الطائر في عشه الأخير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كان الوجه مبتسما بطريقة دائمة لا كلل ولا ملل فيها، وكانت الأرجل الأمامية متأهبة، والأجنحة في وضع الطيران، والسماء صافية لا سحابة في زرقتها اللامتناهية، وليس في المجال إلا ذلك البناء الذي يشبه القبة، وقد يكون كذلك، والمجال كله بما فيه هو خلاصة صورة معلقة على حائط إسمنتي، كان الجد قد هرَّبها جده من حائط عتيق، والذي ما إن يذكره حتى يتشمم رائحة الصلصال تعيد إليه حيويته رغم أعراض الربو والرطوبة والسنين، معتبرا تلك الصورة رغم معارضة أبنائه تحفة أثرية جميلة وهي آخر ما تبقى من ذكريات الحيطان الترابية المباركة، التي فرّط فيها أهلها، باستسلامهم لغول الاسمنت الذي أتى على الأخضر واليابس وما بينهما.
كان الجد يجلس مقابلا ذلك الحائط الذي يحمل تلك الصورة المقدسة، وعند جناحه يتشبث الطفل مراد بن لحمامصي، وينكمش شاعرا ببعض البرد في ليلة صقيعية، وكان كجده مهوسا بتلك الصورة وهو يتشربها، بتفاصيلها الدقيقة، ويسأل جده وكل من يره أمامه بطريقة مملة، السؤال الذي يكرره في كل مرة: ماذا تمثل تلك الصورة؟، ولماذا لا يوجد ما يقابلها في الواقع؟، ومن هو المصور الذي التقتها؟، وهل فعل ذلك بكاميرا الهاتف المحمول أم بكاميرا رقمية كبيرة؟، وكان الجد الذي لا يفهم الكثير في تلك الأسئلة، وما شابهها يؤكد في إجاباته أن الصورة تمثل طائر البراق الذي حمل الرسول (صلى الله عليه وسلم) على ظهره من مكة المكرمة إلى القدس الشريف في لمح من البصر، ثم طار بها في لمح آخر إلى السماء السابعة.
ومثلما كانت صورة البراق مصيرية في حياة الجد، فلم تكن بالمقابل عابرة في حياة الحفيد مراد بن لحمامصي، بل وأصبحت حياته كلها تقريبا، فقد كان يتأملها في كل حين، وتتشكل له في الأحلام بطرق مختلفة، ولما كان يلح على أصدقائه من الأطفال بل يحدثوه ويحدثهم عن ذلك الطائر الذي يسكنه، فقد أصبحوا يطلقون عليه اسم البراق، وهم يتندرون: ماذا قلت يا براق؟، أين ذهبت يا براق؟، أقبل يا براق.....
كل تلك الصور كانت تدور في مخيلة مراد وتتعاقب، والأهم من ذلك لم تكن صورة البراق تغيب عن باله لحظه واحدة، وهو يقطع تلك الرحلة وحيدا إلا من كيسه الذي يحتوي على خلطة سحرية، لم يشك لحظة في أن تحوله إلى مخلوق آخر، وهو يربط بين طائر اللقلق وطائر البراق، رغم الاختلافات الكبيرة بين الطائرين.
ولم يكن في عدته إلا زجاجة من اللبن كان قد أخذها من ثلاجة المطبخ في غفلة من أهله، وبقايا من البن المعصور مأخوذة من القمامة التي كانت تنتظر شاحنة البلدية لترميها بعيدا عن تلك المدينة الصغيرة.
أخذ يتحسس عدته تلك، وهو يستعيد تلك الحكاية التي سمعها من أمه التي كانت تقول له أن طائر اللقلق ما كان له أن يصبح لقلقا وقد خلقه الله إنسانا، إلا عندما اغتسل باللبن المخلوط ببقايا البن المعصور، ولحظتها فقط تحول إلى ذلك الطائر الملون بالأبيض والأسود وهو لون البن واللبن، وساعتها سأل مراد الذي كان يسميه أصدقاؤه "البراق"، إن كان الحال (حال البراق) ينطبق على اللقلق؟ لكنه لا يضفر بجواب، ثم أقنع نفسه أن الخلطة السحرية تلك ستحوله إلى براق جميل، وفي النهاية أن الأعمال بالنيات.
تسارعت خطى الفتى مراد، ولم يعد يخشى مخاطر الجبل والوحوش التي تسكنه والرعاة القساة المتوحشين، وقد أصبح على مشارف تلك القمة التي تشق طريقا إلى السماء، وعندها تقدم في سيره حتى أصبح في المفترق، فوقه الطريق المؤدي إلى القمة وتحته المنحدر الخطير الذي لا يؤدي إلا إلى الهاوية السحيقة، ولم يكن يخشى إلا من تحوله إلى لقلق في النهاية وهو الاحتمال الذي خطر له فجأة، لكن مجال التراجع لم يكن واردا، وهو يخرج من الكيس عدته تلك ويخلط بقايا البن بمحتوى زجاجة اللبن، ثم ينزع ثيابه ويصبح في هيئة المولود حديثا ويشرع في الاستحمام.. ساعتها شعر بأنه تحول إلى براق حقيقي، ولم تكن الفرحة تسعه عندما قفز في الهواء وهو يحرك جناحيه بكل ما يمتلك من قوة، وعندها تنقطع الصورة.
بعد ذلك تأتي صورة أخرى من المشهد نفسه، فيها شابان في هيئة رعاة، يعثران على كيس فارغ وزجاجة فيها بقايا لبن، وملابس مرمية، وفي الجهة العليا طريق كأنه يؤدي إلى السماء وهو يشق الجبل وفي الأسفل منحدر مخيف، وحينها يصرخ أحدهم أنه يلمح في ذلك المنحدر شيء أحمر يشبه بقايا دم، فقد يكون بقايا دم طائر هالك، أو حيوان ضال، أو شخص كانت نهايته مأساوية.