ثقافات

لوكلوزيو: لعل اللغة الفرنسية هي وطني الوحيد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أحمد شافعي:يحتل "جان ماري جوستاف لوكليزيو" موقعا فريدا في أفق الأدب الفرنسي، على هامش الجماعات والمدارس والاتجاهات. هو فرنسي وموريشيوسي، نشأ في عمق الثقافة الفرنسية، وهو علاوة على ذلك خبير في الأدب الأنجلوسكسوني، ولذلك يقول إنه لا يستلهم لوتريامون وزولا وحسب، بل ستيفنسن وجويس أيضا. يصعب على النقاد أن يصنفوه أو يحسبوه على اتجاه بعينه. فكتابته ومواضيعها في تغير مستمر منذ روايته الأولى "المحضر"Le Procegrave;s-Verbal الصادرة عام 1963 والتي نال عنها جائزة تيوفراست رينودوTheophraste Renaudot المرموقة وهو في الثالثة والعشرين من عمره.
تنعكس في مؤلفاته التي تربو على الثلاثين (ما بين روايات ومقالات ومجاميع قصصية وترجمات) اهتماماته البيئية، وثورته على الفكر العقلاني الغربي، وافتتانه بعالم الهنود الأمريكيين الذي اكتشفه في وقت مبكر للغاية والذي "كان لي بمثابة تجربة غيرت حياتي كلها، غيرت أفكاري عن العالم والفن، وعلاقاتي مع الآخرين، وطريقتي في الأكل، والنوم، والحب، بل وطريقتي في الحلم" كما يكتب في مقاله الرائع عن طقوس الهنود الأمريكيين الصادر بعنوان "الحفل الغنائي" La Fecirc;te chanteacute;e عن دار نشر جاليمار عام 1997.
في حواره مع مجلة لابيل فرانسLabel France يحكي عن قصة لقائه بالهنود الأمريكيين ويتكلم عن جذوره الموريتانية وأفكاره، وعلاقاته العابرة للأعراق، ورؤيته للرواية والأدب.
حوار مع جان ماري جوستاف لو كليزيو
لعل اللغة الفرنسية هي وطني الوحيد
ترجمة: أحمد شافعي* ل ف: توصف أعمالك بالصوفية والفلسفية بل وبالبيئية!! هل تجد نفسك في هذه الصفات؟
لوكليزيو: من الصعب أن يصف المرء بنفسه ما يفعله. أما إذا اضطررت إلى تقييم كتبي فسأقول إنها تشبهني. بعبارة أخرى، الأمر بالنسبة لي ليس تعبيرا عن أفكار بقدر ما هو تعبير عن ماهيتي وإيماناتي. وعندما أكتب أكون بالدرجة الأساسية محاولا التعبير عن علاقاتي باليومي، بالأحداث. فنحن نعيش حقبة توتر، ينهال علينا فيها وابل هيولي من الأفكار والصور. ولعل دور الأدب اليوم أن يكون صدى لهذه الهيولى.
الأدب المعاصر أدب يأس هل بوسع الأدب أن يؤثر على هذه الهيولى، أن يحولها؟
لم يعد لدينا من الوقاحة ما يجعلنا نعتقد ـ كما كانوا يعتقدون أيام سارتر ـ أن الرواية قادرة على تغيير العالم. فليس بوسع الكتاب اليوم إلا أن يسجلوا عجزهم السياسي. عندما تقرأ سارتر أو كامو أو دوس باسوس Dos Passos أو شتاينبك تلمس بوضوح أن هؤلاء الكتاب الكبار الملتزمين كانوا يثقون ثقة لا حدود لها في مستقبل البشرية وفي قوة الكلمة المكتوبة. أتذكر وأنا في الثامنة عشرة من عمري أنني كنت أقرأ افتتاحيات بأقلام سارتر وكامو ومورياك Mauriac في لوكسبريس Lrsquo;Express فكنت أجدها جميعها مقالات ملتزمة تبين الطريق. فهل يمكن لأحد اليوم أن يتصور أن افتتاحية ما في جريدة ما يمكن أن تحل المشكلات التي تدمر حياتنا؟ الأدب المعاصر أدب يأس.
لو رأى البعض أنك كاتب عصي على التصنيف، فلعل السبب في ذلك أن فرنسا ليست وحدها مصدر إلهامك. فرواياتك تنتمي إلى عالم خيالي معولم، وهي في ذلك تشبه قليلا أعمال رامبو Rimbaud أو سيجالون Segalen وهما كاتبان يصعب على نقاد الأدب الفرنسيين تصنيفهما.
أود بداية أن أؤكد أنه لا يغضبني إطلاقا القول بعصياني على التصنيف. فالسمة الأساسية للرواية في ظني هو عصيانها على التصنيف، أي أنها بعبارة أخرى جنس أدبي قائم على التعدد وتكاثر السلالات، أو هي مزيج من الأفكار التي تمثل في نهاية الأمر انعكاسا لعالمنا متعدد الأقطاب.
أظن مثلك أن المؤسسة الأدبية الفرنسية، وهي وريثة ما يعرف بأفكار الموسوعيين Encyclopeacute;distes الكونية، دأبت على اعتناق ميل مؤسف إلى تهميش أي فكرة تأتي من مكان آخر بوصفها بالـ "غرائبية". رامبو وسيجالون دفعا الثمن في زمانيهما. وحتى في يومنا هذا، لا يمكن لكتاب البلدان الجنوبية أن ينشروا أعمالهم هنا ما لم يرضوا بالدخول في فئة "الغرابي". وليس أدل تمثيلا لهذا من الكاتبة الموريشيسية آناندا ديفي Ananda Devi التي دافعت عن أعمالها حين كنت ضمن مستشاري دار جاليمار، ولكن الباقين لم يروا أنها "غرائبية" بالدرجة الكافية.
ما سر افتتانك البالغ بثقافات أخرى؟
لقد أصبحت الثقافة الغربية متحجرة أكثر مما ينبغي. فهي تولي أكبر قدر ممكن من التركيز على الجانب المديني التقني، وبذلك تحول دون تطور أشكال أخرى من التعبير: كالتدين والشعور على سبيل المثال. وبذلك يبقى كل الجانب المجهول من الإنسان مغيبا باسم العقلانية. ووعيي بهذا هو الذي دفعني إلى حضارات أخرى.
في هذا العالم الذي سعيت إليه تحتل المكسيك خاصة وعالم الهنود الأمريكيين عامة مكانا أساسيا. كيف تعرفت على المكسيك؟
أرسلت إلى المكسيك لأداء خدمتي العسكرية. وخلال السنتين اللتين قضيتهما هناك أتيحت لي فرصة السفر. وسافرت بالذات في بنما حيث قابلت الإمبيراس Emberas. قضيت أربع سنوات (1970 ـ 1974) مع هذا المجتمع الهندي الذي يعيش في الغابات. كانت تجربة عميقة التأثير، إذ إنني اكتشفت طريقة حياة لا تمت بصلة لما تأتَّى لي أن أعرفه في أوربا. الإمبيراس يعيشون في تناغم مطلق مع الطبيعة التي حولهم، مع بيئتهم، ومع أنفسهم، دونما حاجة إلى الإشارة إلى أي سلطة دينية أو قانونية. ورأيت ذلك مدهشا، وحينما أردت بعد عودتي أن أتكلم عن التلاحم الاجتماعي لذلك المجتمع اتهمني النقاد بالسذاجة والوقوع في شرك أسطورة "الهمجي النبيل"، برغم أن ذلك لم يكن كل ما قصدت إليه. فليس بوسعي مطلقا أن أصف هؤلاء الناس الذين عشت بينهم بأنهم همج، أو بأنهم نبلاء. فهم يعيشون وفق معايير وقيم أخرى.
تقسم وقتك هذه الأيام بين ألبوكيركيو Albuquerque و نيومكسيكو وموريشيوس التي أتت منها عائلتك ونيس Nice التي نشأت فيها ولا تزال والدتك تعيش فيها. وشخصيات رواياتك تبدو ـ مثلك ـ ممزقة بين القارات. على سبيل المثال، تدور بعض أحداث رومانتيكيات "قلب محترق وقصص أخرى" Coelig;ur brucirc;leacute; et autres في مكسيكو. فالقصة الأولى في هذه الجموعة تحكي عن شابتين عاشتا في المكسيك وهما صغيرتان. وكانت طفولتهما بائسة. ونرى أن الماضي يسيطر على كلتيهما. فهل يمكن القول بأن الشقيقتين ضحيتان للحياة البدوية؟
بل هما ضحيتا الانتماء إلى ثقافتين مختلفتين في وقت واحد. من الصعب للغاية على الأطفال أن ينتموا إلى ثقافتين مختلفتين تماما مثل الثقافة المكسيكية أي ثقافة الشارع الخارجية العفوية والثقافة الأوربية القائمة على البيت والداخل والقواعد المدرسية. تصادم الثقافات هو الذي كنت أرمي إليه.
إذن لماذا كان هذا من خلال "رواية رومانتيكية"؟
ليس من المناسب تماما استخدام هذا الاصطلاح في وصف مواقف تراجيدية. الكتاب يتألف من سبع قصص قصيرة مقبضة. وفي القص الرومانتيكي يسيطر الإحساس على الحقيقة الاجتماعية. وأحسب أن دور القص هو أن يبرز هذه الفجوة الدائمة بين الشعور والعالم الاجتماعي الواقعي. من ناحية أخرى، جميع قصص هذه المجموعة مستلهمة من أحداث حقيقية قمت بتعديلها. فهي إذن قصص حقيقية. فيها كذلك عنصر سنتمنتالي لا تخطئه العين في صفحات "الأخبار الموجزة" في الصحف.
في كتبك تتماهى الحدود بين الأجناس. فهي جميعا تقع على مسافة كبيرة من السرد القصصي التقليدي. هل ترى أن الرواية بوصفها جنسا موروثا من القرن التاسع عشر لا تزال موسومة بقوة بأصولها البورجوازية وأنها من ثم عاجزة عن تقديم صورة لتعقد العالم مابعد الحداثي مابعد الكولونيالي؟
الرواية جنس بورجوازي فعال. في القرن التاسع عشر جسدت الرواية محاسن العالم البورجوازي ومساوئه تجسيدا مبهرا. ثم جاءت السينما. فاستولت لنفسها على دور البطولة وأثبتت مقدرتها بطريقة أكثر فعالية على تمثيل العالم. فعمد الكتاب إلى توسيع مجال جنس الرواية بجعله إلى حد ما تعبيرا عن الأفكار والمشاعر أيضا. وحينئذ أدركوا مبلغ طواعية هذا الجنس وقدرته إذ يسلم نفسه تماما وبسهولة شديدة للتجريب في الشكل. ومنذ ذلك الحين، كان كل جيل يأتي ليجدد الرواية ويعيدها خلقا جديدا بإدخاله عناصر جديدة عليها. وفي ذهني الآن الروائي الموريشيوسي آبهيمانيو أونوث Abhimanyu Unnuth الذي اكتشفته مؤخرا بعد صدور ترجمة جديدة لكتابه لال باسينا Lal Pasina. فهذه رواية تذكرك على نحو ما بـ يوجين سيو Eugegrave;ne Sue. أونوث يستخدم قالب الرواية التقليدي، ولكنه يخربه بإدخاله عناصر ملحمية، وأغنيات وإيقاعا يخص الشعرية الهندية.
في رواياتك أيضا جانب سيري. هل يراودك انطباع بأنك مؤرشف تاريخك الشخصي، وتجربتك الشخصية في الحياة؟
أحب الروائيين إلى قلبي هما ستيفنسن وجويس. وكلاهما كانا يجدان الإلهام في سني حياتيهما المبكرة. فمن خلال الكتابة كانا يعالجان ماضييهما ويحاولان أن يفهما فيه "الأسباب" و"الوسائل". حينما تقرأ عوليس لـ جويس، يراودك بالفعل انطباع بأن جويس لم يكن ينشد العروج على قصة اللحظة الراهنة، بل التعبير عن كل شيء كان بداخله هو، وكل شيء صنعه على النحو الذي كانه. فكان أن أحيا أشد أصوات الشارع خفوتا، وشذرات الحوارات، والعقوبات البدنية التي تلقاها في المدرسة فظلت تهيمن عليه هيمنة الهاجس الجاثم. نايبول أيضا يعود بخياله إلى سنوات التعليم الأولى. الأدب لا يقوى إلا حينما يجد سبيلا إلى التعبير عن الأحاسيس الأولى، والتجارب الأولى، والأفكار ألأولى، والخيبات الأولى.
غالبا ما يراود المرء انطباع وهو يطالع كتبك بأن شخصياتك في تصورك تبحث عن وطن يتجاوز المفهوم التقليدي الضيق للأمة. سلمان رشدي يتكلم عن "أوطان خيالية" حينما يصف العلاقة الجديدة التي يحاول الكاتب في المنفى تأسيسها مع البلد الذي جاء منه. ما هو شكل وطنك الخيالي؟
أعتبر نفسي منفيا لأن عائلتي موريشيوسية بالكامل. فنحن على مدار أجيال ننشأ على فلكلور موريشيوس وطعامها وخرافاتها وثقافتها. وهي ثقافة مكونة من مزيج ضخم تنصهر فيه الهند وأفريقيا وأوربا. لقد ولدت في فرنسا ونشأت في فرنسا على ثقافة هذا البلد. نشأت على قولي لنفسي إن هناك مكانا آخر هو الذي يجسد وطني الحقيقي. وذات يوم سأذهب إليه وسأعرف ماهيته. لذلك طالما اعتبرت نفسي في فرنسا بمثابة "دخيل" إلى حد ما. ولكنني من ناحية أخرى أحب الغة الفرنسية التي قد تكون بلدي الحقيقي. ولكنني حين أفكر في فرنسا كأمة أجد من النادر أن يكون لي مثل ما لها من أولويات.
أسلافك كانوا فرنسيين، في ظني؟
آل لو كليزيو في الواقع كانوا من موربيهان Morbihan في بريتاني Brittany. وعندما قامت الثورة رفض أحد أسلافي أن ينضم إلى جيش الثورة لأنهم أصروا أن يقوم بقص شعره الطويل، فأرغموه على الفرار إلى فرنسا. فحل بأسرته كلها على متن مركب اسمه Le Courrier des Indes بنية الذهاب إلى الهند. ولكن عندما توقف المركب في موريشيوس، نزل منه لأن زوجته كانت أصلا من هذه الجزيرة وكانت لها فيها عائلة حتى ذلك الوقت. الفرع الموريشيوسي في سلالتي جاء إذن من هذا الجد الثائر المغامر. وسيكون هذا الشخص في الحقيقة بطل روايتي القادمة. وأنا الآن بالفعل في مرحلة كتابة قصة استقراره في موريشيوس. وأشعر بقرب شديد بيني وبين هذا الرجل الذي ذهب إلى المنفى في آخر العالم فرارا من شيء ما. أشعر أنني أفهمه.
يقال إنك مرشح لجائزة نوبل. تعال نتخيل أنك سوف تحصل غدا على جائزة نوبل في الأدب، ما الذي ستقوله في حفل تسليم الجائزة؟
هذا سؤال افتراضي للغاية! أنا لا أعرف بشأن ترشيحي لنوبل ولكنني أعرف تماما ما الذي أريد أن أتكلم عنه على الملأ. أود أن أتكلم عن الحروب التي تقتل الأطفال. فهذا في رأيي هو الأكثر بشاعة في عصرنا. والأدب أيضا وسيلة تذكير للناس بهذه المأساة وإعادتها إلى صدارة المسرح. لقد وضع النقاب مؤخرا في باريس على تماثيلا لنساء كنوع من الإدانة لقهر حرية المرأة في أفغانستان. وهذا شيء طيب للغاية. وبالمثل، ينبغي أن نأتي على جميع تماثيل الأطفال فنضع بقعة حمراء كبيرة وواضحة على مواضع قلوبهم لتذكرنا في كل لحظة أن طفلا في فلسطين أو جنوب أفريقيا أو أفريقيا يموت برصاصة. الناس لا تتكلم عن هذا.
أجرى الحوار تيرثينكر تشاندا، أكاديمي وواحد من كتاب لو مجازين ليتريرتاريخ إجراء الحوار: 2001، عدد 45 من مجلة لابيل فرانسLabel France
*أحمد شافعي: كاتب مصري..ahmadsshafie@yahoo.comنقلا عن ملحق قراءات ـ جريدة عُمان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تصحيح بسيط
culture -

في هذه المقابلة ، ورد في عنوانها الرئيس أن لوكليزيو من موريتانيا ، والصحيح أن أسلافه كانوا من موريشيوس ؛ واللفظان ربما أوقعا المترجم بهذا الخطأ ، أو السهو ، عند الكتابة . وفي مقالة اخرى عن الكاتب نفسه ( في ايلاف ايضا ) ، ورد أن لوكليزيو بريطاني الأصل : والصحيح أن عائلته أقامت في مقاطعة بريتاني ، في شمال غرب فرنسا : وهنا أيضا شبّه للمترجم بأن لوكليزيو بريطاني ، بما أن اللفظ متشابه مع بريتاني . والشكر لثقافات دائما