ثقافات

فنان بين ثياب الإمبراطور وهموم البسطاء

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حسين السكاف من استوكهولم: "حين تتوزع أعمالي في كل أنحاء العالم، سأتأكد حينها إن رسالة محاربة الظلم قد وصلت إلى كل مكان..." أعماله الفنية، منحوتاته وأفكاره، تذهب برسائلها خارج حدود المكان حيث يقيم، تذهب بعيداً حيث الألم والجوع والنزعات العنصرية التي تعاني منها شعوب العالم في أفريقيا وآسيا والأمريكيتين، وأخرى تجسد التحول المخيف - كما يراه هو - في الشخصية الأوربية التي أخذت تتجه نحو التغافل والاستهتار بمأساة الإنسان وإنسانيته... هكذا هو، يبعث برسائله المتلاحقة ليفضح مأساة الأرواح البشرية المثقلة بهموم لا يد لها في صنعاتها. فما من مؤتمر عالمي عقد في الدنمارك أو في أوربا، إلا وتنتصب أعمال هذا الفنان حيث الساحة الخارجية لمكان المؤتمر وأمام حشد الصحفيين...
الفنان ينس غلشوت Jans Galschiot ( 1954 )، النحّات والناشط السياسي الدنماركي، الذي يجد البعض فيه امتداداً طبيعياً ومؤثراً لأفكار الكاتب الدنماركي هانس كريستيان أدرسن ( 1805-1875 ) الكاتب الساخر العميق في رموز ودلالات أعماله التي طالما تناولت الإنسان البسيط وآلامه، الإنسان الذي يصنع الحياة، بشكل قصص وأساطير تعليمية أحياناً ومستفزة في أحيان كثيرة... والحقيقة أن هذا الرأي وتلك العلاقة بين هذا الفنان وأندرسن، كثيراً ما يتلمسها المتابع لأعماله... في زيارتنا له حيث مشغله الواسعة في مدينة أودينسا الدنماركية، سألناه عن سر تلك العلاقة وحقيقة ذلك الرأي، فأجاب: " عالمياً، أعتقد أن قصة ثياب الإمبراطور هي من أشهر قصص أندرسن. القصة تفضح الزيف والتأويل الكاذب، تدعو الناس إلى تلمس الواقع واستيعابه بدلاً من الإبحار بخيالات زائفة... هذه الفكرة، هي بالضبط ما تحمله أعمالي من رسائل للعالم. الفكرة تشغلني تماماً. فهناك الكثير من الزيف في هذا العالم. الزيف نجده راسخاً في العديد من مجالات الحياة، وعلينا أن نفضحه... "
في مشغله الواسع والذي يشغل أكثر أربعة آلاف متر مربع، يجد الزائر خارجاً حيث الحديقة، العديد من التماثيل منتصبة وموزعة بشكل قد يبدو عشوائي، إلا أنه سرعان ما ينجذب نحو مواضيعها المستفزة وطريقة عرضها. هناك لفت انتباهنا كتلتان من الكونكريت، كان عدم التوافق بينهما وبين بقية الأعمال ما دعانا إلى السؤال حولهما، ليأتينا جواب لا تنقصه الدهشة: " إنهما قطعتان حقيقيتان من جدار برلين " هكذا تلمسنا جدار برلين ونحن في الدنمارك، تلمسنا الكتل الكونكريتية ونحن نستمع لغلشوت وهو يشرح لنا كيفية الحصول على الكتلتين: " في تلك المناسبة، قدمت عمل خاص بيوم سقوط الجدار، وعلى إثر ذلك حصلت على هاتين القطعتين كهدية وتكريم لي من قبل الحكومة... أصبحت القطعتين مزاراً للكثير من الناس، هنا، إلى جانب أعمالي... وهذا شيء رائع. "
ليس بعيداً عن القطعتين، يقف تمثال برونزي بارتقاع ثلاثة أمتار ونصف المتر، إنه التمثال الذي جاب الكثير من مدن العالم " البقاء للأضخم Survival of the Fattest " (2002) تمثال طالما أثار فضول المشاهد. رجل جائع ومنهك بهيكل عظمي بارز لا يمتلك من الملابس سوى خرقة يستر بها نصفه الأسفل، يحمل على أكتافة كتلة بشرية ضخمة. كائن بدين يختلط جنسه بين الرجل والمرأة لا يريد المشي، كسول، يعتمد على الجائع في كل شيء رغم أنه السبب في جوعه... حتى النظر، تراه مغمض العينين، كونه يعتمد على الإنسان المنهك الذي يحمله في رؤية طريقه، ومع كل هذا نجده ماسكاً بعصا طويلة ليتكئ عليها وكأنه يسير، متناسياً من يحمله. وفي يده اليمنى يحمل ميزان العدالة والحق، هو الذي لم يتصرف بعدالة... الناظر للعمل سرعان ما يكتشف صغر الميزان وميلانه وتلك المسكة المستخفة بالعدل: " اللاعدالة تؤرقني جداً وهذا التمثال تحذير على أن لا يكون وجه العالم بهذه الصورة المخيفة... " هذه هي الرمزية التي ينفرد بها هذا الفنان الحريص على طرح فلسفته عن طريق المتناقضات... قد يجد البعض في هذا العمل ما يرمز إلى القارة السمراء، وهناك من وجد فيه علامة إدانة للاستعمار والتسلط السياسي، وهناك أراء أخرى تشترك جميعها بأن موضوع العمل يبتعد عن هموم ومشاكل الفرد الدنماركي. وتلك ميزة وإشارة إلى ما يشغل تفكير هذا الفنان، وعن تلك النقطة بالذات يقول: " أغلب أعمالي تنتمي بأفكارها إلى مدن بعيدة من هنا. منها ما يهتم بالإنسان والتاريخ الإنساني لشعوب مثل الأفريقية والشرق أوسطية، وبعض الدول الأوربية وكذلك العربية... الرسائل التي تحملها أعمالي، رسائل إنسانية، غالباً ما يكون طرحها بشكل عنيف ومؤثر، له ضربة إيقاع مدوية، وهذا الشكل من الرسائل لا تجده كثيراً في الدنمارك، ليس لأن الدنمارك خالية من المشاكل، أبداً، لكن الدنماركيون يخافون العنف حتى لو كان داخل فكرة... ومع ذلك فقد عملت العديد من الأعمال التي تخص بفكرتها المجتمع الدنماركي والأوربي، وكان الأكثر شهرة بينها تمثال " My inner beast " عام 1993، و " مسيرة الجياع " عام 2002 " " ليس الغرباء أو الأجانب، بل أفعالنا تجاههم هي التي تهدد حضارتنا. " يتذكر الكثير في أوربا هذه العبارة التي رافقت العمل مع غيرها من العبارات التي تشير إلى خطر تحول الإنسان الأوربي إلى العدائية تجاه الآخر... هذا العمل الذي يصور تكويناً بشرياً برأس خنزير وأذني كلب، كان قد نصب في شهر نوفمبر من عام 1993 وسط عشرين مدينة وعاصمة أوربية خلال ثلاثة أيام متتالية، بروكسل، أوسلو، أمستردام، كوبنهاجن، بون، باريس وغيرها من المدن الأخرى... هذا التمثال الأسمنتي " وحشي الداخل " كان صرخة مدوية بوجه الأنانية الجديدة التي تلمسها غلشوت لدى الفرد الأوربي وخصوصاً المؤسسات الحكومية، حيث يقول: " أنا قلق جداً على مستقبل الإنسان، هنا في الدنمارك، على سبيل المثال، الحياة اليومية تغيرت، نظرة الإنسان للإنسان تغيرت، ولهذا قدمت هذا العمل الذي يترجم الخوف من أن نتحول إلى أناس في الشكل، ولكننا نمتلك حيوان مفترس أو قذر داخلنا، الخوف من أن تسيطر علينا قوانين الغابة ونأكل بعضنا البعض... "
لا يمكننا أن نلتقي بالفنان غلشوت دون أن نتحدث عن تمثال " عمود العار "، التمثال الذي طاف الكثير من عواصم العام ليستقر عام 1997 في الساحة الرئيسة أمام جامعة هونك كونج. التمثال الذي تبنته الحكومة هناك والذي أصبح رمزاً تاريخياً يحتفى به كل عام حين تحل ذكرى الاعتصام الطلابي الذي حدث في ساحة السلام بمدينة بيجين الصينية عام 1989، التمثال عبارة عن عمود مخروطي الشكل بارتفاع أربعة أمتار، متكون من أجساد بشرية عارية ومنهكة بأفواه مفتوحة وكأنها تصرخ رافضة الظلم، أجساد بشرية متراصة فوق بعضها تظهر وكأنها محشورة في مكان ضيق. يقول غلشوت: " أتذكر الليلة التي سبقت، يوم الافتتاح في هونك كونك، كان التمثال قد اكتمل تنصيبه في المكان المخصص، حينها تجمهر عدد من الطلبة حوله وقضوا ليلتهم يحرسونه خوفاً من أن يخربه بعض من المناصرين للحكومة الصينية... منذ ذلك الحين صار التمثال يمثل قضية إنسانية لدى شعب من شعوب الأرض، وهذا جل ما أطمح إليه من أعمالي... وبالمناسبة، هناك نسختين أخريين من هذا التمثال، الأولى موجودة في المكسيك، والثانية في البرازيل، والحقيقة أنا فخور جداً بها العمل. "
ينس غلشوت، فنان دنماركي، مولع بالأزياء العربية، مولع بالعباءة والكوفية والساري وعصابة الرأس البدوية، قد عمل الكثير من التماثيل التي تقدم تلك الأزياء، تماثيل لأشكال بشرية تدلنا على تكويناتهم، الثياب فقط... الناظر لها يجدها مفرغة من الجسد، الثياب تأخذ شكل الجسد لتدلنا على صفات بشرية، الطول، الحجم وحتى التكوين... هذا الفنان كان قد أعد معرضاً خاصاً للأزياء العربية، وعلى وجه الخصوص البدوية منها، إلا أن ظرفاً صعباً كان قد أوقف تنفيذها...
في ورشته الكبيرة التي يؤمها العديد من الطلبة ومن مختلف الجنسيات، لم يكتفِ غولشت في تعليم النحت وتنفيذ أعماله، بل عُرف عن الورشة أيضاً نشاطها الإنساني والاجتماعي، حيث إقامة الندوات والاحتفالات التي تخص حقوق الإنسان ورفع الظلم عن الشعوب المضطهدة، فمن المعروف عن هذا الفنان إقامته الندوات وإلقائه المحاضرات بشكل أسبوعي في الجامعات والمعاهد الدنماركية عن خطر الحركات العنصرية في أوربا والعالم... عن حقوق اللاجئين وعن اللاجئين والغرقى الذين ابتلعتهم البحار في رحلة الهروب من الحروب والمجاعة والظلم، وهو دائماً ما يردد: " ما يحدث من مذابح وهدر لحقوق الإنسان وكرامته، ليست بعيدة جداً عن حدودنا، حدود بلدي، لذلك أنا منزعج وغاضب جداً على الأنظمة... "

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف