هل مازال العراقي يبحث عن موتٍ مُقْنِع؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سؤال تطرحه رواية "الضلع" لحميد العقابي
حسين السكاف من مالمو: بعد سيرته "أصغي إلى رمادي" الصادرة عام 2002، التي أمتازت بالجرأة والأسلوب النثري ذات اللغة الشعرية الواضحة، صدرت مؤخراً للشاعر والكاتب العراقي حميد العقابي عن دار الجمل رواية " الضلع ". تتناول الرواية الشخصية العراقية التي تعودت البوح بأمنية شائكة المفهوم واضحة الدوافع (أريد موتاً مقنعاً) عبارة لا تخلو من القسوة والإحباط، يقين بموت مبكر، ولكن، أليس من حق من تيقن موته المبكر أن يجد المبرر لموته؟ موت دون جناية، دون ذنب، من غير خطيئة، هل يموت من لم يعرف في حياته سوى الكبت الجنسي ووأد الأمنيات؟ (الوطنُ في خطر، الأمةُ في خطر، الطبقةُ العاملة في خطر، القضيةُ في خطر...، ولكن لا أحدَ يقولُ (الإنسانُ في خطر) وكأنّ كلّ الأشياء والأفكار تحولتْ إلى صخورٍ وما على سيزيف إلا الطاعة وحملها دون اعتراضٍ على مشيئةِ الإله المجهول. " ص 392) من الواضح أن حميد العقابي أراد من رواية " الضلع " أن تكون امتداداً لسيرته الذاتية " أصغي إلى رمادي " أو جزءها الثاني، تماماً كما جاء في آخر جملة من الرواية على لسان بطلها وهو يقرأ في أوراق صديقه المفترض " عاشور " الذي مات منتحراً (فجأةً لفتَ نظري أسفل الصفحة الأولى سطرٌ مطموسٌ لم يظهر منه أي حرف، حيث يبدو أن عاشور قد كتبه ثم ندمَ فانهالَ عليهِ بالشطب كي يخفي سرّه تماماً. استبدّ بي فضولٌ لمعرفة ما يخفي السطر المشطوب، فخطرت لي فكرة أن أقلبَ الصفحة وأعرضها أمام المرآة، عندها بدتْ لي الحروفُ المطموسة مقلوبةً، وشيئاً فشيئاً بدأت تظهر أمامي بوضوح، فقرأتها بصوتٍ عال: " أصغي إلى رمادي - الجزء الثاني " ص506) لكن رواية الضلع في حقيقتها أعمق من أن تكون سيرة ذاتية لفرد عراقي أو لحميد العقابي شخصياً، إنها سيرة " ظاهرية " لخفايا روح قلقة لم تعرف ثبات الأمنية يوماً ما، الأمنيات تتناقص وتتضاءل حتى تنعدم تحت ضربات الواقع المؤلم لتصل نهايتها حيث اللجوء إلى دفء التخيلات حين تعتلي أعضاء تلك الروح دبابة الحرب، وتستحضر مخيلتها أجساد عارية بنهود نافرة، لتعيش لحظة تعويضها خيبة الانكسار.
إن فكرة ارتباط الجنس بالموت كثيراً ما حركت خيالات الكتّاب، إلا أننا نجد في رواية الضلع عملاً جديداً بأسلوبه السردي والشعري، فهو بالحقيقة كتابة لشاعر مستمتع بالسرد، مستمتع بأسلوبه الشعري المصاغ بطريقة روائية أخذت عالَم التخيل واقتحام " المحرمات " نتيجة انفصام الشخصية، متكأً مهماً وموفقاً في صياغة فكرة الرواية. البطل في قرارة نفسه متيقن من أنه داعر، دنيء، وتصور نفسه تحت تأثير الشيزوفرينا بأنه المسيح أو بطل أو رجل مهم وخارق القدرات، لذا فقد جهد في البحث عن بطولة أو ذنب يقترفه يُمكِّن لآخرين من إنزال أقسى العقوبات بحقه، فلم يجد سوى خياله مكاناً خصباً لاقتراف الذنوب ولم يجد سوى المضاجعة سلاحاً للنيل من قيم تربى منذ الصغر عليها وعلى ممنوعاتها ومحرماتها.
الذات الأخرى الكامنة داخل الروح البشرية وتناقضاتها وصراعها مع الذات الظاهرة أخذت حيزاً كبيراً وأساسياً من سرد أحداث الرواية. الوعي الآخر مقموع نتيجة قوالب تربوية تربى عليها العراقي " جبر " - تسمية شائعة يستخدمها العراقيون للدلالة على كم الحيف الذي نزل على رؤوسهم " جبر من بطن أمه للقبر " - في حين أن الذات الظاهرة تمارس حياتها اليومية بزيف وتظاهر لا يترجم ما يعتمر دواخلها، من هنا نجد أن الطريقة التي استخدمها الكاتب في فصل الذات الظاهرة (حميد) عن الذات الكامنة داخلها (عاشور) حين شطر الكاتب نفسه إلى شخصيتين، أخرج من داخل روحه ذلك الجزء النزق والمتعالي رغم خوائه، الجزء المتضارب بنزواته وأفكاره السياسية والروحية، ليصحبه إلى جانبه وهو يخوض عالم التخيلات. صوَّرهُ إنساناً وأطلق عليه اسم عاشور، اسم مستعار لشخصية مستعارة، شخصية ليس لها علاقة بالواقع سوى أنها كانت تعيش داخل روح الراوي ليعزز لنا حالة الشيزوفرينا التي يعانيها. صارا يتبادلان الأفكار ويوجهان النقد لبعضهما والذي يصل حد القطيعة والخصام أحياناً، ثم نجد أن هناك بعض الاعترافات التي يبوح بها أحدهم للآخر وهي تترجم ذلك الصراع المرير داخل الروح الشرقية والتي يمثل الكبت الجنسي أحد أعمدتها، فيعترف عاشور لحميد بأنه تجاوز الثلاثين ولم يمارس الجنس بشكله الحقيقي، كان يستهلك خياله للمارسة فيستحضر النساء كما يشتهي. (تعرف؟ أنا لم أمارس الجنس مع امرأة حتى الآن) فيجيبه حميد على الفور (وأنا كذلك " ص 103). وتستمر الصراعات والأحاديث والانتقادات اللاذعة بين روح الراوي وداخله الخفي حتى اعلان موت عاشور منتحراً دون العثور على جثته رغم اقتحام الشرطة الدنماركية لشقته. يختفي عاشور من بين سطور الرواية حين تلفظه روح الراوي كقيح مرضٍ مزمن، ولكنه يبقى عالقاً في ذاكرته حتى سطور الرواية الأخيرة.
الكوارث والحروب والأخطاء التي تدور في بلداننا وندور نحن بفلكها، ومهما كانت دوافعها أو حجج مفتعليها، هي بالتالي نقمة كارثية تقع على كاهل الفرد البسيط، الإنسان الذي يسير كماء النهر دون التفكير بتغيير مجراه.. الإنسان البسيط هو الذي وضع الحياة وصنعها، لا الحكّام، وبالتالي فإن تحطيم ذلك الإنسان هو تحطيم للحياة. من هنا نجد أن رواية " الضلع " قد طرحت أسئلة مهمة كثيراً ما دارت في تفكير البسطاء دون حلول. (هل يشعرُ الإنسانُ بالضياع حينما يغور في ذاته أم حينما يخرج منها؟). (هل المنفى مكان أم لا مكان؟). (هل المنفى زمان؟). (هل لهاجس الجنس علاقة كبيرة بالشعور بالضياع؟).
الغربة التي تنخر الروح، المنفى، البرد، الخواء، اللاشيء، كل هذا لم يكتفِ به كاتب الرواية فراح يضيف عليها غربة أشد وطئة بهدف إظهار العمق الحقيقي لغربة العراقي بغض النظر عن المكان إن كان داخل الوطن أم خارجه (وغربة أشدّ بين أبناءِ جلدتكَ الذين كلما هربتَ منهم تلاحقكَ سحناتهم ولغتهم ومناطيد دخانهم التي تسدّ عليكَ آفاق انطلاقكَ، وكلما ارتفعت سنتمتراً واحداَ في فضاء سموّكَ تناخت الأذرع وهي تشدكَ إلى تحت حتى تغور بكَ في وحل زمنها أو تركن لأقدارك كسولاً مثل جاموس يتلذذ برطوبةِ الوحلِ هرباً من هجيرِ شمسٍ حارقة. " ص 454).
هكذا تصور رواية الضلع للشاعر والكاتب العراقي حميد العقابي، حالة العراقي الذي عاش يوميات تكوين شخصيته الفتية نهاية سبعينيات القرن المنصرم، والذي وجد نفسه وهو ما يزال يتخطى مرحلة المراهقة ليدخل عالم الشباب والرجولة، وجهاً لوجه أمام أتون الحرب، صار متيقناً من أنه أصبح مشروع موت مبكر، وحين تيقن حقيقة ذلك الشعور، صار يبحث عن سبب مقنع يبرر موته، هذا السؤال الشائك ظل مطروحاً من قبل ذلك الجيل العراقي التعس حظاً والأجيال التي تلته حتى يومنا هذا.
halsagaaf@hotmail.com
التعليقات
اتركوا العراق للعراق
IRAQI -ان اول من نشرا ثقافة الموت في العراق هم العرب امثال القاعدة بحجة الجهاد ضد الامريكان ومن ثم انتقل الا الابرياء العزل من خلال الفتاوي الوهابية.
اتركوا العراق للعراق
IRAQI -ان اول من نشرا ثقافة الموت في العراق هم العرب امثال القاعدة بحجة الجهاد ضد الامريكان ومن ثم انتقل الا الابرياء العزل من خلال الفتاوي الوهابية.
مهم
salar salah -حميد العقابي شاعر ذات خصوصية، وهو كاتب أراه مهم بعد أن قرأت له أصغي إلى رمادي التي أعتقدها قد فتحت طريق جديد في مجال السيرة الذاتية .. الحقيقة أني لم أقرأ رواية الضلع بعد ولكني بعد هذا المقال المفصل، أجد أن الكاتب قد قدم لنا عنصر التشويق بشكل ملفت، وربما يكون لي رأي سوف لن أبخل به عندما أقرأ الرواية .. أتمنى أن أجدها في المكتبات دون عناء
مهم
salar salah -حميد العقابي شاعر ذات خصوصية، وهو كاتب أراه مهم بعد أن قرأت له أصغي إلى رمادي التي أعتقدها قد فتحت طريق جديد في مجال السيرة الذاتية .. الحقيقة أني لم أقرأ رواية الضلع بعد ولكني بعد هذا المقال المفصل، أجد أن الكاتب قد قدم لنا عنصر التشويق بشكل ملفت، وربما يكون لي رأي سوف لن أبخل به عندما أقرأ الرواية .. أتمنى أن أجدها في المكتبات دون عناء
مثقف عصامي
مفيد يوسف -حميد العقابي من بين قلة من المثقفين العراقيين العصاميين الذين لم يصبحوا وعظاً للسلاطين سواء كانوا سلاطين البعث ام سلاطين اليسار والدكاكين الأخرى خلال الثمانينيات والتسعينات. نحن بقد حاجتنا الى ادب جميل بحاجة الى موقف شجاع من المثقف العراقي والعربي لكن الذي يحدث العكس ولذا ارى حميد العقابي واحدَ من هذه القلة التي حافظت على نقاءها وقد جاءت سيرته الذاتية اصغي الى رمادي لتضيف لبنة اخرى الى شجاعته تحياتي لك ياحميد وللمثقفين الشجعان
مثقف عصامي
مفيد يوسف -حميد العقابي من بين قلة من المثقفين العراقيين العصاميين الذين لم يصبحوا وعظاً للسلاطين سواء كانوا سلاطين البعث ام سلاطين اليسار والدكاكين الأخرى خلال الثمانينيات والتسعينات. نحن بقد حاجتنا الى ادب جميل بحاجة الى موقف شجاع من المثقف العراقي والعربي لكن الذي يحدث العكس ولذا ارى حميد العقابي واحدَ من هذه القلة التي حافظت على نقاءها وقد جاءت سيرته الذاتية اصغي الى رمادي لتضيف لبنة اخرى الى شجاعته تحياتي لك ياحميد وللمثقفين الشجعان
كاتب مشاكس
ساهر -في البداية أود الإشارة إلى أن كاتب المقال الأستاذ حسين السكاف مقيم في كوبنهاجن وليس مالمو السويدية .. وبعد هذا أود القول أن الأستاذ حميد العقابي كاتب مشاكس، جريء إلى حد الوقاحة، ولكن الوقاحة الجميلة، أعتقد أنه يمتلك مشروع تعليمي، فهو يريد أن يؤسس طريقة جديدة في الكتابة تروم إخراج الكتاب العرب من محرمات زائفة، له مني ألف تحية وأتمنى له دوام التألق
كاتب مشاكس
ساهر -في البداية أود الإشارة إلى أن كاتب المقال الأستاذ حسين السكاف مقيم في كوبنهاجن وليس مالمو السويدية .. وبعد هذا أود القول أن الأستاذ حميد العقابي كاتب مشاكس، جريء إلى حد الوقاحة، ولكن الوقاحة الجميلة، أعتقد أنه يمتلك مشروع تعليمي، فهو يريد أن يؤسس طريقة جديدة في الكتابة تروم إخراج الكتاب العرب من محرمات زائفة، له مني ألف تحية وأتمنى له دوام التألق
الاديب رسالة زمنية
شاعرة مصرية -يبقي الاديب رسالة من الزمن الي الزمن تعصره معاناته ليستحيل الي شراب للأرواح و الانفسيقدمه في كأس بللوري نقي من شوائب ذاته هنا حميد الشاعر و الروائيالشخصية الثلاثية الابعادعاشور وحميد وجبر في كأس الضلع أو هكذا خيل لي أتمني لك التوفيق
الاديب رسالة زمنية
شاعرة مصرية -يبقي الاديب رسالة من الزمن الي الزمن تعصره معاناته ليستحيل الي شراب للأرواح و الانفسيقدمه في كأس بللوري نقي من شوائب ذاته هنا حميد الشاعر و الروائيالشخصية الثلاثية الابعادعاشور وحميد وجبر في كأس الضلع أو هكذا خيل لي أتمني لك التوفيق