قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"هاينر مُلر أبشرك بأنك ستكون أول رئيس أحمر للولايات المتحدة الأمريكية!" (عرافة بلغارية)
صالح كاظم من برلين: في أعمال هاينر مُلر (1929-1995) التي تشمل القصيدة والقصة القصيرة والمسرحية (في خمسينات وستينات القرن الماضي)وما أفضل تسميته بـ"النص المسرحي" في فترة السبعينات والثمانينات وحتى منتصف التسعينات، هناك سعي مستمر للتحرر من قيود النصوص التقليدية وإستشفاف الإمكانيات التجريبية للنص، تصل أحيانا لحد إنتهاك الحرمات التي قد يفرضها النص على كاتبه من خلال إرتباطه بجنس أدبي معين. وتبرز هذه النزعة حتى في أعماله الأولى التي كتبها وفق نهج "المسرح التعليمي" الذي وضع أسسه برتولت بريشت ومنها "التصحيح" و"ضاغط الأجور" التي أدخل فيها، تعارضا مع ما رسخه بريشت في مسرحياته التعليمية، بعدا ذاتيا لغرض إضاءة الدوافع الداخلية لشخصياته وكشف الخلل التاريخي في سلوكها المصاغ من خلال تجربة النازية والحرب. وينطبق هذا أيضا على أعماله المسرحية الكبيرة اللاحقة: "المهاجرة أو الحياة في الريف"، "البناء" و"فيلوكتيت" إضافة الى مسرحياته الأخرى التي نحن لسنا في صدد تعدادها. وربما يكمن هنا السبب الرئيسي للصعوبات التي واجهت الكاتب في بداية حياته الأدبية من قبل الرقابة وكذلك من قبل "الحزب الإشتراكي الألماني الموحد" الذي كان قد أنتمى إليه مباشرة بعد تأسيسه في سنة 1947، وأدت الى منع نشر أعماله أو تقديمها على خشبة المسرح بحجة أنها تتناقض "شكلا ومحتوى" مع "ضرورات البناء الإشتراكي" إضافة لكونها تحمل نزعة "إنحطاطية" و"شكلية"، وذلك رغم تتلمذه ضمن مجموعة من الكتاب الشباب على يد بريشت ومحاولاته الفاشلة للإلتحاق بطاقم الـ "برلينر إينسامبل". ليس من النادر أن تترك السياسة بصماتها على كيان كاتب إستثنائي مثل هاينر مُلر، إلا أنه ليس من المعتاد أن تجد لها إمتدادات فيعمله الفني، كما حصل مع مُلر الذي أستمر، رغم ميله العميق نحو التجريبية يسلط الأضواء على ما يحيط به من الأحداث، دون أن يسقط في براثين المباشرة أو الإعلان السياسي المباشر، وربما كان هذا هو مصدر التخوف السياسي من أعماله من قبل النخب السياسية في "ألمانيا الديمقراطية". في إطار هذا التوجه الذي يضع "السياسي" في حدوده كجزء من العوامل المكونة للأفراد وللمجتمعات يُشَرّح مُلر الكيان الإنساني من موقع يبدو أحيانا خارج التاريخ، غير انه في جوهره محمل بكوارث البشرية منذ بداياتها مرورا بحاضرها وسيرا نحو مستقبلها المحاط بالمخاطر. في كل هذا كانت التجربة الحياتية الشخصية والتي يمكن إختزالها في عنوان سيرة حياته "حرب بلا معارك، الحياة في دكتاتوريتين" التي هي عبارة عن حوار مطول مع الكاتبة الألمانية كاتيا لانغه مُلر(1951) ذات حضور مميز في أعماله، لا يخلو من تأثيرات التيارات الفكرية والأدبية السائدة وقتها (الوجودية فكرا وتيارات الـ "لامعقول" مسرحيا وأدبيا مع التأكيد على أصوله النظرية التي رسخها أنتونين آرتو (1896-1948))، إضافة الى التوجهات الماركسية البعيدة عن الدوغماتية متجسدة بشكل خاص في أعمال المفكر الماركسي الفرنسي لويس آلتوسير (1918-1990)، ولاحقا في التوجهات ما بعد البنيوية مجسدة بشكل خاص في أعمال الفيلسوف ميشيل فوكو (1926-1984). من هنا جاء الخطاب الفكري لمُلر متماثلا مع الإتجاهات الحداثية في القرن العشرين، وعلى مسافة نقدية منها في آن من خلال كشفه لفشل الخطاب الأيديولوجي عن مواجهة ماكنة التاريخ: "البحث عن مجتمع مختلف يبقى مصدرا للقوة، المشكلة هي أن الهوة بين اليوتوبيا والتاريخ تزداد سعة." نتيجة هذا الإقرار بإنفصام اليوتوبيا عن العملية التاريخية تضعها خارج الصيرورة التاريخية وتقر بعجزها عن أن تكون عاملا فاعلا في توجيه هذه المسيرة، مما يضعنا في موقع مراجعة الحركات الثورية (الإنقلابية) للقرن العشرين، بما فيها -مع الفارق الكبير- تلك التي تحمل الطابع الشيوعي، والأخرى ذات الواجهة النازية - مع الإقرار بأن الأخيرة كانت هي الأكثر دموية في محاولة فرض نظامها الشمولي على البشرية-. ولتبسيط المسألة فأن الفرد يبدو على الأقل للوهلة الأولى عاجزا بمواجهة القوانين التي تتحكم بمجرى حركة التاريخ، ذلك حتى في اللحظة التي يضعه فيها الوهم الجمعي أمام خيار التغيير. ربما يرى البعض في هذا الخطاب شيئا من القدرية، تتجسد في إلغاء قدرة الفرد على مواجهة الفعل التاريخي الخارج عن إرادته، غير أن مُلر يتجاوز هذا المطب من خلال توظيف مخيلة التمرد - متقاربا مع البير كامو- في إطارها الفني "المسرح كمختبر للمخيلة الجماعية" كصرخة إحتجاج ضد "الوضع البشري". وعلى عكس بريشت الذي كان يؤمن الى حد ما بـ "أن الإنسان هو نتاج واقعه الإجتماعي"، يرى مُلر، وهو يتفق في هذا مع الشاعر الفرنسي لوتريامون (1846-1870) بوجود خلل داخلي في الكيان الإنساني، يجعله تربة صالحة لبذرة التخريب. ويقر مُلر في مذكراته بأن "أناشيد مالدورور" تركت بصماتها على تكوينه الفكري والفني منذ تعرفه عليها في خمسينات القرن الماضي. في الحصيلة فأن البنية الفكرية لهاينر مُلر هي خازنة لمجمل التيارات الفكرية والفنية في القرن العشرين، مما دفع البعض لإعتبار أعماله ضمن ما يسمى بـ "ما بعد الحداثة" لكونها لا تخضع لشروط أي إتجاه فكري محدد، وإنما تسعى لتسليط الضوء على الخطوط المجهولة خارج حدود الوعي الإنساني للواقع المعاش. لإدراك جذور هذا الموقف من الضروري إستعادة بعض محطات حياة مُلر المحفوفة بالكوارث الشخصية والإجتماعية (إعتقال الأب خلال فترة النازية من قبل الغستابو، زواجه بالشاعرة إنغة مُلر التي لم تتمكن من تجاوز تجربة الموت التي مرت بها أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث دفنت تحت ركام بيت هدمته القنابل لإيام عديدة حتى تم إنقاذها في اللحظة الأخيرة، ثم لجأت للإنتحار، إضافة الى الضغوط التي مورست بحقه من قبل الحزب والدولة في "ألمانيا الديمقراطية"). إضافة لذلك فقد جاء سقوط جدار برلين وما ترتبت عليه من تحولات سياسية توجت بالوحدة الألمانية بعد فترة قصيرة من إنتخاب مُلر رئيسا لـ "أكاديمية الفنون الألمانية" في برلين الشرقية وتعيينه لاحقا مديرا لمسرح "برلينير إينسامبل" عاملا أساسيا في إنصرافه لفترة طويلة قبل موته في العام 1995 الى المشاغل الإدارية المتعلقة بهاتين المهمتين (إصرار اكاديمية الفنون الألمانية الغربية على إلحاق مثيلتها في الطرف الشرقي بها من جهة، واحملة التي شنها الكاتب المسرحي رولف هوخهوت من أجل الهيمنة على البرلينر إينسامبل، بعد أن حصل على توكيل من قبل مالكي البناية للتصرف بإسمهم، من جهة أخرى). مع ذلك تمكن من إخراج مجموعة من الأعمال المميزة، قـُدمت على خشبة المسرح.
المسرح وبديله
في بداية عمله الفني، في خمسينات القرن الماضي، وجد مُلر نفسه كما أغلب الكتاب الألمان في وقتها بمواجهة مهمة ثقافيةعسيرة، ألا وهي تجاوز الإرث الفكري للنازية ووضع أسس ثقافة جديدة قائمة على أساس رفض النازية والتأسيس لشرعية فكرية ديمقراطية. من هنا فقد أحتل الماضي موقعا خاصا، ليس في أعمال مُلر فحسب، بل كذلك في أعمال أكثر أبناء جيله الأدبي، غير أن معالجة مُلر لهذا الماضي تميزت بجذرية إستثنائية، وذلك منذ اللحظة الأولى، حين كان يخطط لكتابة عمله اللاحق "الموقعة" الذي رأى النور للمرة في العام 1974 وجاء جوابا فنيا من منظور المعايشة لما كتبه بريشت في المهجر عن الحقبة النازية في ألمانيا تحت عنوان: "رعب وبؤس الرايخ الثالث" وأعتمد فيه على شهادات المهاجرين الألمان. خلال هذه الفترة كتب مُلرأعمالا يمكن أن نضعها في إطار المسرح التعليمي ومنها "ضاغط الأجور" و "التصحيح"، إلا أنها كانت خلافا لأعمال بريشت التعليمية - بإستثناء مسرحية "الإجراء" التي منع بريشت عرضها بعد موته لإسباب سياسية-، تحوي جوانب مظلمة في دواخل شخصياتها تعود جذورها الى فترة النازية (الشخصية الرئيسية في مسرحية "ضاغط الأجور" بطل العمل الإشتراكي "بالكه"، وهي شخصية - بغض النظر عن الإسم- بنيت على أساس واقعي، تحاول من خلال الإنصراف للعمل بحماس غير مألوف أن تتستر على الجانب المظلم في حياتها، حيث خانت رفاقها من خلال التعاون مع النازيين، أما مسرحية "التصحيح" فهي تدور عن شيوعي خرج لتوه من معسكر الإعتقال ليفاجأ بتسلل النازيين الى السلطة الجديدة وملاحقتهم له). وفي حين أعتمد بريشت في مسرحه التعليمي الى "نمذجة" الشخصيات وجعلها أبواقا تعبر عن نزعات فكرية معينة، مع التركيز على دور الكورس، كونه في الأغلب، يمثل "الضمير الجمعي" كموجه للخيارات الفردية، يعتمد مٌلر على الغور في الجوانب الذاتية لشخصياته بحثا عن موقع الخلل فيها، مما يعني في النتيجة كسر طوق المنهج التعليمي عن طريق إغنائه بعناصر درامية والتخلي عن الكورس (الذي سيعود لإستخدامه لاحقا في "الهوراسي" وفي "ماوزر" كما في محاولاته الأولى في التعامل مع الميثولوجيا الإغريقية). وربما يعود الفضل في التطورات اللاحقة لنهجه المسرحي والأدبي الى مساعيه الدؤوبة لتجاوز تأثيرات بريشت، بحيث أصبح يمثل نموذجا إستثنائيا في الأدب المسرحي، حتى رأى العديد من النقاد في أعماله رؤيا ترتقي لما قدمه كتاب مسرح اللامعقول من إنجاز في تجاوز حدود المسرح التقليدي في أعمالهم المـُنتهِكة للغرضية السياسية والإجتماعية. وفق هذا المفهوم فأن تحرير المسرح من الواقع، أي السعي للعودة الى طقوسيته الأولى، ستكون هي الخطوة في طريق تجذيره جسديا خارج حدود النص، وهذا هو بالذات ما ينطبق على الشروط التي وضعها انتونين آرتو للعودة الى "تفعيل المسرح" ليس عن طريق "اللجوء الى نصوص متكاملة نتعامل معها كمقدسات، بل عن طريق تحرير المسرح من عبودية النص والسعي للعثور على خطاب مشترك يزاوج بين الحركة والفكر." (انتونين آرتو، المسرح وبديله، ص. 95) من هنا فقد توصل مُلر من خلال تجربته المسرحية الى ضرورة أن يكون النص المسرحي "مفتوحا"، أي قابلا للمساءلة والبحث، مما يمكن العاملين عليه منذ البداية على تحقيق رؤيتهم الخاصة من خلال تأهيله كمادة تجعل المسرح "ورشة للمخيلة الجماعية"، تمكن الممثل والمشاهد على حد سواء من إنتهاك المألوف وتحقيق يوتوبيا المشاركة، في أفضل الحالات على الطريقة الطقوسية التي كان آرتو يحلم بها منذ إحتكاكه بطقوسية "البدائيين" في بالي وغيرها. لتحقيق هذا الهدف لجأ حتى في أعماله الأولى الى أسلوب المونتاج وتداخل الأزمنة والأجناس الأدبية، وهذا ما نجده في أعماله الكبيرة مثل "المهاجرين" و"البناء" و "فيلوكتيت"، بينما أعماله الأخيرة على شكل "شذرات" يجمعها إطار مسرحي عام بإلارتباط بموضوع معين، وربما يعتبرها بعض النقاد ومن ضمنهم هيلموت كاراسيك شعرا. خلال هذه المرحلة التي وضعت مُلر بشكل نهائي خارج إطار الدراما أنجز نصوصا مهمة منها:
"الموقعة": مونتاج لنصوص كُتب بعضها مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وبعضها الآخر في ستينات القرن الماضي، يجمع بينها موضوع الحرب والخيانة والدمار الروحي الذي تركته النازية على الأفراد والمجتمع، تنتهي بـ "العشاء الأخير"، حيث يقوم عدد من الجنود بقتل "رفيقهم" ليأكلونه.
"حياة غندلنغ فريدريش البروسي نوم صرخة حلم ليسنغ": الفيلسوف والمؤرخ الألماني، رئيس أكاديمية العلوم البروسية لاحقا ياكوب باول فون غندلنغ (1673-1731) شغل العديد من الوظائف الأكاديمية والحكومية في عهد فريدرش الأول الملقب بـ "ملك الجنود" (1657-1713)، وعين لاحقا من قبل فريدرش الثاني (1712-1786) مهرجا للبلاط وعضوا في "مجمع التدخين" الذي كان عبارة عن حلقة تجمع رجال ونساء البلاط لقضاء الوقت في التدخين والمزاح وتناول الخمر، لكي يكون هدفا للإهانة والسخرية من قبل الأعضاء الآخرين حتى موته ودفنه في برميل للنبيذ، أعد له شخصيا إمعانا في الإذلال، ويتعرض النص في الوقت نفسه لمراحل مختلفة في حياة فريدرش الثاني وميوله الجنسية "المثلية" المقموعة نتيجة للتربية العسكرية الصارمة في ظل أبيه، ويمر على الشاعر غوتهولد إفرام لسنغ(1729-1781) الذي عايش تلك المرحلة، ناقلا إياه الى "مقبرة للسيارات" في الولايات المتحدة ليلتقي بآخر رئيس أمريكي بصحبة "لوتريامونمالدورور ملك أطلانطس"، "وسط أفواج من الكواسج" وعلى وقع موسيقى فرقة "بنك فلويد". ويعتبر هذا العمل في الحاصلة محاولة للبحث في أصول القمع الإجتماعي والجنسي، والشيزوفرينيا وفي العلاقة بين المثقف والسلطة من خلال نصوص لا يربطها أي شكل من أشكال التسلسل الزمني، وينطبق هذا على كافة أعمال مُلر في هذه المرحلة.
"جرمانيا موت في برلين": 13 لوحة مسرحية تتعرض لتاريخ المانيا في كافة مراحله بناءا على احداث تاريخية (ثورة نوفمبر وإغتيال روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنشت، صعود النازية للحكم والحرب العالمية الثانية، معركة ستالينغراد، تأسيس ألمانيا الديمقراطية وإنتفاضة العمال التى سحقتها الدبابات السوفيتية في 1953 الخ..) كما يستخدم ثيمات من الميثولوجيا الألمانية"خاتم النيبلونغ".
"ماكنة هاملت": نص مبني على كمية هائلة من الملاحظات والهوامش التي تراكمت لدى مُلر أثناء إنصرافه لأعمال شكسبير التي ترجم قسما منها الى اللغة الألمانية، وأعد قسما آخر منها للمسرح خلال عمله مع المخرج السويسري بينو بيسون(1922-2006)، ومن ضمنها "مكبث" و "حلم ليلة صيف"، كذلك "تيتوس أندرونيكوس"، غير أن أهتمامه تركز على "هاملت"، مما مكنه من إختزال كل ما أستلهمه من هذا النص في عمل مكثف وعميق، لا يزيد حجمه عن خمس صفحات، أستطاع أن يجعل منه مرآة حية لروح العصر، لا تقل غموضا وسحرا عن الأصل الشكسبيري، فهو يحتوي على فضاءات مختلفة وأزمنة مختلفة، تتداخل فيها حوارات لشخصيات خيالية وشخصيات حقيقية مع صوت الكاتب والممثلين.
"المهمة": عمل مبني على حكاية أنا سيغرز (1900-1983) "ضوء عند المشنقة"، يعود فيه هاينر مُلر الى حد ما الى طريقة السرد التقليدي، رغم تقاطعه مع جوانب أخرى فيه تحمل طابعا تجريبيا من ضمنها السرد القصصي (رجل في مصعد) والخروج على النص في إسترجاعات لتاريخ الثورة الفرنسية من خلال إنتحال شخصيتي روبسبير ودانتون من قبل شخصيتين رئيسيتين في العمل الذي تدور أحداثه في جامايكا أثناء ثورة العبيد التي تعتبر من ضمن نتائج الثورة الفرنسية. كما يبرز الكاتب أبان العمل ليتحدث عن رحلته الى أمريكا "بالأمس حلمت بأنني أسير وسط نيويورك في منطقة مهجورة لا يسكنها البيض. على الرصيف رأيت ثعبانا ذهبيا، وحالما أدرت عنه بصري وقطعت الشارع، غابة المعادن الملتهبة، وجدت على الرصيف الآخر ثعبانا مضيئا أزرق اللون."
كان لابد من التعرض بشكل مختصر لبعض أعمال مُلر التي تبلورت كإتجاه حداثي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وذلك لغرض إعطاء صورة للقاريء عن البنية الفكرية والتقنية لدى واحد من كبار كتاب تلك المرحلة المليئة بالتناقضاتومحاولات إستشفاف الجوانب الإبداعية في الكتابة والعمل الفني بهدف الخروج عن المألوف والإنغمار في ثنايا العمل الإبداعي. من هنا يبدو أن السعي المتواصل للكاتب في إستيعاب أبعاد الميثولوجيا الإغريقية وتوظيفها في أعماله، منذ خمسينات القرن الماضي، ولحد التسعينات هي جزء من توق لا يتوقف الى البحث عن أدوات تعبيرية جديدة بهدف الإلمام بمأزق الإنسان المعاصر، مع المحافظة على تألق النص المتجاوز للحدود، غير أن توظيف الميثولوجيا لم يقتصر على مجرد إعادة صياغتها في أعمال متكاملة مثل "فيلوكتيت"، وإنما جرى توظيف عناصر منها في أعمال تعالج قضايا معاصرة مثل مسرحية "البناء" المبنية على رواية "آثار الحجارة" للكاتب الألماني "الشرقي" أيريك نويتش، حيث أدخل فيها نصوصا مستمدة من الميثولوجيا (بروميثوس وسيزيف)، وينطبق هذا كذلك على مسرحية "المهاجرة أو الحياة في الريف" التي تحتوي على إشارات لأسطورة "هرقل وتنظيف إسطبلات أوغياس" -إبن هيليوس الذي كان يمتلك العديد من الإسطبلات تحتوي على ثلاثة آلاف بقرة، وكانت المهمة التي أوكلت الى هرقل هي تنظيف هذه الإسطبلات من فضلات الأبقار-. وليس من المستغرب أن يستمر إهتمام مُلر بالميثولوجيا حتى لفترة قصيرة قبل موته، إذ غالبا ما كان يستعيدها في أحاديثه وفي عمله مع الممثلين في الـ "برلينر إينسامبل". وفي هذا الإطار جاء إهتمامه بمادة ميديا التي حاول معالجتها في نصوص مختلفة، وبمراحل عديدة، حتى وصلت إلى صيغتها النهائية في "ساحل مهمل مادة ميديا منظر طبيعي مع آرغونيين"، وهو نص يتكون من ثلاث مقاطع كتب أقدمها "ساحل خرب" في بداية الخمسينات، أما أحدثها "منظر طبيعي مع آرغونيين" فقد تمت صياغته في بداية الثمانينات.
يتضح مما تقدم أن مُلر قد قطع مسافة طويلة في إتجاه الحداثة مرورا ببريشت وأنطونين آرتو، مستخدما كافة أساليب التعبير الفني لصياغة تجربة أدبية وفنية فريدة من نوعها. يقول هاينر مُلر في لقاء مع صحفي غربي حول نصوصه المسرحية: " لكل نص جديد علاقة بعدد كبير من النصوص القديمة لكتاب آخرين، وهو يؤدي في ذات الوقت الى تغيير فهمنا لها. تعاملي مع النصوص والمواد القديمة هو تعامل مع الأجيال التي ستأتي. وإذا شئت فهو تعامل مع موتى."