ثقافات

انخطافات في ليل ساهر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

I

كل الضيوف رحلوا، أغلقتُ باب الشقة، عائداً إلى غرفة النوم، حيث وجدت زوجتي في ثقلته. كان الوقت متأخراً. منذ وقت طويل لم اقلب طرفي في النجوم. فتحت قنينة الويسكي التي أخفتها عني زوجتي أسابيع، وراء دواوين صفراء، وهي تعرف إني لن اقرأها وبالتالي لن اكتشف القنينة، لذلك قضيت أياماً عديدة لاكتشاف هذه القنينة اللعينة التي ما أسرعت فتحها حتى تمززتها بديئا، ثم طفقت أرتضع أفاويق الكأس اثر الكأس. كانت السماء مرصعة بكل النجوم الفائتة. سرّحتُ في الجوار نظري مستذكرا أن العوام ينامون في وقت مبكر من اجل أحلام متأخرة. لمحت العجوز(1)، بلى العجوز وكأن عيني أخذتْها. سمعت صوتها المعتاد. سمعته يقع في شارع السماع. كنت منفردا ارتشف العالم على جرعات من النظر، والقنينة على وشك أن تنتهي.

II
Place de Clichy
جالسٌ مقهى جوزيف. إنها الساعة الثانية صباحا. أتحسس نصاً لا استطيع التعبير عنه. عاهرة تدخل المقهى، تضحك بشكل جد فاجر. يصفعها الجرسون، فينهض إفريقي دفاعا عنها، جلده يتصفـّد سائلاً مَـنوياً. تفوح منه رائحة قوية، يلوذها شميمه، فتبتلعهما لجة الالتذاذ الخفية.
وإذا بسيل من أقوال غريبة ضاق عنها وعاء الحافظة، اخذ يتدفق على سطح الدفتر، لكتـّاب كبار من أمثال والاس ستيفنس: "الجهلُ هو أحد مصادر الشعر"/ فرانك هربرت: "المال في نظر الكاتب وقتٌ للكتابة"/ صاموئيل بيكيت: "الكلمات هذا كل ما نملك"/ أودن: "الشعر هو الفن الوحيد الذي لم يتعلم استهلاكه كأي حساء"/ اوسكار وايلد: "كل الشعر الرديء يتأتى من مشاعر حقيقية"/ أي بي وايت: "كن غامضا بوضوح"/ ايفتيشنكو: "على الشعراء، في هذه الأيام، ان يتعلموا الكاراتيه"/ سيريل كونولي: "من الأفضل أن تكتب من اجل نفسك ولا يكون لك جمهور، على أن يكون لك جمهور، ولا تكون لك نفس"/ جان بول سارتر: "الكلمات مسدسات محشوة"/ رينغ لاردنر: "كيف تقدر أن تكتب، وليست لك قدرة على الصراخ"/ مارك توين: "ادم هو الإنسان الوحيد الذي كان واثقا- اذ يقول قولاً بديعاً- إن أحدا لم يسبقه إلى ذلك"/ أميلي دكنز: "النشر مزاد يُباع فيه عقلُ الإنسان"/ جوي وليمز : "إنـّا نكتب حتى نجد معاني الكلمات"/ وليم انج: "الأصالة انتحالٌ غيرُ مُكتـَشف"، والكاتب العظيم هو ذالك الذي وعى كلَّ هذا، وليس.


III
منذ ساعات وأنا استهدف نقطة ما معينة وسط هذه الماهيات المتناثرة من شحاذين وسكارى ومسافرين حيارى لا يعرفون الاتجاه. منذ ساعات عديدة وان أحاول ان اعبر، ولو بجملة واحدة قصيرة، عن هذا التعارض الكبير بين الماهية والظاهرة: مَن يقبس مَن؟ فنجان القهوة على الطاولة. السيارات تلتهم إسفلت العالم. المكان اخذ يتوعّر بينما تتحلل صور الليل في سيل الضوء المتدفق من نيون اللافتات. اشعر أن كل شيء في هذا الليل الكبير متوقف على تركيب جديد للفَهم. ساعات تنقضي وأنا أتبصر في ما يبرز لمشهد الحواس من بقايا مملكة النص الوهاجة. المطلق يفصح عن تدرجه الكمي. لكن ليس من تجلٍ مباغت هذه الليلة، فالذهن مزدحم بالرؤى، وكل شيء هادئ على الجانب الآخر من مرآة الإلهام. فضلا عن أن "|الإبداع لا يمكن التنبؤ به"، على حد قول كانط.

IV
سرتُ مسافة، ثم عدت بإدراجي إلى القنطرة الممتدة فوق مقبرة مونمارتر، تحسست أن البشرية بكل عظمائها على مرأى مني، وكأن المقبرة باتت صالة يعرض فيها شريط سينمائي ناطق. فها هو كارون الشيخ الأبيض ذو الشعر العتيق، يرى أول حراس الجحيم، فيعبر بهم النهر، واسمعه يعترض على وجود دانتي: "أنت أيها الإنسان الحي، باعد نفسك عن هؤلاء الموتى.... فيسقط كرجل أخذه النوم". لمقبرة مونمارت منخفضات جميلة، أعشاب برية، وعوسج متشابك... القبور فيها متناثرة على نحو هندسي ساحر تتكسر بين منعطفاتها الظلال خالقة زوايا غبشية اللون وكأن القمر يساعد بضوئه العتمة على تنسيق نفسها ديكورا لعمل مسرحي صامت، الراقدون هم الممثلون والجمهور معا... كم كان لهم ضجيج، أحلام وقرارات، وها هم اليوم سكون مطبق. أنا الآن في منتصف القنطرة، أسفلي هوّة سحيقة ألقيت فيها ضمادة قطنية كانت في جيبي بسبب جرح قديم. راحت الضمادة تتأنى في نزولها متأملة هذا السكون على أمل أن تسقط في مكان يخلدها لا أن يلتقطها في الصباح حارس المقبرة كأية نفاية. لكن..

لا يَعرفُ الموتى
مَصيرَهمْ
ولا يدرونَ أنّهمْ...
قد ماتوا
وأنّ كلّ ما أتوا بهِ
- ما هَمَّ لو مدى زمانٍ يَلْتمعْ -
مصيرهُ الصّفارُ والمَجازُ والغبارُ...
أدلجوا وهمْ لا يعلمونَ
أنّهمْ موتى فقط ْ
في ظلمةٍ لم يَعْهِدوا،
كأَنّهُمْ لم يولدوا:
لا ذكرياتُ،
لا ندَمْ
لا دمعةٌ
لا ومضة ٌ
تريهمْ انجازَ
ما ابتغوا...


V
في هدأه الليل نهار يولول، عوالم تعلو وتندثر. في هدأة الليل، الموتُ يلاعب الحياة التي نحلم. كلُّ شيء يبهرنا إلى هذا الموت الراسي وكأنه خطٌ من خطوط الكف. كل شيء يقذف بنا إلى هذا العالم من أجل ميتة مختارة. امرأة ماتت هذا الصيف بعد سنوات من تعقب زوجها الذي نبذها إلى امرأة أخرى، فوجدت نفسها هائمة بدائرة الفكرة بين جدران الإرادة الضيقة وشوارع التمرد العريضة. أنـْبِئتْ التغييرُ آت. فأخذ الحلم السوريالي يضيئها كل ليلة. لكن هذا الصباح، من بين كل جميلات العالم، خطفها الموت حتى يفجر بها في سويداء الأرض حيث الإبداع وقف في الريح.
لقد ماتت لأن العالم لا يتحمل الأنقياء، إذ لهم، على الدوام، خط بياني لتاريخ مكتوب لا أحد يفلت منه: أشبه بوقع خطى في رواق الحركات والأفكار التي ما أن ننتمي إليها توقاً إلى تغيير مسرى ما، حتى ندرك أن صعود النهر لا يحتاج إلى مجاذيف، وإنما إلى تواطؤ التيار. (باريس 1994)

1- هنا إشارة إلى قصيدة نشرتُها في "القدس العربي" (1 نوفمبر 1990)، هنا نصها:

الله في كلمة

العجوز التي تعيش في الغرفة المقابلة لشقتنا، والتي كثيراً ما كانت تتأمل، في مرآة مشروخة، أحناءَ جمالها المترهل. العجوز هذه.... لا أظنها إلا قد ماتت. منذ ثلاثة أيام وغرفتها في ظلام يثير أسئلة جد متضاربة في أذهان نزلاء البناية التي اسكن. لِمَ هذا الشعور المتشائم بأنّ كلَّ غياب هو موتٌ نهائي؟ العجوز هذه، إما انزوت عن أنظارنا لغرض إبداعي (الم تقل لنا بأنها تنادم الكتابة أياما لكي تتخلص من الصور التي جعلتها ضريرة) وإما ذهبت إلى بلد آخر للاستراحة، للتأمل: رب هواء صحيح يتسرب من نافذة- ذاكرة بعيدة.... إنها عجوز قبل كل شيء. غير أن ليلةً أخرى قد مرت والظلام هو إزاءُهُ؟ "فليكن"، صرح احد النزلاء، "ما دام ليس هناك من معلم يؤكد لنا موت عجوز، الباب مبهم فحسب".
انه على حق: "مبهم فحسب".
إذن،
شيءٌ ما يسري.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
المبدع
الأمين -

بهذه النصوص يضيء الجنابي شمعة كبيرة في ظلام اللغة العربية ويعيد الأمل للطيران عاليا في فضائها

الجنابي شاعر
شاعر -

كلما اقرا لهذا الشاعر اقف مستغربا .....مثل الجنابي شاعرا صادقا لم اقرا الى هذه اللحظه

حظي جميل !
شاعر -

اليوم حظي جميل .. قرأتُ شعراً لكافافي و أميلي ديكنز , وهذا النص الرائع لك !تتذكرني؟ قبل أيام كان لي تعليق على نص نثري لأحدهم أثار غثياني !آسف على تلك المساجلة الغبية التي أكلت وقتي !دمت بخير !

شكرا
فاضل سوداني -

ياجنابي انت شاعر ووجودي وعبثي و و وكافر بالشعر العربي الخائن لا تصدق الكذبة من الشعراء ودمت شمال الكوكب

رائع
من بيروت -

شكراً أستذا عبد القادر . لقد أنعشت نهاري بالأحلام . إنشر دوماً رجاء. لا تغب طويلاً...

نعم الشراب
zorba -

الويسكس والله المسلم لا يلتقيان. وان فعلا ففي ساحة وغى او في ساحة نص. الويسكي صديق الله الآخر، الله الرحيم بعباده الآخرين، الله الذي يترك البارات مفتوحة في كل الأيام التي خلقها. الله المسلم يلبس جلبابا ابيض وبلغة صفراء ويمشي في الطرقات باحثا عن باب بار مفتوح ليعلن اقتراب الساعة وضرورة التحرك لحماية الممسوسين برائحة الجنة. النص اعلاه نتاج ويسكي تشبه الكتب الصفراء. الويسكي غير النبيذ. الويسكي لا تحرك شهرزاد. لا تحكي شهرزاد عن الويسكي . شهرزاد تحكي عن النبيذ والحوريات الصاعدات من القيعان وعن عبدالله البحري وعن الحكايات التي ان كتبت على آماق البصرلكانت عبرة لمن يعتبر . الكتب الصفراء ملجأ السلفيين، معينهم الذي لا ينضب.خبأت الزوجة الويسكي وراء الكتب الصفراء لكي لا يعود اليها الكاتب. خاب ظنها. ينبغي ان لا لا تخبأ الويسكي وراء الكتب. الويسكي تعرض في السوبرماركت.الويسكي علامة شفافية وانفتاح.اشرب كي تصير شفافا كما الماء.اشرب كي تنفتح عيناك علىقاعك العميق. لن يلعنك الله. الله الذي وعد مؤمنيه بالحوريات والشراب في كؤوس من بلور سيتفهم عطشك. اشرب واكتب نصا كما النص الذي بين ايديك.لن يلعنك الله الجميل المحب لكل ما يجعل من الانسان انسانا .انسانا فقط.لا شيطانا ولا ملاكا بجناحين من نور.شكرا للذي كتب النص اعلاه.لقد اطلق لجام قلمي.

كسر في آية !!
تقدير -

شاعر كبير بكل المقاييس و إنسان كبير بكل المقاييس و ستظل أجيال من الشعراء الشباب تنظر إلى تجربتك الشعرية و النقدية و الوجودية بكثير من التقدير، و سيظل الكثير من الشعراء الشباب يتدكرون دعمك لهم بكثير من الإمتنان يا أستاد الكل