ثقافات

أماني خليل.. سردية أخاذة.. ورعد هاديء.. وتستمر الحياة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
جورج جحا منبيروت - في قراءة رواية "رشة ملح" للكاتبة المصرية اماني خليل تسيطر على القارىء قدرة جذابة على السرد ومشاعر متعددة تنتج عما نتوهم في البداية انه موضوعات "تقليدية" لنكتشف من ثم ان التقليدي يتحول مع الكاتبة الى مرادف لما نسميه "الانساني" الراسخ والدائم.تكتب اماني خليل بهدوء يبدو خالصا في صفائه احيانا وفي احيان اخرى تنقل الينا اجواء من الرعود التي يخيل الينا اننا لا نستطيع ان نصفها الا بتعبير ربما بدا غريبا اي بالقول انها "رعود هادئة".انها هادئة لكنها ليست خرساء ولا مكتومة ولا هي مدجنة. اما القدرة على هذا الارعاد الهاديء فيبدو انها تأتي نتيجة غور في معرفة تناقضات الحياة وفي الامال والالام والمشاعر الانسانية ومختلف اشكال الظلم وفي النبيل والدنيء اللذين نواجههما في الحياة. الا ان كل ما في هذه الحياة من اسود وابيض ومن الوان متعددة اخرى ينجدل في نسيج غريب حلو فيه تعزية وامل وربما استطعنا اختصاره بالقول المعروف "..وتستمر الحياة."وتبدو لنا اماني خليل في روايتها هذه كأنها تتناول كثيرا من مشكلات ومشاعر انسان مجتمعاتنا العربية عامة من خلال الخاص اي المجتمع المصري وبين تلك المشكلات والمشاعر "الموروث" المتكرر في اشكال مختلفة ومنها الحديث الذي اسهمت في صنعه تطورات طرأت على عالمنا سياسيا واجتماعيا ثقافيا واقتصاديا.واذا كان التقليدي يبرز بوضوح في عالم الريف وفي الصعيد تحديدا ففي المدينة تعمل "ديالكتيكية" من نوع خاص ففيها يتواجه التقليدي والحديث.. ابن التراث والاصالة والاوهام مع ابن الانفتاح والثروات و"البراجماتيكية" والقيم الجديدة يتصارعان هنا وينصهران هناك. ويبدو لنا اكيدا انه اذا استمرت الحياة فهذا لا يعني زمنا سكونيا نهائيا لان الدورة "الازلية" لا بد من ان تعود وما تلك السعادة او العزاء الا "استراحة" مؤقتة في مسيرة الانسان.أما "رشة ملح" وهي ثالث عمل لأماني خليل بعد رواية ومجموعة قصصية فقد جاءت في 135 صفحة متوسطة القطع لكنها صغيرة الحروف. وقد صدرت عن دار شرقيات للنشر والتوزيع في القاهرة.تتناول الرواية عدة شخصيات في امكنة مختلفة وزمن متقارب. الامكنة الرئيسية هي الصعيد والقاهرة والاسكندرية. اما الزمان فهو اجمالا الحقبة الممتدة سنوات من اواخر ثمانينات القرن العشرين. وعلى رغم اختلاف اوضاع كل من هذه الشخصيات فهي تواجه مشكلة اساسية متشابهة تتكرر في اشكال مختلفة وفحواها ان بين ما هو كائن وما يجب او نود ان يكون هوة واسعة ورهيبة. هل نستطيع ان نعبر فوقها لنصل بكرامتنا وجهدنا الشخصي اساسا فنبقى نحن "نحن" ونبقي على احترامنا لذواتنا ام ان علينا ان "نتغير" فتزول الهوة بسرعة وتعبد الطريق ونصل الى اكثر مما كنا نحلم به؟بعض هذه الشخصيات استطاع العبور دون التفات الى خلف وبعض منها صعب عليه الامر بل استحال لانه اعتقد -وعلى عكس ما جاء قديما- انه في عبوره الى الامام بطريقة لا ترضي ما في نفسه.. فهو عند ذلك سيتحول الى عمود من الملح. ولا بد من الاشارة الى سمة بارزة عند الكاتبة وهي انها لا تقسو على شخصياتها حتى تلك "المخالفة" بل انها تعاملها بحنو وامومة مبرزة نقاط ضعفها ومواطن طيبتها وترسمها في صور ضحايا ظروف تبدو اقوى منها.بعض من عبر من هؤلاء الاشخاص كعبد الهادي مثلا فعل ذلك كما يبدو من اجل نفسه اساسا. كثير منهم تحول من تغييري ثائر الى واحد من اعضاء "المؤسسة.." كما يقال في الانجليزية. ومنهم وبشكل خاص "زينة" التي فرض عليها تناسي قصة حبها والزواج بمن لم تكن تريده.. من فعل ذلك في شبه إكراه. ولكنه وجد ان عبوره الرهيب حمل سعادة للاخرين كما في قصة حمل زينة من غير زوجها فلقي بذلك عزاء ثم قدرا من السعادة هو نفسه. ومنهم مثل "الطيّب" من لم يستطع ذلك فابتعد مكرها عن قصة حبه مع زينة عندما كان في بلدته في الصعيد. وفي القاهرة ابتعد وهو الكاتب والصحافي الجريء الموهوب عن التزلف والمراوغة فاكتسب عداء رئيس التحرير واخرين ولم يستطع ان يقبل حتى العبور الى "عبلة" التي احبته واحبها كما يبدو وذلك بسبب ثروة ابيها التي قال عنها الطيب انها جمعت بطرق شائعة مقززة يرفضها هو. لقد "انكسرت" المباديء وانكسر الطيب نفسيا وصحيا نتيجة كل ذلك.ومن هؤلاء "سهام" الذكية والثائرة سياسيا والجريئة "اجتماعيا" في ممارستها ايمانها بالمساواة. انها زميلة الطيب في الجريدة وقد احبته بجرأة وباخلاص. الا انها دفعت ثمن جرأتها التي دفعت بها الى انشطة سياسية اي الى الاشتراك في تظاهرة اوصلتها الى السجن. هناك اضطرت الى القبول بالتصرف "بدبلوماسية" من خلال قبول نصائح محاميها للخروج من السجن.اما عبلة فهي آتية من "الضفة" الاخرى اي من خط سير معاكس. انها ابنة الثروة التي جمعها والدها وابنة حياة الترف. لكنها احبت الطيب الذي ابتعد عنها وكانت على استعداد لان "تعبر" الى ضفته لحبها له. الا انه كما كان قد رفض فكرة الانتقال الى حيث طبقتها رفض ان يتقبل ايضا عبورها اليه.تصف لنا اماني خليل "زينة" التي كانت اسيرة منزلها في انتظار زوجها الذي كان على قدر كبير من الطيبة فلم يرض بان يتزوج باخرى كي تنجب له. تصف لنا حنينها الى زيارة امها في بيتهم القديم. تقول في غور جميل الى النفس وفي رومانسية شعرية دافئة قادرة على احياء الاشياء الجامدة "هي لا تريد امها انما البيت.. جدرانه المتهالكة.. اثاثه القديم الرث وارضه المتربة. هذا ما تريد ان تراه.. ان تلامسه وتحتضنه بعينيها."شيء اخر هناك لا تعرفه وتتوق اليه. شيء في هواء البيت. رائحة طيبة مختلطة برائحة التراب ورائحة الخبيز. رائحة العجين المختمر واقراص العيش مرصوصة بجوار الجدار تسقط عليها اشعة الشمس بحب وحميمية... البيت القديم فيه دفء لا تجده الا هناك.. حتى بعد موت ابيها ظل هذا الدفء وهذا الشيء الغامض يجذبها الى هناك فتظل تتمنى وتتمنى ولا تحصل على ما تتمناه.. وابدا لا تكف عن التمني."وايضا عن زينة التي شكلت امتدادا "روحيا" في الرواية كلها نقرأ صورا اخرى رسمتها الكاتبة في نهاية الرواية بعد ولادة الطفل الذي جاء ثمرة ما كان اقرب الى الاغتصاب ثم حولته الحياة الى مصدر سعادة وخلاص.تقول "ضج البيت بالزوار.. صراخ العيال وضحكاتهم تضاعف الزحام. النسوة مجتمعات من كافة الاماكن. اقرباء وجيران وسيدات لم ترهن زينة في حياتها... تملأ البسمة وجهها بعد ان عاد الوليد الى حضنها. أتم ايامه في الحضانة بالمستشفى فاكتمل نموه واصبح صحيحا يبشر برجل المستقبل. "حجاج " اطلق عليه ابوه هذا الاسم. ما أحبت هذا الاسم ولكنها لا تملك الاختيار. في نفسها اسمته الطيب. تمنت لو كان الولد بنتا... الخيرة في ما اختار الله. الولد ظهر وسند. الحمد لله الذي اتم نعمته وراضاها ولم يحرمها من الفرحة التي منت بها نفسها..."(رويترز)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف