بيسوا أو لن تكون!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبد الله كرمون من باريس: صدرت أعمال الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، مؤخرا، لدى كريستيان بورجوا، وعُنونت ب"كتاب اللاطمأنينة". الذي أتاح لمجلة ترونسفيج Transfuge) (فرصة الكتابة عن بيسوا، في عددها المزدوج لكانون الثاني/شباط، ما انتظره محرروها طويلا. وعنون ذلك الملف ب"بيسوا اللامطمئن". ولد فرناندو بيسوا بمدينة لشبونة سنة 1888 في كنف عائلة ميسورة ومتنورة. وقد هدهدت أجراس كنيسة ساحة ساو كارلوس طفولته وطبعتها، حسب إيميلي كولومباني، إلى درجة أنه كتب قصيدته المشهورة "آه يا أجراس قريتي!" التي مازج فيها بين رقة وهزء. ليس من الصعب كذلك فهم علاقته، جد الوطيدة، بأمه وإن حدث أن كدر صفو تلك الحياة الهانئة، نوعا، خبل جدته ديونيزيا. ما استعصى عليه نسيانه، بعد ذلك، بالتأكيد. نعرف أن قدرا شبيها بقدر بودلير قد جعل بيسوا يفقد أباه وتتزوج أمه كي تلتحق بزوجها رفقته بجنوب أفريقيا. كان ذلك وجها آخر لمروره إلى مرحلة أخرى من حياته، جعلته يتصل بلغة شكسبير، ملتون، كيتس، شيللي وغيرهم ويتعرف على كبار كتابها وشعرائها، حتى أنه ظل مزمنا على قراءتهم، ما وفر له تربة خصبة لأن يحب القراءة أولا، ثم لأن يتمكن من الإنجليزية ويكتب فيها بعد ذلك. وإن لم يتمكن من نشر نتاجه المكتوب بها إذ ذاك. فمرحلة جنوب أفريقيا هذه التي تجاهلها النقاد وكتاب سيرة بيسوا، حسب إيميلي، تعتبر مرحلة مهمة وأساسية في تكوينه كما أشرنا إلى ذلك. غير أنه يرجع إلى موطنه في بداية القرن العشرين هربا من منفاه لو صحت تسمية إقامته هناك كذلك.
ها هو يقترب هكذا من قدره الحقيقي. رغبته "ألا يكون أحدا". استطاع بذلك أن يسلك الطريق التي قادته بالتالي إلى عالم أنداده الذين خلقهم. هؤلاء، ومن بينهم ألبارو دو كامبوس الذي اتهمه بيسوا على أنه من كَتب الرسائل إلى أوفيليا. وقد ردت عليه هذه الأخيرة، مجابهة إياه بقولها الحاد: "أكره هذا الألبارو دو كامبوس. ولست أحب سوى فرناندو بيسوا!"
يحاول روبيرت بريشون، أحد الفرنسين المختصين في بيسوا، في حوار معه، أن يعيد، في تفسيره، ظاهرة الأنداد هذه لدى بيسوا إلى إحساس هام لازم بيسوا منذ صغره، ألا وهو رغبته ألا يكون وحيدا، أو إحساسه المفاجئ بأنه ليس وحيدا إذ أن أحدا ما يختفي خلف جلده ويملي عليه كتاباته، إذ أنه ليس من الممكن أن يكون هو ا
فقد خلق بيسوا أهم أنداده، ألبيرتو كاييرو، ريكاردو رييس، ألبارو دو كامبوس والمتألق برناردو سواريس. على أن كل واحد منهم يمتاز بأسلوب وكفاءات ذاتية مختلفة عن الآخرين. في الوقت الذي عاش فيه معاصرون لبيسوا، حسب بريشون، وكان كل منهم فردا واحدا أحدا أمثال: بول فاليري، أندريه جيد، أبولينير، ليون بول فارغ وجيل رومان. ما يجعلنا كذلك نشهد بحق على عبقرية وفرادة موهبة بيسوا.
برناردزو سواريس كما هو معروف هو الذي وضع "كتاب اللاطمأنينة". فهو الذي يقترب أكثر من بيسوا. فالآخرون يفوقهم بيسوا قليلا أما هذا فهو يمثل بيسوا، على أن شيئا ما ينقصه كي يكمل. فالأهم لدى سواريس هو الكبرياء التي يبدي في تواضعه. فهو يرى أن من المدهش ألا يكون أي شيء، بالرغم من عبقريته!
لقد كتب بريشون سيرة بيسوا منذ أكثر من عشر سنوات وعنونها ب"غريب شاذ"، وقال أن ذلك العنوان بالنسبة إليه قد وضح شيئا أساسيا لدى بيسوا ألا وهو ذلك الإحساس بالتصدع في ذاته. يقول أن بيسوا ليس فقط غريبل في العالم ولكنه غريب أيضا في ذاته.
أما إنريك فيلا ماتاس الذي ترجم نصه عن الإسبانية فقد ذكر مقطعا مهما لبيسوا يقول فيه: "أنا أيضا سوف أختفي غدا من زقاق ريا دي براتا، دوس دورادوريس، دوس فونكييّروس. في الغد، أي في الغد تماما، أنا أيضا سأكون، ذلك الذي لم يعد يمر عبر هذه الأزقة. ذلك الذي سوف يذكره آخرون بالتباس وهم يتساءلون ماذا صارت حياته. وكل ما أفعله، كل ما أحس به وكل ما أعيشه ليس سوى عابرا أقل في رتابة أزقة مدينة ما".
يظل ملف هذه المجلة الفتية مجرد التفاتة جميلة لهذا الرجل القلق في لاطمأنينة، وإن كانت الموضوعات غير ذات شأن بالنسبة لثراء عطاء وحياة الرجل. غير أنه ليس من السهل أحيانا الكتابة عن رجل يحمل اسم بيسوا.
لقد كتب ليلة قبل أن يغمض عينيه ويمضي، سنة 1935، متسائلا في لغته الثانية، لا أعرف ماذا يمكن أن يحمله الغد؟
(I do not know what tomorrow will bring)
Kermounfr@yahoo.fr