعراق ولكن لايحق للعراق ان يجافي العقلانية مطلقا والا ستكون مشكلة كونية وتاتي القوة المحكوم عليها بالتدمير الاخلاقي لتدمر بابل وهذا ماحدث لكل ببابل فعلا وصدقت التوراة والحمد لله رب العامين
بابلية الكون
مؤرخ الاضطهاد -سيظل سلام العالم مرهون مع الاسف بالحكمة والعقلانية البابلية التي كانت ولازالت صمام امان العالم ومتغيراته الاجتماعية في مجتمع اقوى قوة كونية والمتغيرات المناخية الناتجة بلا شك من اللعنة البابلية وكذالك بداء العد العكسي لضمور وانكسار القوة التي تفردت بالسمو وازاحت كل من وقف في طريقها وهي امريكا مع الاسف نعم لقد صدقت التوراة ولله الحمد
بابلية المافيا
مؤرخ الاضطهاد -وتنطبق حالة الضموروالانكسار والاحتقار الاخلاقي والسقوط في مستنقعات الذل ولافلاس الحضاري لكل القوة المتفردةبالقيادة على مستوى البلدان حيث ستطال حتما قوى المافيا المنظمة الخفية لانها هي التي خلقت تلك القوة الكونية الايلة للسقوط الاخلاقي بسبب اتباعها احقر الطرق وانتنها في تدمير نفسية شعوبهابترتيبها المؤامرات لتدمير العوائل الامنة وتدبير حرق البيوت والسيارات والمطاعم وتدبيرحالات اصطدام السيارات ومتابعةايذاء مكتشفي حقيقتها في كل انحاء العالم وبذالك استحقت السقوط الاخلاقي بسبب افعالها المذكورة والتي سبب بدوره الى حالة الضمور والبرود الجنسي الدائم لتنزلق اخيرا في اللعنة البابلية