احمر.. اسود!!، اسود.. احمر!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
- هل تعرفين سبب ثورة الجواهري في المطار؟ سأ ل فرات
- عدم تنظيم خالتي - ام نجاح - لمعدات وملابس ووثائق سفرنا. أجابت اميرة
- انك مخطأة تماما.
- ما هو برأيك اذا ً؟.. اهو وصولنا الى المطار غير مبكرين؟
- ولا هذا ايضا ً.. انك تجهلين الجواهري. لقد كان كل ذلك حججا ً مفتعلة لينفجر بالهياج المصوغ على هيئة غضب، لا لشيء إلا ليغطي ضعفه في ان يود ّع ابناءه الثلاثة.. أن
ان يشهد فراقهم لأمد طويل.. القاهرة بعيدة ياعزيزتي!.. إنفجر بالغضب والنقمة على الجميع لاسباب واهية، و الحقيقة دون اي سبب، وصبّ شتائمه على الخالة، وغادر المطار حتى دون ان يعانقنا هروبا من ضعف لا يريد أن يراه احد فيه.. إنه يكره الوداع!..
اذكري لي مرة واحدة في مطار او محطة كان فيها مودعا ً حتى لاقرب الناس اليه؟
- والله صحيح - قالتها بعد لحظة سهوم وتفكير - لا اذكر مرة واحدة.
- لقد اشفقت عليه بشدة في تلك اللحظات.. انه لا يطيق ان يشهد احد لحظات ضعفه وانفعالات تأثره في حزن او وداع، بل حتى في فرحة لقاء شخص عزيز.. مـِرجل من المشاعر المغيـّبة.
كنت استمع الى ذلك الحوار وانا اجلس جوارهما على مقعدي المحاذي لنافذة الطائرة وانا اداري خليطا من الحزن والاثارة والحلم، ملقيا ببصري الى الغيوم وبقع الضوء والظل المتسابقة على مربعات الارض المتباعدة في الاعماق.
" الاصدقاء.. الصخب واللعب على ضفاف دجلة.. مسابقات العوم.. اقاصيص الليل على شطئانها.. كل ذلك اصبح بعيدا الآن.. "
" المدينة العريقة الضخمة اتية، تلك التي كنت تحلم بان تراها كلما شاهدت فيلما مصريا.. ازقتها العتيقة، مقاهيها الحافلة بالنور والصخب.. " واحد كركاديل.. واحد قهوة على الريحة يا عم حنفي وصلـّحو!!.. اسم فخم يشبه الكركدن.. لكن ما هو شكل وطعم الكركديل؟!.. كيف تكون القهوة عل الريحة؟!.. وكيف يصلـّح عم حنفي هذه الطلبات!.. القلعة.. الهرم.. النيل.. الترام.. " ايوه كده.. أ ُمــال.. يا جدع.. هل ستستطيع ان تقلدهم في نطقها هناك..
لمّ َ لم يثر غضب ابوك في المطار فزعك؟.. اثار عطفك وشفقتك وحزنك.. من سينقل الآن " سفرطاس" غدائه الى الجريدة.. " تفضل استاذ فلاح فد لقمة وياي.. " كم كنت اشعر بعطف كبير تجاهه وهو يفترس طعامه كنمر جائع
.. ما هي الغربة التي تتحدث عنها جدتي بمرارة، " شلون إلك صبر يامهدي إ تيّهم ببلاد الغربة.. "..
" الرجاء شد الأحزمة استعدادا للهبوط في مطار بيروت "، يرتفع صوت قبطان الطائرة.
وشوشة البحر عجيبة، غامضة كالفضاء المترامي الابعاد.. نثار النجوم في بحر السماء.. الجوف الاظلم يبتلع كل ما حوله اضوية الرصيف الكابية، هفيف النسمات، صدى الموج المتهامس، يبتلع جوف الظلام كل ما حولي، حتى حواشي الساحل الرملي حتى اجزاء من الجروف الصخرية.. يكاد يسحب مبتلعاً الرصيف العريض المقفر الذي اقف عليه واعمدة الضوء الكابية.. اشباح الفنادق القليلة المنحدرة تزحف بسكون صوب الهوة العميقة.. ازحف معها كلها صوب الغور..
.. اجهد في تثبيت قدمي على ارضية الرصيف.
.. اذاً هو ذا البحر العجيب..!!
الزرقة المخضرة.. اللازورد.. تتخطى زجاج النافذة.. تنساب في الغرفة الانيقة الواسعة.. تعلو.. ترتفع.. اجدني طافيا وانا في سريرالفندق الوثير وسط البحر الممتدة ابعاده الى حواشي الزرقة الارجوانية الخفيفة المنسدلة كالوشاح عن صفحة السماء المنثـنية برقة فوقها......،..،..
اهرب على عجل وقبل اكمال افطارنا نحن الثلاثة في شرفة الفندق الواسعة الى الرصيف الخالي إلا من افراد قلائل من مارة متأنقين.
استمر في السير اسيح في الزرقة المخضرة في عوالم البحار السندبادية السبعة.. معارك السفن (القرصان القرمزي) (القرصان الدموي).. (كابتن هوك).. تتباعد وتتشابك الصواري في البحار الهائجة وسط العواصف المزمجرة.. تشتد معارك القراصنة..
يرتفع صوت احد المارة.. اصحو الى الزرقة الشافة الهادئة امامي.. ها قد وصلت الى مشارف المدينة المكتضة..
يقترب شاب بملابس قروية.
-احمر اسود!.. احمر اسود!.. اسود احمر!
.. يعرض امامي وعلى افريز الرصيف العريض ورقتا لعب سوداويتين و ثالثة حمراء.
- بص واربح.. شوف واربح.. هدا يوم حظك بص وشوف.. احمر اسود.. هادي حمرا، هادي سوده، وهادي هي الحمرة..
.. ارى الورقة الحمراء تستقر بوضوح في الوسط.
- ياللا بنلعب.. بدك تكسب نص ليرا؟! ياله، ياله.. فين الحمرا.. فرجيني فين الحمرا
اعاد رمي الاوراق بسرعة.. ها هي الورقة الحمراء تعود من جديد وتتوسط بوضوح الورقتين السوداوتين
اضع اصبعي على ظهر الورقة الوسطى واقول بتاكيد احمر!
يقلب الورقة.. ياللجذل، اكاد اقفز نشوة.
- غلبتني يا ملعون..!!.. يدفع نصف الليرة بأريحية.
نواصل اللعب.. اشير باصبعي بثقة الى موقع الورقة الحمراء من جديد
-اسود!
.. اخسر الجولة.
.. " زلة بسيطة " اخاطب نفسي.. " ما عليك لم تخسر شيئا ً لحد الآن! ".
أشير مرة اخرى.. ضاعت نصف ليرة اخرى
" لا تهتم، مرة تصيب ومرة تخيب.. لكن الامور هذه المرة واضحة كالشمس، ارى الحمراء من جديد في الوسط.. ركـّز فقط!! "..
أشير!.. واخسر!!
.. اشير واخسر!..،.. وأخسر!.. واخسر!.. ضاعت الليرات الخمسة.
.. اكفهر البحر وعبست وجوه المارة.. ضاع حلم التجوال المرفـّه في المدينة، اختفت الحلوى اللبنانية المجففة، والشاورمة الشهيرة ونزهتنا البحرية نحن الثلاثة التي كلفت بشراء تذاكرها.
* * *
".. كنت في عمرك تقريبا آنذاك.. آه لو تعلم ما هي الآمال التي راودتني والطموحات التي لم اتمكن من وضع حدود لابعادها المترامية، الشاهقة، بل حتى الخطرة منها. الوان منها راودتني وانا اضع رأسي على الوسادة الندية في السطح الاعلى من البيت، اخترق افلاك السماوات واسيح بين كواكبها المنثورة في الفضاءات المتسامية عاتمة الزرقة. ركبت سفينة (درب التبانة) كي اصل اسرع الى ما اريد، مرة الى هذا النجم المشع واخرى الى الآخر الابعد الاقل لمعاناً.. الى ذلك النجيم الذي يـُطل بحياء ويتلاشى وراء وشاح الد رب المشع.. يخفق الوشاح كشعاع تائه في اليم الداكن ويغيب النجيم ويتراءى من جديد وراء الذ يل السائب.. غدا عيد الاعياد ومطلع المنى وبدء المسيرة الكبرى.
اصحو قبل الجميع وانسى صلاة شكراني الموعودة في الفجر رغم طربي لاجمل آذان رن في اذني ّ من منارة الصحن الحيدرى التي يشرف تماما على سطح دارنا اللصيق.. كنت هائما في خيالاتي التي وجدتها تنتظرني حالما افقت من سويعات رقادي القلق.
.. اخذت اذرع السطح طولا وعرضا مدمدما ً بكلمات مبهمة لما يدور في رأسي. لم اعرف بالتحديد ما هي الخطوات التي علي اتباعها حتى مجيء اللحظة المنتظرة.
.. كان صوت ابي يصل الي بوضوح من السطح الادنى قبل الركعات.. " اللـلـاـــــــــهُ أكبر.. " و" ربنا ولك الحمد " بعدها.
كانت الشمس قد ارسلت خيوطها الاولى على سياج السطح حين بدأت اضع قدمي على السلم وانا ارتجف من الانفعال... توقفت قليلا عن الهبوط لاتماسك و انتظر حتى تنتظم انفاسي قبل ان اصل الى باحة البيت حيث والدي واخي الاكبر وبقية الاهل يتربعون الحـُصر، تتوسطهم الوالدة وراء سماور الشاي الموشوش بخفوت.
لابد وان منظري كان مضحكا لتلك الهيبـة الزائفة التي كنت اضع لبوسها علي وانا اتقدم لالثم يد والدي ورأس والدتي واسلم بوقار غلى اخي الكبير عزيز، متمنيا للجميع بصوت مضخـّم عيدا سعيدا..
اشار والدي بيده دون ان ينطق بكلمة الى صالة البيت الكبيرة، متمالكا نفسه من قهقهة مكبوتة.
.. عزيز لم يتمالك نفسه في ان تتعدى ابتسامته الى ضحكة خفيفة - منعها التادب بحضور والدي - من ان تكون عالية ساخرة.
.. أحمرت وجنتاي واحترقت اذناي.
كنت اعرف ما الذي ينتظرني في الصالة.. فقد غششت بان نزلت متلصصا في الليلة السابقة.. رغم حلفاني، باني لن ادخل الصالة حتى الصباح.
.. الله اوسع قلبا ورحمة من ان يعاقبني ليمين لم اكن مخلصا في حلفانه.
.. تجاوزتهم ودخلت الصالة بوجل.
.. ها هي هناك بيضاء زاهية ملتفة على بعضها باناقة ورفعة ملكية.
.. يخفق قلبي فرحا وشوقا وانا اتقدم واقترب بخطاي منها.
.. ينسدل من تحتها بجلال رداء اسود من الجوخ..
. ستكون لي ابد الدهر.
.. أخلع جلابيتي الطويلة..
.. اتقدم واقترب منها وقلبي يكاد ينخلع من الخفقان.
.. امد ذراعي وارفعها بهيبة.. نعم ارفع العمة الانيقة الزاهية الملتفة.
.. أضع العمة على رأسي.
.. نعم عمتي انا!.. فوق رأسي انا!، اعتمرها شبه عاري، قبل ان ارتدي (الصاية) الفخمة السوداء.
أسرح في خيالاتي وانا أتأمل نفسي في المرآة.
.. لا اعلم كم طال تهويمي في احلامي قبل ان اخرج بهيبة واطل على الحشد الجالس.. كانوا قد بدأو افطارهم.
اتقدم الى والدي وانحني مقبلا رأسه بفرح..
- مبروك عليك ولدي.. مبروك عليك (شيخ مهدي) قالتها والدتي بفرح وحماس
- مبروك (شيخنا).. انشاء الله تكون كفأ ً لها.. هذا اول الدرب الصحيح ابني.. لن اوصيك احتراما لنفسك، بل احتراما لها وللرمز الذي ترتديه الآن وسترتديه العمر كله.. " هذي مو هزوة (شيخ مهدي)، اريدك تصير قدوة شيخنا!! "
بعد الافطار نهض الشيخ الكبير وقفز وراءه الشيخ الصغير.. نعم، انا الشيخ مهدي!.
.. لم انس ان استعرض نفسي ً امام اختي واخويّ الاصغرين مبتسما ً، وبالطبع مناكدا.
- اسمع شيخنا! سأكلفك بمهمة تليق بمناسبتك هذه،.. سياتينا ضيوف في الغد.. وانت الآن احد رجالات البيت، وهذه اول مرة اعهد اليك بالسفر الى الكوفة للتسوق هناك - ومع مبلغ لا يستهان به -، فلن تجد البضاعة الجيدة هنا في النجف مثلما تجدها في اسواق الكوفة.. خصوصا السمك.
.. دس ّ في يدي قائمة بالمشتريات واعقبها بحفنة ثقيلة من (الروبيات) وعقـّب :
- " ما اوصيك هذي عشر روبيات مبلغ مو قليل شيخنا، وشوف احسن الموجود بالسوكـَ "
"يا للمغامرة العجيبة، هذه الرحلة الى الكوفة، ولوحدي.. مغامرة بالطبع سبق وان حققتها بمعية ابي، ومرات قلائل اخرى مع اخي الاكبر، رجل البيت في غياب ابي
.. انا وجـِـل؟.. بالطبع وجـِل!.. ومع هذه المهمة الموكلة بالمبلغ الضخم، لابد انها خطوة اولى لاكون رجل البيت الآخر بعد عزيز!.. ستكون ولاشك مغامرة ان اطوف وحدي في بلدة كبيرة كالكوفة!
.. ها انذا على شواطيء نهرها الكبير، في الفيء من نخيلها الملتف حوله بحنان، ارنو الى السيل الجارف بطميه الذائب الهادر.. لفائف القش والاعواد الراقصة تدورمقتربة حول الثغرات اللولبية الملتفـّة بسرعة يتيه فيها البصر المنجذب الى متاهات اعماق هذه الدوّارات النهرية.. احدق باصرار، دون وعي وبارادة مسلوبة، الى ذلك المجهول المغيـّب في اعماق التهر الغاضب.. ها هي حزم القش والاعواد المتراقصة بمرح ووجل تـُشفط في ومضة خاطفة يعقبها صفير واضح وقصير قادم من هذا البوق المائي الملتف.. تـُبتلـَع وتغيب، وتنغلق فوهة البوق دون اثرلما كان حيا متراقصا فوق مويجات الماء.
.. تظهر فجوة صغيرة اخرى في مكان آخر، تتوسع الفجوة، تدور فوهة البوق الحلزوني المتراقص، تتسع تسحب موسيقاها لفائف قش طافية اخرى.. تلتحق بها اعواد وكسر اغصان خضراء.. ترقص الحلقة الملتئمة بمرح حول فوهة البوق اللولبي المتسارع.. يختتم المشهد الراقص كسابقه بصفير ابتلاع حاد.
.. لحظة صمت جليلة.
.. هكذا نظهر.. هكذا نعوم.. يسحبنا التيار.. نلتئم راقصين بمرح ووجل حول فوهة الاعماق المجهولة المظلمة.. نـُبتلع دون اثر باق فوق سطح اللجة.. يستمر نهر الحياة الصاخب في جريانه..
.. اتكيء على جذع نخلة قريبة خوف الانزلاق.
اسمع هديل حمامة ورفيف اجنحة وتهب نسمة ندية يوشوش لها سعف النخل..
.. انظر عاليا وتعلو وجهي ابتسامة.. الف طرف عبائتي حول ذراعي كما يفعل اخي الاكبر حين يهم بسير عجل... اجعل وجهتي وسط المدينة.
.. قبل وصولي الى اطرافها، اقف برهة ريثما أُعدل وضع عمتي التي القيتها الى الخلف اثناء سيري على الضفاف.. اسدل عباءة(الجز) الجديدة، تاركا مجالا واسعا لاظهار لمعة (الصاية) الجديدة السوداء الانيقة..
.. اضع على وجهي قناع وجاهة الشيخ الجليل.. يغمرني الجذل.
امشي بخيلاء وجدية.. لا التفت يمينا او شمالا خوف ان يتبدل الهندام الذي جهدت على ترتيبه.. انا على يقين من ان الانظار ترمقني بإعجاب.. اكيد ان عددا من صبيات الكوفة الحسان يتهامسن ويتغامزن بمروري.. لن التفت ولن ابين اهتمامي بهن.
.. ها هو مدخل السوق يظهر و تصل اصوات بعض الباعة الجوالة الواقفين على جانبي المدخل.
.. ارى الالوان الزاهية لبضائع تزدحم بها دكاكين السوق المسقف.
.. عباءات وعمم،.. عمرات ملتفة،.. (عقالات) سوداء وبنية وبيضاء مذهبّة مختلفة الطول والسـُمك،.. (صايات)،.. (جـُـبب)،.. (دشاديش) ملونة تتزاحم من بعيد داخل السوق،.. اناس يخرجون فرحين باحمالهم ومشترياتهم.
.. يزداد الضجيج وتعلو اصوات الباعة المنادين على بضائعهم..
يرتفع صوت منغـّم عن قرب :
.. احمر!!.. أسود!!.. اسود.. احمر!!، جر ب حظك!! أحمر اسود.
.. هذا الملعب!.. العب تغلب!!، احمر اسود.. اسود أحمر و(الروبية) بروبيتين
(الروبية) بروبيتين.. الروبية بروبيتين!
تفضل شيخنا.. ربح حلال!
اتمهل قليلا وانظر بحذر.. انحرف عن مسار الداخلين والخارجين من السوق..
اقف على مبعدة خطوات من الطاولة الصغيرة التي يقف وراءها المنادي.
.. اراقب بحذر حركة يديه السريعة وهو يعرض ً الاوراق بوضوح.
.. ورقتان بعلامات سوداء، وثالثة بعلامات مشابهة حمراء.
.. يلقي بالاوراق الثلاثة الواحدة تلو الاخرى.
ارى بوضوح جازم الورقة بالعلامات الحمراء تتوسط السوداوتين.
اتنان من اللاعبين يتقدمان الى جوار الطاولة.. يشيران باصبعيهما الى ظهر الورقة الوسطى..
يظهر الورقة المشار اليها..
يقفزان فرحا.. " احمر! أجمر "
يخرج صاحب الاوراق اربعة روبيات وينقدهما.
روبية! بروبيتين! يعلو صوته اثناء منحمهما مكسبهما.
يشيران من جديد.. يا للحظ الجميل، يكسبان اربعة اخرى.
يعد الشيخ الصغير مكسبهما الاجمالي بعد بضعة دقائق.. لقد كسب كل منهما عشرة روبيات
يغادران فيلتفت اليه صاحب الورقات الثلاث.
" هذي هيه الدنيا.. يوم غلب ويوم خسارة.. الحمد لله ربنا كريم.. النه رب كريم.. تفضل شيخنا!.. تعال مولانا!.. حتى الخسارة وياك بركة.. ايه والله بركة! "
يحمرّ وجه الشيخ الصبي.. يتلفــّت يمينا.. يتلفــّت يسارا، الكل منشغل بتحفز بالدخول الى السوق او بالخروج منه محمـّلا بالبضائع والمشتريات.. لا احد يلتفت صوبه.
يتقدم بأناة وحذر.. يقف امام الطاولة.. يعيد النظر بوجل يمينا ويسارا من جديد.. يضع يده في جيب (الصاية) العميق.. تصل اصابعه فتلمس القطع المعدنية.. يتلمس اصغرها.. يمسك بها.. يخرج يده ممسكا بنصف (الروبية) باحكام.. يرفع بصره الى وجه الرجل امامه دون هدف.. يستمر في التحديق.. الساحر يرمي باوراقه العجيبة الثلاث على الطاولة.. يجمعها.. تطير من جديد وتحط في نفس الموقع.. الحمراء دائما في الوسط.
في المرة الثالثة يضع نصف (الروبية) بيد مرتجفة فوق ظهر الورقة الوسطية الحمراء.
.. يتسمر بصره بظهر الورقة والقطعة المعدنية البرونزية فوقها.. تمتد يد الرجل امامه بهدوء وتكشف وجه الورقة!!
يختض من نشوة الانفعال ويصرخ مكرراً بتلذذ حمراء! حمراء!
-حظك قوي مثل ايمانك شيخنا!.
يقولها الرجل امامه مستسلما وهويضع قطعة مشابهة لقطعته المعدنية غلى الطاولة.
.. يتسمـّر بصره من جديد بالاوراق السحرية الثلاث.. يستمر تحديقه.. تختفي معالم العوالم من حوله.. لا تبقى من معالم صاحب اللعبة إلا اصابع نحيفة طويلة سمراء ترقـّص الورقات الملوّنة.. تحط و تستقرالوريقات.
يضع نصف روبية فوق ظهر الورقة الوسطية..
- حمراء، حمراء!!
يحس ّ بالدم يرتفع نافرا من اذنيه.. لاشيء في الدنيا مثل لذة الكسب هذه.. لا شيء
" ساعود بثروة الى البيت.. سأزهو بغناي! "
- لاحظ عندي هذا اليوم مولانا. يصله صوت الرجل المتأسي وهو يمد يده مانحاً نصف روبية اخرى.
.. يتلاشى ضجيج السوق.. صدى الباعة.. وشوشة احاديث المارة.. صدى عجلات العربات وحوافر خيولها.. لا يبقى الا رنين منغـّم غريب :
.. احمر!.. اسود!.. احمر اسود!.. اسود احمر.. احمر!
يتناهى الصوت اليه منزّلا من اعالي سماوية بعيدة. يتردد صدى الكلمتين من وراء الغيب في اذنيه.. يستمر تحديقه بالوريقات المتبدلة مواقعها.. الوان جميلة تتطاير وتتبدل في الفضاء امامه.. تحط ّ وتستقر بمرح امامه.
.. يضع نصفي الروبية فوق ظهر الورقة " روبية كاملة.. سيكون ربحي روبيتين "
- اسود! مو كل مرة إلك شيخنا.. فد مرة واحدة على الاقل اغلب آني
" لاعليك، سأعيد ربحي.. يبدو انني لم اركز جيدا هذه المرة.. سأضع روبيتين "
- اسود!
.. مرة اخرى
- أسود!
يزيح الشيخ الصبي عمامته جانبا ويمسح العرق المتصبب غلى جبهته.
- اسود!.. هاي شنو مولانا! ركز شيخنا، ركز! ورجـّع خسارتك.. هيـّه كـُلهَ تركيز.. شوف! شوف! هاي الحمرة.. باوع زين.. هاي الحمرة.. هاي الحمرة!
تتطاير الاوراق وتستقر، وتختلط الوانها امام البصر، الاحمر يستقر دائما وبوضوح اوسط الاسودين.
يعلو من جديد صوت الرجل بتأسي :
- اسود شيخنا.. أسود!
" ضاع نصف المبلغ.. كلا لن اعود إلا ومعي كل البضائع المطلوبة.. على الاقل معظمها.. الذريعة : ارتفاع الاسعار هذا اليوم في الكوفة لكثرة الزوار.. لا احد يستطيع نفي يوم مضى ولم يشهده احد غيري "
يرفع الصبي عمامته بحركة ذاهلة ويضعها على الطاولة الصغيرة الى جانب الوريقات.. يمسح وجهه المتعرق ورأسه ويأخد نفسا ً عميقا " يا ربي خلصني.. دخيلك يا بو الحسنين، حتى وإن نصف المبلغ.. دخيلكم! "
- ثلاث روبيات على الورقة الجانبية هذه المرة!
- أسود.. اسود شيخنا! وبعد فترة صمت.. لا تكَلي خلصت فليساتي.. شيخنا ما معقول كلك خير وبركة مولانا!
يطأطأ الصبي رأسه بذهول.. يمسك نفسه عن ان ينخرط في موجة بكاء اختنق بها حلقه.. تتضبب رؤياه، تغيب كل المعالم.. يستدير كالمأخوذ عن الطاولة الصغيرة ويجرجر خطاه..
- نسيت عمامتك شيخنا..!
يرفع الشاب وراء المنضدة العمامة عن الطاولة وقدمها له.. يضع فيها بضع عملات نحاسية صغيرة :
- هذي اجرة الطريق مولانا، ما اريد ك تروح تدعي علينا عند ابو الحسنين.. الدنيا جظوظ شيخنا، يا اسود، يا ابيض..، يا احمر!
مع خفوت ضجيج السوق - الذي لم تطأه قدماه - خلفه، يتباعد ويخفت صوت الوحي البعيد
" احمر، اسود.. اسود احمر.. أحمر.. "
يقف مطأطا الراس امام والده الذي يواحهه في باحة الدار وعن بعيد تتربع والدته بمسبحتها الطويلة السوداء وهي تضرب فخذها وتنود.. وتلمع في الزاوية البعيدة عينا اخيه الكبير بمكر وسخرية.
يحار في تفجير غضبه بالشتائم، او امساك قهقهة ساخرة يداريها بإشفاق.
-طيب آمنت بالله، وإنا الى الله وانا اليه راجعون.. لقد سـُرقت منك النقود في زحمة السوق.. الاصح صرفتها والعلم عند الله اين!.. الروبيات واختفت!؟ لكن كيف تطاوعك نفسك يا لئيم بقص جيب بدلتك الثمينة الجديدة!؟
.. قصوا لك جيبك في زحام السوق!! يرتفع الصوت ساخراً. "
وافترقنا نُـريد " مَـهران َ" نـبغي
ورطة ً في لذاذة ٍ و ارتكاســه ْ
تارة ً صاحبي يُصفــّق كـأـسـي
وأنا تــارةً أ ُصــفــّقُ كاســهْ
لا" الحسين ُ الخليعُ" يبلغُ شـأوينا
ولا" مُسلم ٌ " ولا " ذو النؤاسهْ "
قالَ لي صاحبي الظريفْ وفي الكــف ّ ِ
ارتعا ش ٌ وفي اللسان ِ انحـباسهْ
أين َ غادرت َ " عِـمـّةً " واحتفاظاً
قلت ُ: إني رميتها في الكـُناســهْ
الشيخ مهدي الجواهري
التعليقات
الحلقة الثالثة عشر
لينا -انا طالب بشرحأمن المعقول هكذا ومن دون مقدمات تتوقف سلسلة حلقات وعي من ذاكرتي بقلم فلاح الجواهري؟والآن ودون عنونة المقالة بانها الحلقة الثالثة عشرومن دون شرح أيضا يعود فلاح ليدخل بي الى عالمهمع( بونوس)من الجواهريلا أنا عن جد زعلانةزعلانة للانقطاعوزعلانة لانني لا اتمتع كالعراقيين بقريحةفي الكتابةوالوصفلاعبر عن سعادتي باستئناف الحلقاترغم شغفي المرضي بالكتب الا ان كتابات فلاح هي الاقرب اليوكاني معه ارى ما يرى واشعر بما يشعراسلوبه قريب للنفس ووحسنا هذا يكفياتمنى اخيرا من فلاح الا يقطع بناوان يستمر باشركنا في وعيه على الذاكرةمع الشكر لايلاف