ثقافات

تحنيط الأدب

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حوراء النداوي: الأدب إبداع مكفولة حريته تلقائياً و لله الحمد.. إلا أن ظاهرة أظنها جديدة قد بدأت تنال من تلك الحرية بشكل كبير مؤخراً.. تلخص بأن يسجن الأديب أو الشاعر في عمل ناجح له، فيبدأ بإعادة صياغته في عمل جديد.. و قد يحدث و ينجح هذا الجديد أيضاً، إلا أن الواقع وبعض التجارب السابقة تنبيء بأن مستقبل هذا الأديب سيكون محدد الملامح، وبالتالي محدود القبول لدى المتلقي..
أما ما أدعي أنه تحنيط للأدب فهو العملية التي تتم من خلالها اعادة قولبة أفكار، معطيات و أحياناً هيكلية العمل السابق لتسكب جميعها في عمل جديد.. و بذلك يتم تحنيط العمل الأول عبر ما مفترض به أن يكونَ جديداً.. مع غالبية الأدباء المسجونين في سجن نجاحاتهم السابقة تتكرر الحالة و للأسف، فينخرط الأديب في تكرار ينتهي بالنهاية الى الملل، سيما و أن القاريء سيبدأ تدريجياً بالتنبؤ بهذا الجديد الذي لا يحمل جديداً..
الملاحظ أن الأدباء الذين يتعرضون لهذه الحالة، هم غالباً ما يكونون جدد في عالم الأدب.. بل إن الأعمال المحنطة تكون عادةً أعمال أولى.. هنا عليّ أن أنوه أنه لا محاولة من الأنتقاص من هذه الأعمال بحد ذاتها.. فهي بالأصل على قدر لا بأس به من النجاح.. و ما يحدث هو أن الكاتب يقع في فخ ينصبه النجاح السابق له..
مثلاً، بعد أن كتب علاء الأسواني روايته الشهيرة عمارة يعقوبيان، أعقبها برواية أسماها شيكاجو كما لو أنه يريد أن يبعد عن الأذهان روايته الأولى.. و لعله قد تعمد فعلاً الإنتقال بالمكان من وسط القاهرة إلى مكان على بعد آلاف الأميال كي يضفي على روايته الجديدة روحاً مختلفة عن سطوح يعقوبيان و الزوايا الراقية فيها، و لا سيما مصريتها الشديدة.. رغم هذا يبدو لي أن يعقوبيان قد نُقلت مع الأسواني إلى شيكاجو.. فرواية شيكاجو تتمتع بنفس الأسس التي بنيت عليها يعقوبيان.. الطريقة المتبعة في سرد الأحداث هي ذاتها.. فصول قصيرة تنتهي فجأة عند حدث هام.. و هذه تقنية تشويقية قديمة و ليس فيها من جديد، و لا تعتمد بالأساس على علاقة ثقة بالقاريء أو المتلقي بشكل عام، إذ لكأن الكاتب يكتنفه خوف من ترك القاريء للكتاب على حين غرّة..
و كما في عمارة يعقوبيان يعيد الأسواني تركيبة شيكاجو، فتُبنى على أساس من قصص كثيرة و أبطال كثر لا يربط بين بعضهم البعض سوى المكان، و الذي كان في الرواية الأولى العمارة و في الثانية ولاية شيكاجو و بالتحديد الجامعة.. و الدليل على ذلك هو إختياره للمكان كعنوان لروايته الثانية أيضاً..
بل أن بعض الشخصيات كان يمكنها أن توضع في الرواية السابقة فتسكن العمارة و العكس صحيح..
لكن رغم هذه الملاحظات، فإن رواية شيكاجو قد جاءت مشوقة جداً، لإعتماد أسلوب الجذب و التشويق و لغزارة الأحدث و تدفقها الهائل و هي صفات عودنا عليها الأسواني..و لربما كانت شيكاجو رواية ممتازة بحد ذاتها لو أنها فقط إنسلخت عن تركيبة و أسس بناء عمارة يعقوبيان..إن الضرر من تحنيط الأدب قد لا يصيب المتلقي مباشرة، فهو قد يكون بدأ بقراءة العمل الثاني أصلاً، أو لعله قد يغفل هذا التكرار النوعي، أو لربما حدث و إن وعاه لكن تجاوزه ببساطة.. لكن الضرر الفعلي بادئاً ذي بديء يصيب الكاتب أو الشاعر نفسه.. إذ أن بعض الكتاب يصيبه شيء من الإعتقاد بكونه متخصص في نوعية معينة من الأدب كما أعتقد أنه قد حدث مع الدكتور منذر قباني في روايتيه.. فكانت باكورته "حكومة الظل" التي إتبع فيها أسلوباً و نمطاً تشويقياً أشبه بأسلوب و نمط دان براون، من تشويق و إثارة و حتى حيثيات القصة المروية.. و قد حدث و نجحت الرواية نجاحاًلم يُتوقع فأعقبها الدكتور بـ"عودة الغائب" التي إتبع فيها ذات الأسلوب و النمط.. هنا تجب الإشارة بأن هناك إعتقادا خاطئا، ان الروح الطاغية على نص معين لكاتب معين هي أسلوبه.. لإنها ليست كذلك قطعاً، بل هي روحه، بصمته و نبض موهبته الخاصة به هو فقط.. أما الأساليب التي له إتباعها فهي طوعه و قلمه، متى ما عاركها زادت موهبته ثقلاً و عمقاً.. فهل أسلوب نجيب محفوظ في "اللص و الكلاب" - على سبيل المثال - هو ذاته في "الثلاثية" أو "ميرامار" أو حتى في "كفاح طيبة"!! .. إطلاقاً.. ففي كل واحدة من هذه إعتمد محفوظ ما ظنه هو ملائم للرواية و للتقنية و البناء الروائي المتبعين.. و هنا تكمن العبقرية و الموهبة.. إن حالة تحنيط الأدب هذه ليس من الضرورة أن يقع في فخها الأديب، فقط عبر تقنياته أو أسلوبه المعادَين.. فهو قد يقع فيها عبر ما هو قيمة العمل الناجح.. و المثال الذي يغزو أدبنا حالياً هو قيمة الحزن، التي بات الأدباء، سيما الجدد منهم، يجترونها بشيء من المبالغة أحياناً فتبقى حالة الحزن و الأسى العامل الأساس لتفعيل هكذا رواية.. في أحزان تكون أحياناً غير مبررة، و إنما هي فقط وتر يسهل اللعب عليه لميزته العجيبة في إجتذاب القلم و حثه اليسير على فعل الكتابة دون جهد بالغ.. إذ لكأن كتابنا يفضلون الركون الى الراحة الفكرية و الكتابية.. لكن ما قيمة الأحزان الغالبة على كتابات أدبائنا حتى و إن حدث و نجحت إلى حين، إذا لم تكن في طابع خلّاق؟ و إذا كانت مجرد إجترارٍ و مماطلات كتابية؟! ما قيمة كل روايات و أشعار الأحزان أمام رواية عملاقة مثل " الإحتقار" لألبرتو مرافيا و فكرتها الرائعة.. التي تجاوزها مورافيا بسهولة منتقلاً لموضوع مختلف تماماً في رواية "السأم"، و إنها لعبقرية إبداعية أن يتوقف خيال كاتب أمام حالة مصابة بالرتابة و القعوص من الأساس ليصنع منها رواية لا تشبه غيرها.. إنه لمن حقنا كمتلقين أن ينسكب علينا هؤلاء الأدباء بطرق مغايرة و مختلفة، فالمواهب لا تمنح من الله مؤطّرة منذ البدء.. إذن فإنه من حقي كمتلقية أن أشتهي نصاً فيه ديناميكية و فرح لأحلام مستغانمي مثلاً.. و من حقي أن أشتهي قراءة قصيدة غزل لأحمد مطر، الكبير الذي سجنته لافتاته إلى أجل غير مسمى..
و بالتالي فإنه لمن حق مواهب الأدباء عليهم أن يطلقوها بشتى الأساليب و التقنيات و الثيمات الممكنة و المتأتية، دون الاعتقاد بأن النجاح حكر على طريقة واحدة و أبدية..

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تحنيط215;تحنيط
الروائي صلاح مطر -

سيدتي حوراء.. تحدثت عن تحنيط الكاتب لنفسه ومعك كل الحق، لكن ما حيلة مفلس "فبرك" مجموعة من الأحداث التافهة وسردها بطريقة هشة مقززة مع "خلطة" من بهارات الجنس والإرهاب، ووجد من يطبعها له في كتاب قالوا عنه رواية، وجند مجموعة يسمون أنفسهم نقاداً هللوا له؟ لا لوم عليه-إذاً- في أن يكرر الفبركة المقززة إياها، والضحية هو القارئ، والقتيل هو الأدب العربي!!

عنصر المكان
حامد حميد -

إن نجاح الكاتب الروائي يكمن في توظيفه عنصر المكان الذي يعد محوراً من المحاور الأساسية التي تشغل نقاد الأدب اليوم،ولكن الوعي المتزايد بأهميته في الأدب جعله يتخطى كونه مجرد بؤرة تقع فيها الأحداث الدرامية،كما أنه لم يعتبر معادلاً مجازياً للشخصية الروائية فحسب،إنما أضحى عنصراً تشكيلياً من عناصر العمل الفني.فتفاعل المكان وصراعه يكونان البعد الجمالي للنص الأدبي.فهناك المكان الذي يحيا فيه الفرد عالمه وطقوسه الخاصة فهو بالنسبة له يعتبر مكاناً حميمياً صرفاً.والمكان الخارجي الذي يقع في ظله هذا الفرد تحت تأثيرات الآخرين فتارةً نجده يرفض هذه التأثيرات وأحياناً يسلّم بها.وهناك المكان اللامحدود الذي يكاد يكون مقفراً من البشر.إن هذا الضرب من الأماكن يقترن بالمغامرة المفتوحة والحرية المسرفة وابتكار الأشياء الجديدة بدافع من لذة الإكتشاف لذلك يأتي فيه العمل الفني هلامياً مرتدياً رداءً مهلهلاً فضفاضاً يضيع فيه جسد التجربة ويفقد النص الروائي تماسكه ولايعود يخضع الاّ للاستطراد الحر الذي يجعله متهدلاً ومتراخياً في آن معاً. شاعر عراقي