ثقافات

جميل ملاعب في صالة جانين ربيز

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عاشق الجلد الملوّن
إيلاف: يبحث جميل ملاعب دوما عن الحس فكل ما هو غير قابل للتكتل العصبي والشهوي لا يمكنه أن يشكل مادة وموضوعا للوحته الرسم بنظره نقاش الضوء والنور واللون مع الحواس وليست اللوحة إلا نتيجة هذا النقاش. يرفض فكرة التجريد في اللون ويعتبر أن اللون جسد يملك أعصابا وعظاما لذلك فهو قابل لكل ما تحمله هذه العناصر من شحنات إنفعالية فهو يغضب ويثور ويحزن وينكسر ويكتئب ويفرح.
هذا النزوع يسيطر على تفكير جميل ملاعب الفني الذي لا يرى في اللوحة إلا جسما متكاملا ومماثلا للجسم البشري حيث أن عملية التأليف تتمثل في إقامة عملية التوازن لكي يكون هذا الكائن طبيعيا ومتناسقا لذا يعتبر أن الجمال ينخلق في هذا البعد بالتحديد وأن كل فكر او تدبير فني يبتعد عن مفهوم التناسق والتناغم والتوازن ليس إلا تشويها مقصودا لا طائل من ورائه.
يرى ملاعب أن الرسم هو في المحصلة لعب جاد يمتلك كل عناصر العالم ليلهو بها ويعيد تركيبها محتفظا بكثافتها العصبية الأصلية ومصعدا إياها إلى رتبة الترميز المكثف والواضح الذي يجد مسكنه النهائي في اللوحة.
التقينا بالفنان في معرضه الذي أقيم مؤخرا في صالة جانين ربيز وكان لنا معه هذا النقاش المفتوح الذي تجاوز حدود المعرض بكثير ليطل على كامل تجربة الفنان وذكرياته وأفكاره.
ما الذي يعني لك الآن إقامة معرض للوحاتك وأنت الذي يحمل سجلك العشرات من المعارض الناجحة؟
أقيم معرضا لأرى لوحاتي فحين أراها في المعرض أنظر إليها بشكل خاص. أحب أن أرى نفسي واضحا في المرايا ودائما هناك في افتتاح المعارض نوع من الحس الجماعي الذي يتبلور إذا ما إتفق الجميع على الإعجاب بلوحة ما على سبيل المثال. عندما تعتبر أن اللوحة قد أعجبتك فهذا يعني أنها صارت ملكا لك والمعارض برأيي لا يجب أن تحتفي بشخص بل إنها دعوة لكل متذوق لكي يحتفي بنفسه في الفن.الإتفاق على الجمال جميل.الفن يحمل بنية توحد كما يتوحد رجال الدين امام الله .في الفن هناك دين وهذا ما يجعل الناس تحبه.هناك صمت يشبه الله لان الله لا يتكلم بل يخلق.
التجريد والفراغ:
علاقة جميل ملاعب بالتجريد والفراغ ملتبسة فهو يؤمن أن التجريد خطأ شائع ويصر على ذلك فيعلن بوضوح :"لا شيء يسمى التجريد .إذا قلنا أن التجريد موجود فهذا يعني أننا نستطيع القول ببساطة إن الصمت هو موسيقى.اللون ليس تجريديا .اللون يملك جلدا وأعصابا وعظاما ونورا وإحساسا.اللون في شجرة مثلا يحيلك إلى الصورة المباشرة للشيء.الزهرة أيضا تهبك معناها باللون."
المعرفة والحس:
جدلية المعرفة والحس تدفع الرسام إلى الدخول في عالم دقيق حيث من الممكن ان يؤدي أي اختلاط في المفاهيم إلى خطأ في التعاطي مع الموضوع الفني والنظر إليه بغير أدواته .من هنا تنبع تلك المنهجية الدقيقة التي ينظر بواسطتها جميل ملاعب إلى عناصر الفن والمفاهيم المرتبطة به فلا تتساوى في هذه المعادلة المعرفة مع الحس ولا يكونان جسدا واحدا ولكن الحس في الفن يقوم مقام المعرفة والأمر نفسه ينطبق على الفنون جميعها .لا فهم أمام اللوحة وكذلك في الموسيقى بل جهل.ما نحسه أجمل من ما نعرفه.
يعرف الرسام ان المعرفة استنفاذ وقتل لذلك فهو يمارس عملية إنزياح واسعة عليها بحيث لا تعود ملامحها قابلة للظهور فيحتل الحس كامل المساحة التي كانت المعرفة تشغلها ولكن دون أن تدمر تماما ونهائيا كل العلاقة معها. المعرفة تكون وتحيا في ضدها الجهل وبذلك تكون في حسنها الذي تدفعه ملازمتها لضدها إلى أقصى تجلياته . نرى في عمل جميل ملاعب حسا جاهلا بنفسه وصفاته ولكنه قابل دوما للتحول إلى نزوعات وإلى أهواء غير آيلة لنهائيات المصائر وجنائزيتها بل إلى فرحة الجهل الهارب من متانة اليقين المعرفي الخانقة.

جماليات الجلد:يكتب الرسام خطاب الجلد:"أجمل ما في الإنسان جلده ،لو عرفنا ما في الداخل لكرهنا أنفسنا .لا يجب ان يعرف الإنسان نفسه.يجب ان يلمس نفسه وهو مغطى.نحب من لا نعرفه. نعرف أشياء عن من نحبهم ولكننا لا نعرفهم. كل ما هو معلن يؤدي إلى الموت."
الجلد حجاب المجهول وهذا المجهول الرائع ليس سوى الحياة نفسها التي هي ليست في الحقيقة إلا معملا ضخما تدور فيه الآلات بلا توقف ولكن في الظل حيث أن كل هذا الحراك الدائم يتخفى تحت طبقة الجلد التي تضع الكائن في حضور الجمال فعندما نتحدث عن جمال إمراة فإننا عمليا نتحدث عن جلدها. نحن لسنا إذا في المحصلة الأخير سوى عشاق جلد وهذا الجلد حجاب يظهر بنفسه ليخفي ما سواه. نحن إذا نعشق الحجاب في الجلد لأن الدفع بالاشياء نحو حقيقتها الفعلية يجردها من علاقتها بالجمال ويجعل منها صحراء قابلة للإكتشاف الدقيق والعلمي .كلما اكتشفنا شيئا مباشرا في موضوع المرأة كلما سقطت نجمة من سماء الفن وكلما تعمقنا في التقصي بحثا عن العلم في المرأة كلما تهاوت أشجار تلك الغابة الفاتنة التي لم يسبر غورها بعد واحدة تلو الاخرى. ساعتها سنعرف وستكون تلك المعرفة هي تماما ما كنا نحاول أن نتجنبه بواسطتها أي الموت. الموت إنتباه في حين أن الحياة هي النوم والغفلة ولا يستطيع الفن إلا ان ينحاز إلى الغفلة الخلاقة التي حين تتجلى في فضاء الخط واللون والموسيقى والشعر فإنها تصنع للكائن حجابه الجميل الشفاف الذي لا يسمح إلا للتفاصيل الخاضعة لحكم الجمال بالعبور. هكذا تتكون سلطة الجلد التي هي سلطة الإشارات وسلطة الرموز المسرفة في وضوحها وعلانيتها.

الحزن الذي لا يحتمل:
يعايش جميل ملاعب الوسط الفني منذ سنة 1964وكان قد عرض في عام 1966في معرض سرسق عددا من اللوحات والمنحوتات.أعز ما يملك هو صورة تجمعه مع عارف الريس وبول غيراغوسيان تعود إلى تلك المرحلة.
محمد الماغوط هو الشاعر الأهم برأية على الرغم من أن حزنه لا يحتمل. حين يتذكره يصمت قليلا ثم يردد كلماته في رثاء بدر شاكر السياب"قبرك البطيء كالسلحفاة لن يبلغ الجنة أبدا .الجنة للعدائين وراكبي الدرّاجات"
الجسد يؤلف اللوحة:
عنصر التأليف في اللوحة له مرجع وحيد بالنسبة إليه هو مقاييس وأبعاد الجسدالإنساني: "اللوحة هي جسد مثل جسد الإنسان بكافة أعضائه. هي هندسة غير متناظرة ومتناظرة في الآن عينه.كل نقطة في اللوحة هي كالكرة لها بعدها الحسي والتشكيلي والتقليدي.الفنان يلعب بها بطريقة غير تقليدية.هنا يتم الإنتقال والتناوب بين الفوضى والنظام فلا يجوز الطغيان ابدا أي غياب العاطفة على حساب العقل.هناك سلم موسيقي لللوحة كما هناك سلم موسيقي للمعزوفة.التأليف هو نوع من الهندسة النحتية لللوحة وهذا الشيء يتم دون إهمال البعد.إذا كنت ترسم إنسانا هناك صعوبة في أن تضع القريب في مكان والبعيد في مكان. اللوحة هي كذبة على مسطح.إذا برمت اللوحة تبدو وكأنها خط مستقيم. نحن نلعب ونتحايل في هذا البعد لكي نتظاهر أن هناك لونا وأبعادا." التحريك والتواصل:
الحركة اتصال بالكون وفي الفن هي المنهج الذي يقرب الأشياء من الإنساني ويدمجها فيه لذا فإن لوحة جميل ملاعب تجتهد في محاولتها شحن نفسها بالحركة الدائمة التي تعني القدرة على إنشاء نظام تواصل يمشي في سيرورة دائمة بلا توقف ولا إنقطاعات:"هناك محاولة دائمة عندي لجعل الاشياء تتحرك .أغمق اللون مثلا إذا حاولت رسم البحر ثم ألجأ إلى تفتيح مستمر فيبدو المشهد وكأنه متواصل.هذا التواصل يفترض حتى سرعة معينة في وضع اللون فيجب ان تكون لدي كمية معينة لمساحة معينة لان الخطأ في هذا الصدد لا يمكن إصلاحه."
نجاح اللوحة وفشلها:
يجيب الفنان على هذا السؤال بقوله :"لا أعرف إذا كانت اللوحة ناجحة أم لا.أسر عندما ينظر الناس إلى لوحاتي فيقولون إنها جيدة فارتاح كذلك حين أقرأ مقالا جيدا عن عن لوحاتي فأجد وكأنها قد تحولت إلى كلام أي إلى واقع مع أن اللوحة هي دائما شيء آخر. ما أرسمه أجمل بكثير مما كنت أتوقعه في البداية وهذا ما يجعلني أستمر".
الظل الملون :
اللون هو الموجود وما عداه باطل هذا هو الشعار الذي يدافع عنه ملاعب:"ليس هناك ظل هناك لون.سيزان كان يلون الظل .غوغان كان لديه ألوان جميلة وخاصة الموف فهو لون يحملك مسؤولية كونه غير مركب لذا عندما يجيد احد طلابي استخدامه أعتبر انه قد وصل إلى مرحلة النضج الفني."
الرمادي و:"نمردة" الألوان:
الرمادي بنظر الفنان هو :"احتراق لونين .يصبح لللون قيمة إذا ما اخترته بعناية ومحبة.اللون نمرود وإذا كان هناك سوء تفاهم بينك وبينه فسوف يوقعك في ورطة.هناك اشخاص يضربون الناس في لوحاتهم بألوان بشعة."

اللون والموضة:
اللون وعلى الرغم من أنه مادة فنية ولكنه ايضا مصنع وصناع اللون يسعون إلى الربح فيخلقون في سبيل ذلك تركيب لوني قد لا يكون دائما مناسبا لهوى الفنان ورغباته وحاجاته.عن هذه المشكلة يتحدث جميل ملاعب قائلا:"اللون يصنع ويعلب وفقا للموضة ومن يفعل ذلك له الحق ولكنه يعطي اللون صفاتا ويسلب منه اخرى .أنا منحاز لللون الطالع من قلب المكان.انا مع اللون الذي تلبسه البدوية أو التي تقلع البطاطا لأنها اختارته ليراها الله به.أكره الداخلين إلى البرامج التلفزيونية الّذين يرتدون ألوانا تشبه لون البويا على الباب أي لون لم يختاروه ولم يعيشوه."
الايقونة الإصطفاف الإكتظاظ:
لا يعلم الفنان شيئا عن الأيقونة. يحتج لدى سؤاله عن علاقة لوحاته بها معلنا:"لا أعلم ما معنى هذه الكلمة.انا معجب بالفن البدائي.أنا ضد الفن الطفولي.انا مع الفن الذي يحافظ على شكل الإنسان دون تشويه." أما الإصفاف فيبرره بأنه:" تكرار حركة للتأكيد على جماليتها وكأنه طرب." أما الإكتظاظ فهويعني :" عدم وجود نقاط غير أساسية.لللوحة قلب ورجل ورأس فإذا شككت فيها دبوس فسوف تتألم"
مديح التكنولوجيا:
علاقة الرسام بالكومبيوتر صار عمرها أكثر من عشرين عام .يرسم خريطتها بإيجابية ويسردها قائلا:"سنة 1987استخدمت الكومبيوتر لأول مرة في تأليف اللوحات وكنت أحترمه وأراه مفيدا.الكومبيوتر داخل في صناعة لوحاتنا شئنا أم أبينا.إذا شئت أي شكل هندسي خيالي أرسمه على الكومبيوتر لكن اللمسة الإنسانية هي التي تبقى ضرورية. إذا شئت أن تنسخ اللوحة على الكومبيوتر بدقة فلا بأس فهي حاملة لجزء من القيمة الأساسية لللوحة ولكن القيمة الكبرى تبقى للعمل الأساسي. لا يجب أن يخاف الإنسان من الكومبيوتر لأنه آلة كما الريشة آلة.هل هناك ما هو أجمل من ان أتمكن من أن أمسك الفأرة وأرسم وأنا في غرفتي لوحة تبلغ 100متر.هذا ليس خارجا عن الفن.ليس الفن هو ما يباع. الفن هو ما يجعلك تحس بأنك غير محدود.طالما هناك إمكانية خاصة يكون الأمر فنيا."
اللحظة والمستقبل النوم والموت:
تستحضر هذه الكلمات في نفس الفنان جملة من المشاعر فيعتمد في الكلام عنها على تقنية الفلاشات السريعة المكثفة والموجزة.
عن المستقبل يقول:"لا وجود للمستقبل.اللحظة هي المستقبل.لا الماضي موجود ولا المستقبل.اللحظات تتكرر وهذه ليست مشكلتنا بل إنها مشكلتنا.المستقبل هو ما يومض و ببرقة واحدة يضيء لك مسافة عشرين عام فتستطيع ان ترى أنك غائب وموجود في الآن نفسه. "
يمدح النوم :"ألذ شيء بالنسبة لي هو أن استطيع النوم متى اشاء.أصعب شيء في الحياة هو أن أريد النوم ولا أستطيع.دوستويفسكي كان يقول إن أصعب شيء في الحياة هو غرفة النوم"
يقشر الموت:"الإنسان يحب الموت ولكن المفهوم الخاطىء للموت هو ما يجعل الناس تخاف منه."
يصمت قليلا ثم يطلق تعريفا رنانا للإبداع:"الإبداع هو خلاص من الموت".
لكنك قلت منذ قليل إن الإنسان يحب الموت؟!
لا بأس، انا متناقض ولكن هذا ما يجعل مني إنسانا.
اللوحة هي الإنسان غذا والإنسان هو التناقض لذا لا تكون مهمة الفنان في خلاصة هذا اللقاء الدسم مع أعمال وأفكار جميل ملاعب سوى هندسة هذا التناقض وترتيبه وشحنه بمعنى مفتوح على لا نهائية التأويل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف