ثقافات

غربة النَّص الفلسفي المترجم

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

رسول محمد رسول: شهدت سنوات نصف قرن مضى تجارب عدة على صعيد ترجمة النصوص الفلسفية من لغاتها الأم إلى اللغة العربية. كانت القاهرة ودمشق وبيروت عواصم سباقة في هذا المجال، ومن ثم لحقتها الكويت والرباط والدار البيضاء و''مركز الإنماء القومي'' في باريس. إلا أنه، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، صارت الترجمة إلى العربية على عتبة جديدة، خصوصاً في المغرب العربي وباريس؛ فقد أخذنا نقرأ نصوصاً فلسفية مترجمة عن الفرنسية والألمانية إلى العربية بنكهة مغايرة من حيث المصطلحات الفلسفية المعتمدة من جانب المترجمين، كان بعضها شائقاً ورائقاً، وله دفء موسيقي، ومقترب روحي فيما يقابله بالعربية، في حين راح غيرها يغترب عن روح اللغة العربية وسياقاتها التداولية، وينأى عن ذائقة القارئ العربي للمترجمات الفلسفية من لغاتها الأم إلى العربية.
نلاحظ أن مشروعات ترجمية عدة نراها تتوارد علينا هذه الأيام تباعاً، منها على سبيل المثال مشروع إصدارات (المنظمة العربية للترجمة/ بيروت)، وهذا شيء حسن ومهم بكل المقاييس الثقافية والمعرفية، لكن ما هو مؤسف أن قارئاً متخصصاً لما يُترجم من نصوص فلسفية يعاني من مشكلات عديدة لعل أهمها انعدام قدرته على الانسجام مع النَّص الفلسفي المترجم إلى العربية لكي يواصل قراءته كاملاً؛ ففي نصوص كثيرة يقف أحدنا ـ نحن عشَّاق النُّصوص الفلسفية ـ حائراً أمام ضميمة من المفردات والمصطلحات والمفاهيم والحدود الفلسفية ملتوية الدلالة شائكة البناء غالباً ما تقطع قراءة النَّص بحثاً عن دلالة واضحة لها، في ذاتها أولاً، وفي سياق النَّص ثانياً.

الواضح أن بعض المترجمين العرب يعرف حجم المخاطر التي تتأتى عن توظيفه لمصطلحات شائكة البناء والدلالة فنراهم يلجئون إلى إفراد مسارد باللغتين العربية والفرنسية أو الألمانية والإنجليزية للمفاهيم الواردة في النَّص المترجم، إلا أن هذا لم يلجم حيرة القارئ إزاء هذه المشكلة، فوضع مقابلات بين العربية وبقية اللغات الأخرى في آخر الكتاب لا يحل الإشكال، بل يزيده تعقيداً؛ ذلك أن المطلوب غالباً هو شرح المفاهيم الموظفة، وإيفاء القارئ القدرة على النفاذ إلى المعنى الحقيقي الذي يقصده مؤلِّف النَّص الفلسفي وكاتبه ليس فقط في النَّص موضوع الترجمة، إنما في بقية مؤلَّفات الفيلسوف وكتاباته الأخرى، لأن النَّص الفلسفي هو نص منظومي أو (سستامي) كما الخطاب الفلسفي لأي فيلسوف، إنه نص خاضع لتطورات أفكار الفيلسوف خلال حياته، ورهن جملة الدلالات التي يضيفها الفيلسوف على مصطلح مركزي ما ربما يميزه عن أقرانه الفلاسفة ويتكرَّر في نصوص متتالية تظهر في حياة الفيلسوف.
في حياتي الفكرية والفلسفية، قرأتُ الكثير مما كان مترجماً من النُّصوص الفلسفية إلى اللغة العربية، كان بعضها قد كرَّس مستوى رائعاً من شعرية الترجمة، لكنني اليوم أجد صعوبة بالغة فيما أقرأ من نصوص فلسفية مترجمة إلى العربية عن لغاتها الأم، بعضها تُرجم مرات ومرات، وغيرها ترجم للتوِّ، وكلاهما غريبٌ على ذائقتي؛ أنا الذي أفنى ثلاثة عقود من عمره في تماس يوميٍّ مع النُّصوص الفلسفية المُترجمة إلى العربية من لغات أخرى. وهنا أتساءل: أين مجامع اللغة العربية مما يجري في عالم الترجمة الغريب؟ وأين الجمعية العربية الفلسفية وجمعيات الفلسفة في الوطن العربي مما يجري في عالم الترجمة الغريب؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف